نبيل هيثم – «صدى الوطن»
ضرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجدداً فـي سوريا. هذه المرة بإعلان مفاجئ وصاعق للجميع، بسحب الوحدات الروسية الرئيسية العاملة فـي سوريا، وحصر التواجد العسكري بقاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، وبطلعات مؤازرة فـي العمليات القتالية ضد تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، واخرى استطلاعية لمراقبة وقف اطلاق النار.
الأعلان الروسي أصاب الكل بذهول، حتى أن المتحدث باسم البيت الأبيض لم يكن يعلم بماذا يجيب الصحافـيين وهم يوجهون اليه سيلاً من الأسئلة حول ما كان بوتين قد صرّح به للتو.
إنجازات عسكرية وسياسية
الخطوة الروسية أتت فـي سياق محدد، وهو اكتمال المهمات العسكرية بشكل عام، وفقاً لما حددته القوات المسلحة ووزارة الدفاع، والتي لخصها وزير الدفاع سيرغي شويغو، بجملة انجازات، أهمها طرد الارهابيين من اللاذقية، وإعادة الاتصالات مع حلب وتحرير جزء كبير من ريفها، وتسهيل العمليات القتالية لتحرير مدينة تدمر من قبضة «داعش»، وتطهير معظم انحاء محافظتي حماه وحمص، وفك الحصار عن قاعدة كويرس وتأمين السيطرة على حقول النفط والغاز قرب تدمر.
وأما الانجازات السياسية فتولى الحديث عنها وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي أشار الى انه بعد بدء العمليات العسكرية فـي سوريا، كان واضحاً مستوى التغيير فـي استجابة الفرقاء السوريين والاقليميين والدوليين لمبادرات السلام الروسية، وهو ما ترجم بتشكيل مجموعة دعم دولية حول سوريا وضعت معايير العملية السياسية، وجرى تبنيها فـي مجلس الامن الدولي عبر مسار ثلاثي يتضمن وقف الاعمال العدائية، ايصال المساعدات الانسانية للمناطق المحاصرة، والشروع فـي المفاوضات السورية.
وانطلاقاً من هذين التقييمين السياسي والعسكري كان بوتين جازما فـي القول إن الأهداف التي تم تحديدها من قبل وزارة الدفاع والقوات المسلحة قد تم انجازها بشكل عام، فأمر بالشروع فـي سحب الجزء الأساسي من الوحدات العسكرية الروسية من سوريا، وتكثيف النشاط الديبلوماسي لدفع مفاوضات جنيف الى الامام، مع التشديد على أن القاعدتين الروسيتين فـي حميميم وطرطوس ستواصلان عملهما كما فـي السابق، واستمرار عمل الوحدات الباقية فـي مجالين هما مراقبة الهدنة ومكافحة الارهاب.
خطوة تكتيكية
هكذا بدا واضحا ان ما قام به بوتين هو خطوة تكتيكية بالغة الذكاء، من شأنها ان تربك كل الاطراف، وتفرض عليهم إعادة حساباتهم، فالرئيس الروسي لم يتحدث عن انسحاب كامل، وانما انسحاب جزئي، ترك بموجبه الخيارات العسكرية مفتوحة، سواء لجهة استمرار تسليح الجيش السوري ومؤازرته فـي التدريب وتوفـير المعلومات الاستخبارية ودعمه بالعمليات الخاصة، او لجهة استخدام القوة المباشرة حين تستدعي الحاجة ذلك.
وبكل ذلك، تمكن بوتين من تحرير نفسه من أعباء سياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة، فالتدخل الروسي فـي سوريا دفع الكثير من القوى الى اعتباره عملاً عدائياً من شأنه الاخلال بالتوازنات والخطوط الحمراء، ولذلك بدأت تعد العدة وتشحذ سكاكينها للتدخل المباشر، وهو ما كان سيجر سوريا، وربما الشرق الاوسط، او حتى العالم بأسره الى صدام مباشر يلامس الحرب العالمية الثالثة.
