كانت الحروب الأهلية اللبنانية، توصف بأنها حروب الآخرين على أرض لبنان، كما كان الحل لها يرتبط بحل الأزمات الأخرى في المنطقة، فكانت الساحة اللبنانية تدور عليها «الحرب الباردة» بين القطبين العالميّين أميركا والاتحاد السوفياتي، وتمّ تفجير الأحداث في مطلع العام 1975 على خلفية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي نقلته منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها إليه نهاية الستينات، كما أن اللبنانيين تقاتلوا في لعبة المحاور بين مشروعي «إيزنهاور» الأميركي وحلف بغداد الناشئ عنه في خمسينات القرن الماضي، وبين المشروع الناصري الذي كان يمثّله الرئيس جمال عبد الناصر بفكره القومي العربي الوحدوي.
وما يقال عن المعارك في طرابلس، بأنها تحوّلت الى صندوق بريد للقوى الخارجية من سوريا الى إيران أو ما يسمى بالمحور المقاوم والممانع، في مواجهة محور آخر ترعاه السعودية وقطر وتركيا، هو واقع صحيح، وأن عاصمة الشمال سبق لها وفي حروب سابقة عاشت صراع المحاور في ثمانينات القرن الماضي، عندما خرج رئيس حركة «فتح» و«منظمة التحرير» من بيروت إثر الغزو الصهيوني للبنان في صيف 1982، ليعود بعد أشهر في مطلع عام 1983 من منفاه في تونس الى طرابلس بحراً، فحصل الصدام بينه وبين النظام السوري في عهد الرئيس حافظ الأسد، حيث خاض الطرفان حروبهما على أرض لبنان، بسبب الصراع على مَن يملك القرار الفلسطيني، إذ كان «أبو عمار» يرفع شعار استقلالية القرار، في مواجهة مقولة كانت سوريا تطرحها وهي قومية المعركة ضد العدو الصهيوني، حيث كان من نتائج هذا الصراع حصول انتفاضة قام بها العقيد «أبو موسى» وهو من قيادات «فتح» العسكريين البارزين في «فتح» وحصلت معارك سيطرة على مخيمات الشمال في نهر البارد والبداوي، حيث حُسمت المعركة لصالح «فتح- الإنتفاضة» بقيادة أبو موسى، وحوصر عرفات في طرابلس التي لقي فيها إحتضاناً من «الجماعة الإسلامية» التي تدين بفكر «الإخوان المسلمين» الذين كان «أبو عمار» منهم أثناء دراسته في القاهرة، ويتهمه النظام السوري أنه كان وراء التمرّد المسلّح لـ«الإخوان المسلمين» في حماه منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي حيث معقلهم الأساسي في سوريا، وقد لجأ هؤلاء الى طرابلس حيث التقاهم رئيس «فتح» ليستكمل المعركة ضد سوريا من عاصمة الشمال التي ظهرت فيها حركة «التوحيد الإسلامي» التي لقيت دعماً من «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، وعبرها خاضت في الثمانينات معركة اجتثاث حزب «البعث العربي الإشتراكي» الموالي للعراق برئاسة النائب السابق عبد المجيد الرافعي، وكان أقوى الأحزاب في المدينة، لتستكمل المعركة فيما بعد ضد الحزب الشيوعي ثم الحزب السوري القومي الاجتماعي، وتحوّلت طرابلس الى «إمارات إسلامية» بقيادة الشيخ سعيد شعبان والشيخ هاشم منقارة اللذين خاضا معارك ضارية ضد القوات السورية والتي انتهت الى إنهاء هذه الظاهرة التي لم تلق الإحتضان السياسي والشعبي لها.
الجيش اللبناني ينتشر في شارع سوريا بمدينة طرابلس |
وما حصل في ثمانينات القرن الماضي، عاد ليتكرر منذ سنوات، وبعد خروج القوات السورية من لبنان، إذ يحاول «الإسلاميون» فرض سيطرتهم على طرابلس، وهم استفادوا من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كما من الجو العدائي ضد سوريا وحلفائها في لبنان، وقد تيسّر لهم أن «تيار المستقبل» الذي له حضور بنسبة 70 بالمئة في الساحة السنّيّة، لم تكن له قيادة فعلية تمسك بالتنظيم السياسي، حيث جمع مختلف التيارات والأفكار والعقائد، ففي «تيار المستقبل» يتساكن الشيوعي و«منظمة العمل الشيوعي» التي انتقلت قيادة وقاعدة الى هذا التيار الذي أكثر أعضاء مكتبه السياسي هم من «منظمة العمل الشيوعي»، و«إخوان المسلمين» و«الفتحاويين» والعبثيين والإنتهازيين ومَن انتسب الى التيار رغبة بالمال والسلطة.
