وليد مرمر
ما إن بدأت الإمارات بسحب أعداد كبيرة من قواتها في اليمن، حتى كانت تعزيزات عسكرية حوثية كبيرة تتضمن آليات عسكرية وعربات ومدرعات تصل فجراً إلى مدينة الحديدة حسبما كشفت مصادر الجيش اليمني معلنة أن المئات من المسلحين الحوثيين بلباس الأمن المركزي انتشروا في شوارع المدينة وقاموا بنصب نقاط تفتيش.
فهل ما حصل تم بتنسيق مع الإمارات أم لا؟ بعض المحللين يرون أن التباين في المصالح بين السعودية والإمارات في اليمن قد أدى إلى «تقارب» غير متوقع بين الإمارات والحوثييين. لكن هذا التقارب لا يرقى بأي شكل من الأشكال إلى تنسيق عسكري على الأرض.
نعم لقد حاولت الإمارات جادة تغيير بوصلة خياراتها السياسية مؤخراً حيث استنجدت من غير جدوى، حسب صحيفة «الأخبار» اللبنانية بإيران لتسهيل انسحاب قواتها من اليمن من خلال زيارة لوفد إماراتي رفيع المستوى لطهران قبل أسابيع قليلة. ولما كان رد إيران سلبياً، طلبت الإمارات من روسيا التوسط لدى إيران مقدمة سلة عروض منها الانسحاب من اليمن وتطبيع العلاقات الثنائية. لكن –وللمرة الثانية– كان الرد الإيراني حاسماً: «بعدما تجاوزتم كل الخطوط الحمر، لا شيء ممكن أن نتفاوض عليه»، وذلك دائماً حسب صحيفة «الأخبار» التي أكدت أن انسحاب الإمارات من اليمن ليس مجرد «إعادة انتشار» وإنما هو «قرار استراتيجي» اتخذه حكام أبو ظبي نتيجة التهديد بوصول الحريق إلى داخل دارهم.
تستند مصادر الصحيفة إلى «اجتماع عقد قبل أسابيع بين أبناء زايد الثلاثة (محمد وهزاع وطحنون) بالإضافة إلى حاكم دبي محمد بن راشد، حيث أبلغهم الأخير بوضوح أن هناك ضرورة ملحة للخروج من مستنقع اليمن مؤكداً أن «نزول صاروخ يمني واحد في شارع من شوارع دبي كفيل بانهيار الاقتصاد والتضحية بكل ما حققناه».
كذلك تشير المصادر إلى تململ متصاعد لدى حكام الإمارات الست (باستثناء أبوظبي) من التماهي الكامل لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد مع سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في توتير العلاقات مع الجيران الخليجيين والجار الإيراني، وصولاً إلى التورط غير المحسوب في الحرب اليمنية وأكلافها الاقتصادية.
أما صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية فقد نسبت بدورها لمسؤولين وخبراء أميركيين قولهم إن سحب الإمارات قواتها من اليمن سيضيف تعقيداً جديداً للحملة التي تقودها السعودية ضد الحوثيين، وسيثير مخاوف واشنطن والرياض من أن يُفهم أن ذلك انتصار للحوثيين، موضحة أن الخلافات بين السعودية والإمارات حول الاستراتيجية التي يجب اتباعها في اليمن خلقت تصدعات في تحالفهما.
وكالة «رويترز» بدورها كانت قد نقلت الأسبوع الماضي عن مصادر دبلوماسية غربية قولها إن دولة الإمارات قد بدأت فعلاً بتقليص وجودها العسكري في اليمن بسبب التهديدات الأمنية الناتجة عن تزايد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران. كما أن أبو ظبي قد شعرت بوطأة المعارضة المتزايدة في الكونغرس لحملتها العسكرية في اليمن، وتخشى أن تكون هي بين أول أهداف الرد الإيراني إذا أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتنفيذ ضربة عسكرية على إيران.
