فاطمة الزين هاشم
إنّها ليست قصّة، بل هي مأساة حقيقيّة من الواقع، فليس الذي يحصل فـي حياة الناس العاديين ما يثير الانتباه، وإنّما الذي يحصل للضحايا منهم، وإليكم الحكاية:
فتاة بعمر الورود تنضح حيويّةً وعنفواناً، عيناها زرقاوان واسعتان تنبئان عن ذكاء حاد، هربت من الملجأ بعد أن ضاقت ذرعاً من القيود والتعليمات الصارمة، حيث نفرت منها رغم أنها كانت تصبّ فـي مصلحتها، انطلقت إلى الشوارع، قطرات من نثيث المطر تساقطت من لفائف شعرها الأشقر فوق منكبيها العريضين، أفلحت فـي تفادي نظرات المارّين بها من على الرصيف مثلما أفلحت فـي تجاهل نظرات الرجال الذين كانوا يرشقون جسدها بنظرات جائعة.
كانت تمشي وهي تطلق سيلاً من اللعنات على حظّها العاثر بعد أن أخذ مزاجها يعلو ويهبط على إيقاع تذمّرها، فتّشت عن عمل فقادتها خطاها إلى مصنع للخياطة تمتلكه سيّدة ثريّة، فأسكنتها مع بعض العاملات فـي بناية ملحقة بالمصنع، سارت الأمور على ما يرام إلى أن تعرّفت على شاب يعمل فـي تصليح وصيانة مكائن الخياطة، تبادلا نظرات الإعجاب فتواعدا على اللقاء الذي تكرّر لأكثر من مرّة فـي الأسبوع، حتّى بادرها يوماً بصراحة السؤال عمّا إذا كانت تحبّه، تلقّت الكلمة وكأنّها آهة، إذ شعرت بحيرة جعلتها تحتدم فـي داخلها، ولم تتجاوب معه فـي بادئ الأمر، فاحتجّ عليها بأنّها فـي هذا العناد تدمّر نفسها، لكنّها أجابته بأنّها ليست كذلك، وإنّما تريد أن تبقى حرّة وتحيا مع أفكارها ونفسها، ثمّ أردفت: «أتمنّى لو تتركني»، فأجابها: «لو تركتك لشأنك فسوف تدمّرين نفسك، أهذا ما تريدين؟ أنت منجذبة إلى تدمير الذات كانجذاب الفراشة للضوء»، أحسّت بأنّ قواها بدأت تنهار مثلما شعرت بتحجّر العاطفة فـي تلك اللحظة فأصابتها حالة من الضيق والنفور وهي المفعمة بالحيويّة والنشاط.
علمت صاحبة المصنع بالعلاقة بينهما فأقنعتها بالزواج من هذا الشاب لسمعته الطيّبة وجدّيته فـي العمل وحاله الميسور، وافقت الفتاة لأنّ براعم الحب بدأت تظهر إلى النور، فخطّطا لحفل الزواج بعد أن استأجرا شقّة لعشّ الزوجيّة وشرعا فـي اختيار الأثاث المناسب حتّى جاءت ساعة الصفر، حيث طلب منها التعرّف إلى أهلها بغية طلب يدها كما تتطلّب الأعراف والتقاليد السائدة، تسمّرت الفتاة فـي مكانها وحارت فـي أمرها بمَ تجيب وكيف تتخلّص من هذه الورطة اللعينة، ألحّ عليها بإصرار: «من هم أهلك يا حبيبتي؟ ماذا أصابك؟»، فطغى على وجهها الوجوم وتلعثمت إذ بماذا تجيب؟ فمازحها قائلاً: «هل أنت لقيطة أليس لك أهل؟» ولم تتمالك نفسها حتّى صرخت بأعلى صوتها: «نعم أنا لقيطة، وهربت من الملجأ فجئت إلى هنا».
صعق الشاب وشزرت عيناه فـي بروز مخيف مصوّباً نحوها نظرة دونيّة مشوبة باستهزاء مزرٍ، بينما رمقته هي بنظرات ملؤها الحيرة والذهول، كان ينتظر اعترافاً منها بالذنب إن لم يكن اعتذاراً، ولكن على الرغم من ذلك فإنّ الاعتراف لم يتحقّق لأنّ ليس لها يد بارتكاب الجريمة أو «الغلطة» التي ارتكبها من لا تعرفهما ودمّرا حياتها هي. تركها تتخبّط وتنتحب، من دون رحمة أو انسحاب إنساني، بعد أن أشبعها تجريحاً وطعناً فـي صميم كرامتها معاقباً إيّاها على فعل ليس من صنعها، فهل يعاقب الإنسان على خطأ ارتكبه غيره؟
Leave a Reply