من طقوس البيت والعائلة .. إلى السهرات الفنية الصاخبة
ديربورن ذ إبتسام خنافر
لا تُعدّ ليلة رأس السنة في المجتمع العربي الأميركي بمنطقة ديترويت، مجرّد مناسبة احتفالية بنهاية عام وبداية عام جديد، بل يمكن وصفها بمرآة تعكس تنوع الجالية بأجيالها وتقاليدها وذاكرتها الجماعية.
هي ليلة مركّبة، تتقاطع فيها العائلة مع المجتمع، والخاص مع العام، والحنين مع الفرح والأمل، في مشهد يعكس تجربة العرب الأميركيين في وطنهم الجديد: كيف حافظوا على جذورهم، وكيف يعيدون صياغة طقوسهم بما ينسجم مع الواقع، دون أن يفقدوا روحهم الأولى.
من السهرات المنزلية التي تلمّ شمل العائلة والأقارب والأصدقاء، إلى حفلات الموسيقى العربية التي تستحضر أجواء السهر في الوطن الأم بطربها وصخبها، وصولاً إلى الاحتفال على الطريقة الأميركية والسفر جنوباً للاستمتاع بالطقس الدافئ… لا يمكن فصل رأس السنة عن الإحساس العام بالزمن ومتغيّراته داخل الاغتراب.
فاختيار المكان، وتوقيت الخروج من المنزل، ونوع الموسيقى، وحتى طبيعة الجلسة، تتحوّل كلها إلى إشارات اجتماعية تعبّر عن تحولات الجالية وعلاقتها بماضيها وحاضرها، وبالمحيط الذي تعيش فيه.
العائلة أولاً
قبل حلول منتصف الليل، تبقى البيوت العربية العنوان الأول الذي لا يمكن القفز فوقه، حتى للشباب المتحمسين للسهر خارجاً. العائلة تجتمع حول مائدة واحدة، أطباق تحمل روائح المطبخ الأول، أحاديث عن سنة مضت بتعبها ونجاحاتها وخيباتها، وأمنيات لسنة مقبلة. لحظة العدّ التنازلي قد لا يحضرها الجميع، ولكنها تبقى أسعد اللحظات التي يعيشها الآباء والأجداد وهم يتبادلون القُبل والأمنيات مع الأبناء والأحفاد.
وبسبب كبر العائلات ومحافظتها على الروابط الأسرية من جهة، غالباً ما يتوجه الكثيرون إلى المطاعم الكبيرة للمّ الشمل هناك، حول عشاء منظّم وهادئ. بعضهم يستأجر قاعات منفصلة لاستيعاب الجميع بخصوصية.
يقول علي شمّوط، صاحب مطعم الابيتاب، إن مفهوم الفرح نفسه تطور مع تغيّر إيقاع الحياة في الاغتراب،. مشيراً إلى ازدياد الإقبال على حفلات العشاء المنظمة في القاعات أو المطاعم، لما توفّره من راحة وتنظيم وخصوصية، لاسيما عندما يكون الحضور من العائلات.
وأوضح شمّوط أن هذا الخيار يمنح العائلات فرصة الاحتفال دون عناء التحضير أو القلق بشأن التفاصيل، مع الحفاظ على أجواء مريحة ومحترمة، مؤكداً في الوقت نفسه أن المسألة تبقى ذوقاً شخصياً بين من يفضّل دفء المنزل ومن يجد في الخروج جزءاً أساسياً من معنى المناسبة.
بعد منتصف الليل
بالنسبة لصاحب قاعة ابيلاجيوب الشهيرة في مدينة وورن، لا تُقرأ ليلة رأس السنة كمناسبة تنظيمية عابرة، بل كمرآة اجتماعية تعكس بدقة سلوك الناس مع الدقائق الأولى من العام الجديد، يتّسع الاحتفال فجأة: هناك من يتّجه إلى القاعات الكبرى ليكمل السهرة بعد منتصف الليل. وكأن الاحتفال يبدأ من البيت ومع العائلة احتراماً للجذور، ثم يتحوّل إلى فعل جماعي صاخب يعبّر عن حاجة أوسع للّقاء والمشاركة الاجتماعية.
يقول إيهاب إدور: اإن هذه الليلة تكشف بوضوح طريقة تفكير أبناء الجالية في علاقتهم بالبيت والمجتمعب، موضحاً أن الكثيرين يريدون أن يبدأوا السهرة في البيت، لكنهم لا يريدون أن يُنهوا ليلتهم هناك.