وحسب مصادر أبوظبي، فإن القوات الإماراتية خرجت من مأرب بشكل كامل، وبنحو 80 بالمئة من الحديدة، كما بدأت في الانسحاب من عدن، تاركة الإشراف المحلي للقوات اليمنية التابعة التي دربتها.
كانت الإمارات قد انخرطت في العدوان ضد اليمن منذ خمسة أعوام إلى جانب السعودية، مشاركة بإزهاق أرواح عشرات آلاف الضحايا الأبرياء، ومسببة أكبر كارثة إنسانية في العالم اليوم بحسب الأمم المتحدة.
ولقد كلف العدوان على اليمن، الإمارات أثماناً مادية باهظة تقدر بنحو 1.3 مليار دولار شهرياً، ناهيك عن أن الانتهاكات غير المحدودة لحقوق الإنسان واستعمال الأسلحة المحرمة والحصار والتجويع، أدت إلى تلويث سمعة الإمارات عالمياً حتى باتت تلاحقها قضايا وإدانات بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وتعذيب.
في العام الماضي، على سبيل المثال، رفعت منظمة «التحالف الدولي للدفاع عن الحقوق والحريات» دعوى مدعومة بـ1000 وثيقة وشهادة أمام محكمة الجنايات في باريس ضد محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي تتهم فيها الإمارات بالضلوع في جرائم حرب باليمن.
وتتألف القوات العاملة تحت إمرة الإمارات في اليمن من آلاف معدودة من الجيش الإماراتي، إضافة إلى بضعة آلاف أخرى من المجندين المرتزقة من دول كولومبيا وبنما وسلفادور وتشيلي وإريتريا وغيرها، ويتبعون هيكلياً لقوة حرس الرئاسة الإماراتية. هذا إضافة لضباط أميركيين سابقين حاربوا في أفغانستان والعراق، وذلك حسب دورية «إنتليجنس» الإستخباراتية في عدد حزيران (يونيو) 2018.
مما لا شك فيه أن الإمارات لن تنسحب نهائياً من اليمن. وقد يكون تموضعها الجديد محاولة للحد من الاحتكاك مع المتمردين اليمنيين، لكنه يبقى بالدرجة الأولى تسليماً بالأمر الواقع العسكري ونزعاً لفتيل مواجهة محتملة مع إيران.
بالمقابل، لا تخفي الإمارات رغبتها في تقسيم اليمن والسيطرة على جنوبه، نتيجة لتغلغلها في محافظات جنوبية عديدة، عبر تدريب وتسليح ميليشيات موالية لها من القبائل والعشائر وفلول «القاعدة» وبعض فصائل «داعش» إضافة للمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي.
كما وقد طورت الإمارات بنية تحتية عسكرية مهمة في جميع أنحاء المنطقة الجنوبية على ساحل البحر الأحمر وخليج عدن، وأتمت بناء قواعد بحرية وجوية وبرية في أماكن مثل جزيرة «بريم» في اليمن، و«عصب» في إريتريا، و«بربرة» في صوماليلاند، و«بوصاصو» في الصومال. وساعدت هذه القواعد في إكساب الإمارات دوراً إقليمياً لم تعهده من قبل، حتى بات يخيل للبعض أنها مشروع «دولة عظمى».
لكن يبدو أن مسلسل فشل الرهانات السياسية الإماراتية ليس له نهاية. فلقد تورطت الإمارات في دعم المجموعات المسلحة لإسقاط الدولة السورية وهو ما لم يحصل، وشاركت في العدوان على اليمن لإخضاعه فاصطدمت بمقاومة الشعب اليمني الجبار، ثم راهنت على ضربة أميركية لإيران، فلم تتم، ثم دعمت هجوم حفتر على طرابلس الغرب فباء بالفشل. فهل آن الوقت ليقتنع حكام الإمارات أن حجم بلدهم الجيو–سياسي أصغر مما يطمح إليه بن زايد وأن اليمن لن تكون آخر مسلسل الانهزامات إن لم «يأخذوا حجمهم الطبيعي»!
Leave a Reply