كذلك، فإن بوتين بخطوته هذه قد وفر على روسيا مليارات الدولارات، فـيما لو قرر الاستمرار فـي التدخل العسكري من دون جدول زمني واضح. ولا بد من الاشارة فـي هذا السياق الى ان كلفة العمليات العسكرية الروسية فـي سوريا قُدّرت من قبل الكثير من الخبراء بنحو مليار الى ملياري دولار أميركي سنوياً. ومن المنطقي القول ان كلفة كهذه يحسب لها حساب كبير فـي اقتصاد يواجه تراجعاً فـي الناتج القومي بنسبة 3.7 بالمئة (2015)، وهبوطاً فـي سعر العملة المحلية (الروبل) امام الدولار بمعدّل 50 بالمئة (منذ العام 2014)، وتراجعاً فـي الانفاق الدفاعي بنسبة 10 بالمئة للعام المالي المقبل. ويعني هذا ان اي عملية عسكرية من دون جدول زمني ستكون مكلفة جداً للاقتصاد الروسي.
هكذا نجح بوتين فـي تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية فـي خطوة بسيطة، لا تكلف بلاده سوى كلفة نقل الوحدات العسكرية الى قواعدها سالمة.
ولا شك أن بوتين لم يكن ليتخذ قرارا من هذا النوع لو أن الحملة العسكرية لم تحقق أهدافها بدرجة معقولة، ولولا امتلاكه خطة سياسية لمراكمة المكاسب الاستراتيجية على المدى المنظور دونما مغامرات كتلك التي قادت الاميركيين الى العراق وأفغانستان، وربما تقودهم الى سوريا فـي المستقبل القريب.
حصاد
اولى النتائج التي حصدها بوتين من خلال عمليته العسكرية فـي سوريا كانت قلب موازين القوى التي كانت قائمة فـي الثلاثين من أيلول (سبتمبر) العام 2015، وذلك من خلال تعزيز قوة الرئيس بشار الأسد، بفضل الضربات الجوية والاستشارات العسكرية. فقد مكنت الحملة الجوية الجيش، السوري من استعادة مناطق حيوية خسرها فـي مراحل سابقة، وبمساحة تقارب أربعة آلاف ميل مربع، لا سيما فـي إدلب وحلب.
وثاني تلك النتائج ان العملية العسكرية الروسية ساهمت بدرجة كبيرة فـي الحد من التقدم «الداعشي» على أكثر من جبهة، وأيضاً فـي خسارة التنظيم المتشدد مساحات واسعة من الاراضي. وتشير التقديرات الى أن «داعش» خسر أراضيَ توازي ما يقرب من 22 بالمئة من المناطق التي استولى عليها، معظمها فـي سوريا، لا سيما فـي الرقة ودير الزور وتدمر، وجعلت التنظيم الارهابي يواجه صعوبات مالية ترجمت برفع الرسوم على انواعها فـي المناطق الخاضعة لسيطرته، وخفض كبير للرواتب التي تشكل للمقاتلين، وهي صعوبات تفاقمت من جراء الغارات الجوية الروسية على آبار النفط فـي سوريا، وشاحنات التهريب عبر الحدود السورية -التركية.
وفـي هذا الاطار، تمكن الجيش الروسي من استهداف العناصر تشكل تشك تهديداً مباشراً للامن القومي الروسي -أي «الجهاديين» القادمين من روسيا والقوقاز وجمهوريات الاتحاد السوفـياتي السابق. وبحسب الارقام الروسية فقد تم «التخلص» من ألفـي مقاتل من روسيا، كانوا يحاربون فـي سوريا، بما فـي ذلك 17 من القادة الميدانيين.
علاوة على ذلك، فإن التدخل العسكري الروسي، الذي عزز الصمود السوري، جعل روسيا تقلب المعادلة الميدانية، مستعيدة دوراً كان يمكن أن تخسره أمام التدخل الاميركي والتركي السعودي والقطري.. وحتى الإيراني. لا بل أن هذا التدخل ساهم فـي تحييد المغامرات التركية السعودية المحتملة على الأرض السورية.