وأشار إدور إلى أن الذروة الحقيقية للحضور تبدأ عادة بعد منتصف الليل، حين يؤدي كثيرون اواجب العائلةب، ثم يتجهون إلى القاعات للاحتفال ضمن إطار اجتماعي أوسع، لافتاً إلى أن امن يأتون بعد منتصف الليل لا يأتون بدافع الفضول، بل يأتون اأخفّ نفسياًب بعدما أدّوا اواجب البيتب تدفعهم الرغبة بإكمال الاحتفال في مساحة عامة يشعرون فيها بأنهم بين أهلهم أيضاًب.
وقال إدور إن سهرات رأس السنة في منطقة ديترويت باتت ظاهرة عابرة للولايات، موضحاً أن قاعة ابيلاجيوب اعتادت أن تستقبل ضيوفاً يخطّطون سفرهم إلى ميشيغن خصيصاً لهذه المناسبة، الما توفّره من خيارات متعددة ومشهد متكاملب.
وبحسب صاحب القاعة الكائنة على شارع الميل الرابع عشر، تجاوز عدد الحجوزات لسهرة رأس السنة هذا العام 1,500 شخص، حيث سيحيي الحفل الفنانان سيف نبيل ومحمود التركي، افي واحدة من أضخم السهرات العربية في الولايات المتحدةب.
ورغم ضخامة العدد، يؤكد إدور أن السهرات العربية عادة تحافظ على الطابع العائلي.
أجواء فريدة
في ادون ڤي لاونجب، حيث يلتقي السيجار بالأركيلة في مدينة غاردن سيتي، تتخذ سهرة رأس السنة طابعاً مختلفاً.
يقول وائل مهنا ووليد مراد، مالكا المكان، لـاصدى الوطنب، إن فكرة اللاونج تقوم على إيجاد مساحة اجتماعية تشبه الناس، لا تفرض عليهم إيقاعاً لا يريدونه، اهنا، لا يُقاس النجاح بالحجم أو الصخب، بل بعدد الوجوه التي تعود عاماً بعد عامب.
وأشار الشريكان إلى أن البساطة اخيار واعٍ، لا نتيجة نقص في الإمكانياتب، وأن هناك شريحة من الجالية تبحث عن موسيقى قريبة من القلب وحوار ولقاء صادق.
وفي برنامج هذا العام، يحيي السهرة الفنان أحمد سلمان إلى جانب مجموعة من فناني الجالية.
حفلة كبيرة
في اغرينفيلد مانورب بمدينة ديربورن، لا تُحضَّر سهرة رأس السنة في أيام قليلة، بل يبدأ التخطيط لها قبل أشهر. وفي حديثها لـاصدى الوطنب، قالت نينا بزي، مديرة العمليات، إن هذه الليلة تُعامل كمناسبة اجتماعية كبرى لا تخاطب جمهوراً واحداً أو ذائقة واحدة.
وتضيف بزي: انحن نعمل على برنامج يراعي وجود العائلة بكل أجيالها في المكان نفسه. الموسيقى، التنظيم، وتوقيت الفقرات كلها مدروسة بحيث يشعر الجميع أنهم جزء من اللحظةب. وتشير إلى أن عائلات كثيرة تسافر من ولايات بعيدة خصيصاً لهذه الليلة، وتحجز الفنادق كما لو كانت في زيارة قصيرة للوطن، معتبرة أن ذلك ايحمّلنا مسؤولية مضاعفةب.
وعن اختيار الفنانين، توضّح بزي أن اختيار نجم السهرة هذا العام، الفنان الوليد الحلّاني لم يستند فقط إلى شعبيته الكبيرة، بل إلى قدرته على مخاطبة أكثر من جيل في الوقت نفسه. وأضافت انريد أن يلتقي الشباب والكبار في مساحة واحدة. عندما نرى العائلة تغادر وهي تشعر أنها التقت فعلاً، نعرف أننا نجحناب.
ولا تعتبر اغرنيفيلد مانورب وابيلاجيوب القاعتين الوحيدتين اللتين تستقطبان الزوار العرب الأميركيين من مختلف أنحاء الولايات المتحدة وكندا، بل هما جزء من مشهد أوسع تبرز فيه منطقة ديترويت كمركز رئيسي لاحتفالات رأس السنة، ليس فقط بسبب الكثافة العددية للجالية هنا، بل نتيجة تجربة تراكمية جعلت من الحياة الترفيهية في المنطقة مقصداً لهواة السهرات العربية.
