كمال ذبيان – «صدى الوطن»
هل تأخر «الربيع العربي» عن لبنان خمس سنوات، ليبدأ فـي الظهور مع الحراك المدني الشعبي والشبابي فـي ساحة رياض الصلح فـي وسط بيروت، ليعيد مشهد «الميادين» و«الساحات» فـي تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، التي خرجت الجماهير إليها تحمل الشعار نفسه «الشعب يريد إسقاط النظام»، فإذا بـ«الثورة الشعبية» التي طالبت باجتثاث الفساد ورحيل الطبقة السياسية الحاكمة، تتحوّل فـي بعض الدول الى حروب أهلية، وفـي بعض الدول الى سيطرة القوى الإسلامية على الثورة، والى تقدم الجماعات الإرهابية التكفـيرية.
لقد سبق لبنان، العديد من الدول العربية فـي مطلع السبعينات من القرن الماضي، الى خوض معركة تغيير النظام السياسي، وخرج طلاب جامعاته وثانوياته الى الشوارع والساحات يطالبون بإصلاح النظام السياسي، ويدعون الى إسقاط الطائفـية فـيه، كما الى تعزيز الجامعة اللبنانية وتعميم التعليم الرسمي ومجانيته فـي المرحلة الإبتدائية، وتحرّك أيضاً مزارعو التبغ فـي الجنوب يطالبون بإنصافهم لتعزيز صمودهم فـي قراهم وهم يواجهون الإعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية، بعد تمركز المقاومة الفلسطينية فـيه وانطلاق عملياتها منه.
ومع تحرك الطلاب ومزارعي التبغ، كان صيادو الأسماك يرفعون مطالبهم ويتظاهرون ومعهم معروف سعد، الذي قتل برصاص الجيش فـي صيدا، وتسبّب مقتله بإشعال حرب داخلية، انطلقت فـي 13 نيسان 1975، مع تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان أبرز ما عرفه لبنان فـي تلك المرحلة، هي أزمة المشاركة فـي السلطة التي طُرحت من رئيس الحكومة السّنّي، الذي طالب أن لا يكون «باش كاتب» عند رئيس الجمهورية الذي يحكم دون أن يُحاسب، وهو ما عُرف بحقبة «المارونية السياسية» الذي إنتزع منها إتفاق الطائف بعض الإمتيازات.
«فربيع لبنان» الذي انطلق قبل أربعين عاماً، محملاً ببرنامج مرحلي «للحركة الوطنية اللبنانية» التي كانت تضم تجمعاً لأحزاب وطنية وتقدمية ويسارية وقومية وناصرية وشخصيات مستقلة، طالبت من خلاله بإصلاح النظام السياسي، وإلغاء الطائفـية منه، وإصدار قانون إنتخاب يعتمد لبنان دائرة إنتخابية واحدة مع النسبية، لكن هذا الربيع الذي خرج وطنيو لبنان ويساريوه، لإنبلاجه بإحداث تغيير فـي بنية النظام السياسي، تحوّل الى خريف وشتاء دامٍ، إذ تمّ حرف الحراك الوطني عن أهدافه، عندما نجح اليمين اللبناني الممثل بحزبي الكتائب والأحرار، من توجيه الصراع من داخلي لبناني، الى اقتتال لبناني – فلسطيني، أو انعزالي – فلسطيني، والإتجاه به نحو حرب أهلية طائفـية، دمّرت طموحات دعاة التغيير، الذين انسحبوا لصالح القوى الطائفـية، بعد أن دخلت على المعركة الوطنية لتغيير النظام، عوامل داخلية وأخرى إقليمية ودولية، ولم تنتهِ الحرب بعد 15 سنة، إلا بتسوية خارجية أنتجت إتفاق الطائف الذي أنهى الحرب، وعالج أحد مسبباتها بإزالة الطائفـية، لكن مَن إلتزموا تطبيق إتفاق الطائف، لم ينفذوا ما ورد فـيه من إصلاحات تتعلق بقانون إنتخاب خارج القيد الطائفـي، وإلغاء طائفـية الوظيفة، وتحقيق الإنماء المتوازن، وتفعيل اللامركزية الإدارية، وهذه بنود لو طبّقت، لما كان الوضع السياسي انحدر الى هذا المستوى من الفساد ونهب المال العام وهدره، وتحويل مؤسسات الدولة، الى إقطاعات للطوائف والمذاهب، وإفقار المواطنين بإنهاء وجود الطبقة الوسطى التي كانت نسبتها عالية فـي صفوف اللبنانيين قبل الحرب الأهلية، لينعدم وجودها بعد إتفاق الطائف، عندما حوّل أركان النظام الحاكم وبرعاية من قيادات سورية تولت إدارة الملف اللبناني، السلطة الى مكاسب ومغانم، والدولة الى مزرعة لهم ولمحاسبيهم، وخصخصة بعض مرافق القطاع العام كالهاتف والنفايات، الى شركات درّت عشرات مليارات الدولارات، على أصحابها ممن تولّوا الحكم سواء من رئاسة جمهورية الى رئاسة مجلس نواب ورئاسة حكومة ووزارات، حيث ظهر ما سمي بـ «الترويكا» فـي عهد الرئيس الياس الهراوي، لتتراجع مع عهد الرئيس إميل لحود الذي حاول إصلاح الوضع بعد أن ارتفع الدين العام وخدمته، لكن «المافـيا السياسية» مع الوصاية السورية منعته.