هذا الأمر ينطبق أيضاً على فرض الحضور الروسي على المستوى السياسي، وهو ما تبدى بوضوح منذ نجاح الروس فـي اقناع الأطراف المعنية، ولا سيما الامم المتحدة، باعتماد الأجندة الروسية التفاوضية فـي محادثات جنيف، وإن تطلب الامر تقديم بعض التنازلات الطبيعية فـي مثل هذه الحالات، فضلا عن كسر العزلة الغربية التي كانت مفروضة على روسيا منذ الأزمة الأوكرانية، حيث ان التدخل الروسي فـي سوريا أعاد ربط خطوط الاتصال بين موسكو وعواصم القرار الغربية، بحيث بات الانطباع السائد أن أحدا لم يعد راغباً فـي التصعيد مع الكرملين، ما جعل الصراع الغربي-الروسي يميل الى التراجع بخسائر طفـيفة.
وفـي العموم، فإن التدخل الروسي، ومن ثم الانسحاب الجزئي، قد يشكلان مقدمة لفرض الحل السياسي وفق الرؤية الروسية. وليست مصادفة ان يتزامن قرار بوتين الأخير فـي اليوم ذاته الذي بدأت فـيه الجولة التفاوضية الجديدة فـي جنيف، علماً بان هذه العملية التفاوضية لم تكن لتتحرك لولا العملية العسكرية، التي أعادت التوازن على المستوى الميداني، لمصلحة الجيش السوري، وهو ما جعل القوى المعارضة تنزل عن شجرة التعنت وتقبل بوقف اطلاق النار ومن ثم الذهاب الى جنيف.
ماذا بعد؟
وفـي الوقت ذاته، فإن الانسحاب الجزئي من سوريا بدا رسالة واضحة للرئيس بشار الأسد، مفادها أن ثمة ضرورة لتقديم بعض التنازلات السياسية لتحقيق التسوية، خصوصاً بعدما ظهرت بوادر تناقض بين الموقفـين الروسي والسوري ازاء مفاوضات جنيف، بعد الخطوط التفاوضية الحمراء التي وضعها الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم.
والاهم من ذلك، فإن الانسحاب الروسي يعني عمليا فرض «ستاتيكو» الهدنة السورية كأمر واقع، ما يعني تحيقيق ثلاثة أهداف، وضع أسس لبناء مشروع الفدرالية الذي بات خياراً مرضياً لبعض الاطراف، ورسم حدود واضحة للعمليات القتالية ضد «داعش» و«النصرة»، وتحديد خطوط حمراء إقليمية لمنع اي مغامرة عسكرية سعودية او تركية.
وفـي حال لم يحدث اي خرق لخطوط الهدنة القائمة حالياً، فإنّ العمليات العسكرية الروسية فـي الفترة المقبلة قد تتخذ شكلاً مختلفاً، بحيث تتركز على مسلحي «داعش» و«جبهة النصرة» الارهابيين، وذلك عبر تقديم الدعم اللازم من الجو للجيش السوري أو المقاتلين الاكراد أو حتى الولايات المتحدة.
ومع اقتراب معركة الرقة، بحسب ما تفـيد المعطيات الميدانية، فإن بوتين يحاول تحييد القوات المسلحة الروسية عن الدخول فـي معركة عسكرية قد تكلفه الكثير من الضحايا. ولهذا فإنه لا يمانع من ان يترك المهمة البرية للولايات المتحدة. ولعل تحركاً كهذا يحمل سيناريوهات متعددة: اما ان تفشل عملية تحرير الرقة، وبذلك يكون الأميركيون قد غرقوا فـي مستنقع جديد، وبالتالي تكون روسيا بمنأى عن تلك الخسارة، أو أن تنجح العملية، سواء بقوات برية أميركية أو من خلال القوات المحلية (جيش سوري، أكراد)، وتكون روسيا شريكة فـي الانتصار.
وفـي اسوأ الحالات، فإن روسيا ضمنت لنفسها، بعد العملية العسكرية، مكاناً فـي سوريا الجديدة، اياً كان شكلها، سواء انتهى الامر الى التقسيم (حيث ستكون روسيا الطرف المؤثر فـي المناطق الخاضعة لسيطرة الاسد)، أو الى حل وحدوي يضمن وصول حكومة انتقالية حليفة للروس، حتى وإن لم يكن الأسد على رأسها.