وقد لقي «إسلاميو» طرابلس مع تحرك قوى «8 آذار» بقيادة «حزب الله» في الشارع واعتصامهم في ساحة رياض الصلح وإقفالهم الطرقات، مناسبة للعودة الى الساحة، فتشكّل ما سمي«قادة محاور»، وهم يتبعون سياسياً وعائلياً وتاريخياً الى زعماء طرابلس من آل كرامي الى آل ميقاتي من جديد، حيث تلقوا المساعدات وتحت عناوين مختلفة من جمعية العزم والسعادة التابعة للرئيس نجيب ميقاتي، ومن الوزير محمد الصفدي إضافة الى «تيار المستقبل» وجهات أمنية رسمية لاسيما في قوى الأمن الداخلي، حيث تتهم قوى في «8 آذار» المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي أنه وراء بعض المجموعات المسلحة.
وأول إنفجار أمني وقع في طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، كان في العام 2008 مع أحداث «7 أيار» في بيروت، إذ اعتبر «تيار المستقبل» أن الرد على التحرك العسكري لـ«حزب الله» في بيروت يكون عبر «خاصرته العسكرية الضعيفة والمحاصرة» هي في جبل محسن الذي يسيطر عليه «الحزب العربي الديمقراطي» برئاسة علي عيد الذي يقوده في هذه المرحلة ابنه رفعت الذي ومنذ وقوع المعارك قبل خمس سنوات وهو يوجّه أصابع الاتهام الى «تيار المستقبل» والمخابرات المصرية أيام عهد حسني مبارك والمخابرات السعودية انها وراء افتعال الاحداث، وأنه في كل مرة تريد قوى داخلية أو خارجية توجيه رسالة الى النظام السوري كانت عبر اشعال اشتباكات مع جبل محسن، الذي يتّهمه أيضاً خصوم النظام في سوريا، أنه ينفذ أوامره كلما طُلب منه فيوتّر الوضع الأمني عندما يكون الرئيس السوري بشار الأسد بحاجة الى إبلاغ رسالة الى طرف داخلي أو عربي أو إقليمي أو دولي.
وهكذا تحوّلت خطوط التماس بين باب التبانة ذات الأغلبية السنّيّة وجبل محسن الذي تسكنه أكثرية علوية منذ عقود، الى ساحة صراع لتبادل الرسائل الدموية، يدفع ثمنها المواطنون وهم من الفقراء من الطرفين المتقاتلين، حيث لم يهدأ القتال بينهما إلا عندما تصالحت السعودية وسوريا، وذهب سعد الحريري الى سوريا وتصالح مع الرئيس الأسد في العام 2009، حيث حصلت أيضاً في طرابلس مصالحة حضرها الحريري مع زعماء وفعاليات طرابلس السياسية والدينية، وعلي عيد ونجله رفعت.
لكن هذه المصالحة لم تدم طويلاً، إذ هي إنهارت مع إسقاط الحريري من رئاسة الحكومة مطلع العام 2011، واستبداله بالرئيس نجيب ميقاتي، حيث اشتعلت محاور القتال من جديد عند خطوط التماس التقليدية، ومنذ ذلك الحين فتحت جبهة باب التبانة-جبل محسن ولم تهدأ، وأشعلها «المستقبليون» بوجه الرئيس ميقاتي الذي يتهمونه بالغدر لقبوله رئاسة الحكومة، وكانوا يوجهون له رسائل أمنية في معقله بطرابلس لإظهاره أنه لا يمسك بالوضع الأمني وهو الذي أعلن أنه وافق على ترؤس الحكومة من أجل تحقيق الاستقرار، فكان يرد عليه بإشعال محاور القتال بين وقت وآخر، الى أن بدأت الأزمة السورية بالتصاعد، فاستغلتها القوى الإسلامية، لفرض وجودها في عاصمة الشمال، وتكون قاعدة لها للتمدد منها، واستخدامها كعمق إستراتيجي «للثورة السورية»، من خلال دعمها بالسلاح والمسلحين واحتضان النازحين، والمعارضين الذين اتّخذوا من الشمال موقعاً متقدماً لهم ضد النظام السوري، الذي فتحوا عليه حرباً مما أسموه «ثكنته العسكرية» في جبل محسن الذي أعلن مواطنوه ولاءهم للرئيس الأسد ورفعوا صوره، وخرج رفعت عيد يعلن أن كل مَن يناصب العداء للنظام السوري سيندم لأن القوات السورية ستعود الى الشمال.