فشعارات مثل «عالسكين يا بطيخ»، ومن «يحضر السوق يشتري ويبيع»، أو «أملك دفترين للمالية»، أو «شو سعرو»، هذه العبارات التي تلفظ بها سياسيون وهم فـي موقع المسؤولية العليا، تكشف عن أن الدولة فعلاً هي مزرعة، وأن الشعب الذي هو مصدر السلطات، لا يُسمح له أن يسائل ويحاسب ممثليه، لأن قانون الإنتخاب الذي يُفصّل على قياس القوى السياسية وأمراء الطوائف، لا يمكن أن يُحدث تغييراً فـي السلطة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، ليتجذّر الإقطاع السياسي، وتنتعش «العائلات السياسية»، ويدخل المال الى السياسة ليزيد رجاله من ثرواتهم، وهو ما بات معلوماً، كم جنى آل الحريري من وسط بيروت عبر «شركة سوليدير» كما من ردم مكب «النورماندي» للنفايات، وما ربحه آل ميقاتي من الهاتف الخلوي، وما كسبه ميسرة سكر من شركة «سوكلين» فـي جمع النفايات، إضافة الى ما دخل على أرصدة تجار السياسة من مال، نتيجة سيطرتهم لا بل اغتصابهم للأملاك العامة البرية منها والبحرية، حيث الفضائح كبيرة فـي هذا الملف الذي يضم شخصيات سياسية وحزبية ورجال أعمال.
لقد بلغ الفساد ذروته، والتوريث السياسي ورفض تداول السلطة قمة «العهر السياسي»، والذي يمتد نحو ثمانية عقود، وقهر أجيالاً لبنانية، ولم يرتدع مَن هم فـي السلطة القدامى منهم والجدد، إذ جامعهم المشترك هو الفساد وتدمير الدولة، إلا قلة من شخصيات سياسية وحزبية انتفضت على هذا الواقع عندما عجزت عن إحداث تغيير فـي الحكم، الذي دخله كل الأطراف وشاركوا فـيه بنسب متفاوتة، وبسنوات قصيرة وبعيدة، لكن ليس من طرف ليس مسؤولاً فـي مكان ما عن الإنهيار الذي يتهدد لبنان، وحذّر منه الرئيس نبيه برّي، كما النائب وليد جنبلاط الذي تحكم عائلته منذ حوالي 400 سنة لبنان عموماً والطائفة الدرزية خصوصاً، وهو أدلى بتصريح اعتبر نفسه من النفايات السياسية، ويؤيّد حركة «طلعت ريحتكم»، دون أن يُقدم على الإستقالة من منصبه النيابي، الذي سيورثه الى نجله تيمور بعد أن سلّمه الزعامة الجنبلاطية، وهو الذي ينتقد التوريث فـي العالم العربي، لاسيما فـي سوريا، دون أن يحاسب نفسه، ومثله حصل مع توريث سامي الجميّل رئاسة حزب الكتائب و«التيار الوطني الحر» ترأسه الوزير جبران باسيل بدعم من العماد ميشال عون، فشكّل صدمة «للعونيين» الذين ظنوا أنهم فعلاً تيار إصلاح وتغيير، فإذا بمؤسسه لم يخرج عما فعلته الأحزاب السياسية الأخرى ذات الطابع الطائفـي والعائلي، لتسقط الأحزاب السياسية الفاعلة فـي التوريث الذي يضاف إليه الفساد، ليصبح شعار «طلعت ريحتكم» مناسباً للطبقة السياسية التي دعاها شباب حركة «حلوا عنا» الى الرحيل، حيث أنتج المجتمع