مريم شهاب
حين تبدأ الاحتفالات والإعلانات، كل سنة بحلول عيد العشاق، أو عيد القديس فالنتاين، ويتبادل المحبون كلمات الحب والرسائل المعطرة، على الطريقة القديمة، أو بواسطة الأقمار الاصطناعية والهواتف الذكية وتعابير الإيموجي وغيرها من الحيل العصرية، لا يمكنها تجاهل الحزن الذي يطفو إلى رأسها حين تكون وحدها، أين يختبىء؟ وكيف يتسلل هذا الشعور البغيض إلى تلافيف روحها وينخرها عميقاً ويحفر في أعماقها ندوباً من الحقد والغضب الأعمى تجاه رجلٍ كانت غايته تحطيمها حين تركها لحياةٍ أخرى وهجر ابناً يعيش بدون أب؟
الحب؟ أين الحب؟ تتساءل حين تجلس على الأرض وتفك رباط حذاء طفلها وتنزع جواربه وتمسك قدميه وتقبلهما وتغسلهما بدموعها، ليس بسبب حبها الشديد له وحسب، بل لأن بها رغبة إلى الشفاء من أحقادها والتخلص من خيالات سوداوية عن الانتقام من رجلٍ سبَّب لها طعنة ألم مبرح في قلبها، وتتمنى له الموت. فاليتم قد يكون أفضل لابنها من هجران والده له.
الولد كبر، وكان يشعر بمعاناة أمه وقد ملأها الغضب والحقد. يريد إنقاذها لكنه لا يعرف كيف. كان يتألم حين تتمادى في لحظات اليأس في التحدث عن والده بالسخرية والسوء. كان ذلك يؤلمها أيضاً، فتكره نفسها. لم تكن تعرف أن الطفولة لا تعرف الحقد.
في لحظات، حين تمسك يدي ابنها أو حين تتأمله نائماً كالملاك، أو حين يناديها بالكلمة السحرية: ماما، كان يفارقها الحقد فتتبدّل أحاسيسها ويهدأ الغضب في أعماق روحها فتطمئن نفسها بأن ابنها وحده هو عالمها، فتشعر بأنها تخلصت من ألمها.
ثم يأتي عيد الحب. سألها ابنها ذات سنة: أمي هل أحببت أبي يوماً؟ فاجأها السؤال، لم تكن تتوقعه، وجدت نفسها عاجزة عن السيطرة على استيائها وغضبها من إهمال والده لها ولامبالاته بابنه كل تلك السنوات، فانهالت عليه تسفيهاً وكلاماً مسموماً، فما كان من الولد إلَّا أن رمى بطاقة كانت بيده وصرخ بكل ألم: اسكتي، ما ذنبي أنا؟ وركض إلى سريره يدفن رأسه في الوسادة باكياً: لا أريد أن أسمع صوتك.
لم تتوقع سماع هذه الكلمات منه وشعرت كم هوت في درك غضبها. ولكن .. ما نفع الندم؟
بدا كل شيء حولها متجهماً وغارقاً في الحزن، لم تعد قادرة على تحمّل دموع طفلٍ لا ذنب له في صراع الكبار.
غطت الأم عينيها المتورمتين وكأنها تعاقب نفسها بعد طردها من جنة طفولة صغيرها، قالت له سأحكي لك قصة، أريد أن أبوح لك بما في صدري.
في قديم الزمان كان هناك شاب جميل، أصيب بمرض خطير أفقده البصر. وكان والده رجلاً ثرياً، واستدعى أشهر الأطباء لعلاجه. لم ينجحوا. ومن شدة الألم واليأس لجأ إلى السحرة والمشعوذين، فعجزوا أيضاً، ونذر نذوراً كثيرة لم تنفع، وبقي الشاب أعمى.
ذات يوم، تسللت إلى القصر امرأة فقيرة تحمل كيساً صغيراً، وقالت إن فيه دواءً يشفي الشاب. أراد الحراس منعها، لكن الأب المنكوب سمح لها بالدخول وسألها عمَّا في الكيس، فقالت فيه كعكة الحب. وجدها الأب كعكة عادية: هل هذه ستعالج ابني بعد أن عجز كل هؤلاء؟ قالت له: نعم، لأن هذه الكعكة مصنوعة من طحين ودموع أم، بدلاً من الحليب.
أجل.. دموع أم نادمة، أعادت للصبي بصره.
Leave a Reply