بوتين: باستطاعتنا العودة عسكرياً الى سوريا خلال ساعات إذا لزم الأمر
أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن موسكو باستطاعتها نشر قواتها فـي سوريا من جديد «فـي غضون ساعات» إذا لزم الأمر، وكشف أن العمليات العسكرية الروسية فـي سوريا بلغت تكلفتها تقريبا 464 مليون دولار، وذلك خلال حفل بالكرملين لتكريم أفراد الجيش والدفاع الروس الذين شاركوا بالبعثات الخاصة فـي سوريا.
وأشاد بوتين بعمليات الجيش الروسي فـي سوريا، قائلا إن الطيارين العسكريين «أنجزوا مهمتهم فـي سوريا بامتياز»، متابعاً بأن طاقم الطيران الاستراتيجي والتكتيكي الروسي أنجز المهام الأكثر تعقيداً وخطورة، وقال بوتين إن الخدمة فـي سلاح الجو الروسي هي شرف عظيم ومسؤولية كبيرة، على حد تعبيره.
وأضاف بوتين: «الشيء الأكثر أهمية هو أننا خلقنا الظروف الملائمة لمحادثات السلام، نجحنا فـي إقامة تعاون إيجابي مع الولايات المتحدة، فضلا عن عدد من البلدان الأخرى، مع القوى المعارضة فـي سوريا التي تريد حقا وقف الحرب وإيجاد حل سياسي»، مؤكدا: «بالطبع، سنستمر بدعم الحكومة الشرعية السورية عبر المساعدات المالية وإمدادات الأسلحة والتدريب العسكري.. والدعم الاستخباراتي والمساعدة فـي تخطيط العمليات، فضلا عن تقديم الدعم المباشر.. استخدام القوات الروسية الجوية».
وأكد بوتين أن جدول أعمال موسكو الرئيسي يتمحور حول أغراض سلمية ولكنه شدد على أهمية ضمان أمن الدولة أيضاً، قائلا: «جدول الأعمال الرئيسي فـي روسيا لهذا اليوم هو، بطبيعة الحال، السلمي، ويشمل ذلك العمل على تطوير الاقتصاد فـي ظروف غير مستقرة، والحفاظ على وزيادة رفاه شعبنا. ومع ذلك، فإننا لا يمكن أن ننجز أياً من هذه المهام دون ضمان الأمن، دون بناء جيش قتالي جاهز وفعال»، متابعاً أنه دون ذلك «وجود روسيا مستقلة ذات سيادة يُصبح أمراً مستحيلاً».
الأكراد يتوافقون على نظام حكم فدرالي شمال سوريا .. ودمشق تردّ
أعلن الأكراد فـي سوريا فـي اجتماع عقد فـي رميلان بالحسكة الخميس الماضي عن توافق على قيام نظام حكم فدرالي شمال سوريا، فـيما أكدت المصادر أن لا طموحات انفصالية للكرد عن الجغرافـية السورية.
وأكد مصدر كردي أن أي «حكومة يتوافق عليها السوريون سيكون الأكراد جزءاً منها». وأوضح أن «الفدرالية هي نموذج حكم لا مركزي تعددي ديمقراطي ضمن سوريا الاتحادية»، مشيراً إلى أن «الاتفاق على تسمية الاقليم الفدرالي لشمال سوريا «روج آفا» (كردستان الغربية) سيكون ضمن وحدة الأراضي».
وسبق ذلك، اعلان الكرد عن قيام مجلس لصياغة شكل الإدارة فـي مناطق الحكم الذاتي التي يزمعون إقامتها فـي مناطق شمال سوريا، وذلك خلال اجتماع فـي رميلان.
من جهتها، ردت الخارجية السورية على اعلان الكرد، محذرة أي طرف تسوّل له نفسه النيل من وحدة أرض وشعب الجمهورية العربية السورية. ورأت الخارجية أن طرح موضوع الاتحاد أو الفدرالية يتناقض مع الدستور والمفاهيم الوطنية والقرارات الدولية.
بدورها، أكدت المعارضة السورية فـي الرياض رفضها للنظام الفدرالي فـي شمال سوريا الذي أعلنه الأكراد.
Leave a Reply