ولم تنجح كل الإجراءات الأمنية التي اتّخذت لوقف تجدّد المعارك، فكانت الهدنات تسقط مع كل حدث سياسي أو أمني يحصل في لبنان أو في سوريا، ومع كل جولة عسكرية، كان «نفوذ الإسلاميين» يقوى ليس في باب التبانة فقط بل في طرابلس كلها والشمال عموماً مع إمتداد وجود القوى التكفيرية الى البقاع وتحديداً في عرسال ومجدل عنجر، وصولاً الى عبرا حيث كان أحمد الأسير يقيم إمارته التي أسقطها الجيش.
فما يحصل من تدهور أمني في طرابلس، لم يعد مسألة عابرة، بل ان الجولات 17 العسكرية، نقلت المدينة الى مكان آخر، وهي باتت مرتعاً «للقوى التكفيرية»، مع الإعلان عن ولاء مسلحين فيها لتنظيم داعش بقيادة أبو بكر البغدادي رئيس ما يسمى بـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وهو تابع لتنظيم «القاعدة»، ويمتد نفوذه من غرب العراق الى شمال سوريا وصولاً الى شمال لبنان وبقاعه الشرقي، وهذا يكشف حقيقة ما يحصل في طرابلس من أحداث، بحيث أصبح زعماء المدينة الأضعف فيها، كما أن رعاة قادة المحاور لم تعد لهم الكلمة عليهم، وقد عطل المسلحون الخطط الأمنية التي وضعت لطرابلس، التي خطط «الإسلاميون» لها أن تكون «إمارة إسلامية» من ضمن مشروع «الدولة الإسلامية» لإعادة «الخلافة الإسلامية».
وقد بدأ أهالي طرابلس لاسيما المجتمع المدني فيها من المواطنين الرافضين للطائفية والمذهبية ويريدون الاستقرار، تحركا ضد أن تتحول مدينتهم الى مرتع «للقوى الإسلامية» التكفيرية التي بدأت تفرض أحكامها الشرعية على بعض أحيائها، وأن مَن كان يتساهل مع هذه القوى لتخويف جبل محسن بهم، وإرسال رسالة عبرهم الى النظام السوري، قد وقع في الفخ، كما حصل مع «الجيش السوري الحر» الذي سهّلت قيادته وصول المجموعات الإسلامية المسلحة، لتقوم هذه الأخيرة وبعد إمساكها بالأرض الى طرد «الجيش الحر» وقتل عناصره وضباطه، كما لقوى إسلامية أخرى مثل «جبهة النصرة» التي لم تعلن ولاءها لـ«داعش»، وهذا ما سيحصل في طرابلس، إذ ستقوم هذه المجموعة بالتصدي للجيش اللبناني ومنعه من فرض الأمن، وقد مهّد لذلك الرئيس سعد الحريري بتشكيكه بالجيش واتهامه بالشاهد الزور، حيث وفّر الأرضية المناسبة لرفضه من المسلحين في باب التبانة لأنه منحاز، وهذا الأمر سيؤدي الى إمساك القوى السلفية بالشارع، وطرد «تيار المستقبل» منه الذي سيكفّرونه لاحقاً، ولن تنفع كل التبريرات التي ساقها اللواء ريفي للمجموعات المسلحة وقادة المحاور بانهم يدافعون عن منازلهم، وستتحوّل طرابلس الشام الى إمارة إسلامية تابعة لدولة الإسلام في العراق والشام ولبنان.
Leave a Reply