الذاكرة قبل الصخب
يؤكد صاحب قاعة ابيبلوسب في ديربورن، جو بزي، أن فلسفة تنظيم حفلات رأس السنة تقوم على الاستمرارية، إذ تعود العائلات نفسها عاماً بعد عام، ما يفرض امستوى مختلفاً من المسؤوليةب، موضحاً أن االتفاصيل الصغيرة ذمن الاستقبال إلى الإيقاع العام للسهرةرتصبح جوهرية، لأن العلاقة هنا مبنية على ثقة متراكمةب.
وفي سهرة هذا العام، يحيي الحفل الفنانان بسّام صالح وأنور الأمير، ضمن برنامج فني جرى تصميمه بعناية ليخاطب مختلف الأجيال، ويوازن بين الأغاني التي تستدعي الذاكرة وتلك التي تخلق فرحاً جماعياً دون ابتذال.
ويرى الفنان بسّام صالح أن الغناء في رأس السنة داخل الجالية العربية يحمل مسؤولية خاصة لا تشبه أية حفلة أخرى، االناس لا تأتي فقط لسماع الأغاني، بل تحمل معها عاماً كاملاً من المشاعر: تعب، حنين، قلق، وأحياناً خسارات شخصيةب، حسب قوله لـاصدى الوطنب.
ويضيف أن االفنان في هذه الليلة تحديداً لا يقف أمام جمهور فحسب، بل أمام قصص وتجارب، ما يفرض حساسية خاصة في اختيار الأغاني وطريقة التقديمب، اأحياناً أغنية واحدة تعيد شخصاً بالذاكرة إلى عرس قديم، أو إلى بيت تركه منذ سنواتب.
ويؤكد صالح أن أجمل ما في هذه السهرات هو تواجد الأجيال المختلفة في المكان نفسه، معتبراً أن انجاح الليلة لا يُقاس بالتصفيق أو الأرقام، بل بقدرة الأغنية على مرافقة الناس في لحظة انتقال حسّاسة، وأن يغادروا وهم بحال أفضل مما كانوا عليه عند وصولهمب.
فرصة تلاقٍ وتصالح
يرى رجل الأعمال عبدالله هاشم أن احتفال رأس السنة بات مساحة مصالحة اجتماعية بامتياز بين الأحباء الذين فرقتهم سرعة الحياة اليومية أو الحساسيات التي لم تعالج قط، اففي هذه الليلة، تزول الحواجز. أشخاص ربما لم يلتقوا طوال السنة، أو كانت بينهم خلافات، يجدون أنفسهم في المكان نفسه، يتبادلون التهاني ويبدأون من جديدب.
ويشير هاشم إلى أن هذا المشهد لم يكن موجوداً بالشكل نفسه في السنوات الأولى من الهجرة، حيث كانت الخيارات محدودة والجالية أصغر حجماً. اأما اليوم، فكبر المجتمع، وتنوّعت الأماكن، وأصبح الاحتفال تعبيراً عن استقرار الجالية وثقتها بنفسهاب.
ويؤكد هاشم أن لهذه الأجواء أثراً عميقاً على الجيل الجديد، موضحاً أنه اعندما نصطحب أبناءنا إلى هذه السهرات، هم لا يستمتعون بحفلة فقط، بل يتعرّفون على لغتهم وثقافتهم وأجواء الفرح التي تشبه الوطن. وهذا يخلق ارتباطاً حقيقياً نلمسه لاحقاً في تمسّكهم بالهويةب.
حتى في ميامي
على خطٍّ موازٍ لسهرات منطقة ديترويت، لا يغيب خيار السفر عن خريطة احتفالات رأس السنة بالنسبة لأبناء الجالية العربية، لاسيما الميسورون منهم.
ولكن حتى إن هرب هؤلاء من برد ميشيغن إلى الولايات الدافئة جنوباً، فإن الكثيرين منهم سيحرصون على حضورر حفلات عربية في ليلة رأس السنة، يحيها أيضاً فنانون من ميشيغن
في هذا السياق، قال أحمد حاطوم لـاصدى الوطنب إنه سيحيي حفلة رأس السنة مع الجالية العربية في منطقة ميامي بولاية فلوريدا، في حدث يعكس تنوّع خريطة الاحتفالات العربية الأميركية، مع الحفاظ على الفكرة نفسها: لقاء الجالية، والاستمتاع بالموسيقى العربية، واستقبال السنة الجديدة بروح جماعية.






Leave a Reply