المدني وبعض أفراد كانوا فـي أحزاب يسارية و تقدمية ووطنية وآخرين مستقلين، شكلوا حركة مدنية إلتقت فـيها جمعيات وهيئات من المجتمع المدني، تحمل برامج بيئية وأخرى ضد الفساد كما فـي ممارسة الشفافـية أو ديمقراطية الإنتخابات أو بتطبيق القوانين، ليظهر هؤلاء فـي تجمع تحت شعار «طلعت ريحتكم» إنطلاقاً من أزمة النفايات التي امتلأت بها الشوارع والأحياء، دون أن يظهر أن الحكومة ستقدم حلاً لها، وإجرت مناقصة لجمع النفايات وطمرها، فتوزعت محاصصة على القوى السياسية النافذة، من خلال شركات لها رعاية سياسية، وهو ما أغضب الحراك الشعبي والشبابي، الذي صعّد من تحرّكه الذي حاولت السلطة مع قوى طائفـية إجهاضه بدس عناصر لتخريبه، وقد قامت باستفزاز القوى الأمنية المكلفة بحماية مقر رئاسة الحكومة، التي استخدمت العنف المفرط، وهو ما دانه رئيس الحكومة تمام سلام ووزير الداخلية نهاد المشنوق وفتح تحقيقا فـي الحوادث التي حصلت فـي وسط بيروت ومحيط مجلس النواب، حيث تحولت التظاهرة السلمية، الى عنفـية، ومعارك كر وفر فـي شوارع وسط العاصمة، التي أشعل «المندسون» فـي مكاتبها ومحلاتها النار وعمدوا الى التكسير، وتمّ رفع شعارات مذهبية، مما حرّك غرائز قوى مذهبية أخرى، عمدت الى قطع طرقات فـي السعديات وخلدة وسعدنايل، رداً على ما سموه محاولة الدخول الى السراي من قبل مجموعة سمت نفسها «الحشد الشعبي»، على غرار ما تسمي نفسها الميليشيات الشيعية فـي العراق، فـي توقيت مشبوه، لضرب الحركة المطلبية المدنية، وتحويل الصراع الى مذهبي، بأن «الشيعة» يحاولون الدخول الى مقر رئيس الحكومة السّنّي لإسقاطه، وكادت أن تقع الفتنة، لولا تدارك الرئيس نبيه برّي للأمر ونفـيه أن تكون حركة «أمل» لها علاقة بالأمر، أو أن مَن ظهروا على الإعلام تابعون لها، واتصل بالرئيس سلام ووزير الداخلية، لضبط الوضع، بالإستعانة بالجيش، الذي حافظ على الأمن، وسُمح للمتظاهرين أن يعبّروا عن مواقفهم فـي ساحة رياض الصلح، بعد أن تمّ عزل السراي بجدار عازل الذي فصل بين قوى الأمن والمتظاهرين ومنع حصول الإحتكاك بينهما.
فهل بدأ «ربيع لبنان»، وهل الحراك المدني هو مقدمة لـ«ثورة شعبية»، وهل صحيح أن جمعيات غير حكومية خارجية وتحديداً أميركية، تقف وراء جمعيات مدنية، على غرار ما حصل فـي مصر ودول أخرى ما سمي «ثورات شعبية»؟.
أسئلة بدأت تطرح عند المسؤولين الرسميين والقوى السياسية، لرصد ما يجري فـي الشارع، فكما أطلق الرئيس الأميركي الاسبق جورج بوش ثورات ولوّنها فـي العالم، ومنها «ثورة الأرز» فـي لبنان، فهل إنتهى دورها ومفعولها، لتبدأ ثورة أخرى تحت عنوان الفساد وإسقاط الطبقة الحاكمة؟
Leave a Reply