في خضم الجو الفضائحي الصاخب في واشنطن والذي يصر الرئيس دونالد ترامب على تغذيته بتغريداته النافرة والمثيرة للسجالات، لم يحظ خبر في غاية الأهمية بالتغطية الإعلامية أو الاهتمام الشعبي اللذين يستحقهما. الخبر يقول إن المحكمة العليا في أميركا وافقت على النظر في دستورية الأسلوب المتبع لترسيم الدوائر الانتخابية في الولايات والمعروف باسم «جيريماندرينغ» والذي قد يؤدي رفض المحكمة العليا له إلى تتويج الاضطراب الشامل الذي واكب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وفتح بوابات تغيير جذري في الخريطة السياسية الأميركية.
في اللغة تعبير جيريماندر (Gerrymander) دخيل على اللغة الإنكليزية ظهر للمرة الأولى مطبوعاً في آذار (مارس) 1812، على شكل صورة كاريكاتورية في صحيفة في بوسطن تظهر شكل الخريطة الانتخابية التي وضعها كونغرس ولاية ماساتشوستس لمقاطعة «أسيكس» لإعطاء افضلية انتخابية لحزب حاكم الولاية في حينه، واحد الآباء المؤسسين الذين شاركوا في المؤتمر الاستقلالي، ايلبردج جيري. أضاف رسام الكاريكاتير إلى شكل الدائرة جناحين ورأساً ديناصورياً يشبه الحيوان الخرافي «السمندر» الذي يلفظ بالإنكليزية «سلماندر»، وأطلق على اسم الشكل الجديد اسماً مركباً من الاسم الأخير لحاكم الولاية جيري والقسم الأخير من اسم الحيوان الخرافي «ماندر» كنوع من التهكم السياسي على الحاكم و«الحزب الديمقراطي الجمهوري» الذي كان ينتمي إليه مع غالبية كونغرس الولاية، ولتشبيه الدائرة الجديدة بالحيوان الخرافي.
تكمن أهمية هذا النوع من الترسيم للدوائر الانتخابية في أن الدستور يعطي المجالس التشريعية للولايات حق تقرير الدوائر الانتخابية، وتكمن أهمية الدوائر الانتخابية في أن النظام الانتخابي يعتمد الدائرة الفردية على الأساس الأكثري البسيط الذي يمنح الفوز للمرشح الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات. ويعطي هذا التدبير لمشرعي كل ولاية نفوذاً مؤثراً في تقرير مصير الأغلبية في مجلس النواب الفدرالي، وحسم الأغلبية التشريعية في كل ولاية.
في التاريخ، لم توفر الشهوة السلطوية لمكونات نظام الثنائية الحزبية هذه البدعة الجديدة، وتناوب على استخدامها ذوو الأغلبية في مجالس الولايات بصرف النظر عن الانتماء الحزبي. لم تبق المسألة أسيرة الاستثناء بل صارت مادة رئيسة لكل انتخاب عشري في ولاية يؤدي إلى حصول حزب واحد على أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ في الولاية. ولعل المحاولات الأبرز للانتفاع سياسياً من ذلك كانت في ولايات الجنوب التي كان يسيطر عليها الجناح العنصري المناهض للحقوق المدنية والمساواة في الحزب الديمقراطي، حتى إقرار إصلاحات الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي، وانقلاب ديمقراطيي الجنوب تدريجياً إلى الحزب الجمهوري الذي ورث العنصرية وبسط نفوده الانتخابي في كل الجنوب، وبلغ ذروة نجاحه الانتخابي مع رئاسة الجمهوري رونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي.
لم تقتصر استخدامات «الجيريماندرينغ» على التنافس الحزبي فقط ففي الستينات وبعد إقرار الحقوق السياسية والمدنية والانتخابية للسود وانتهاء العمل بالفصل العنصري شجع الليبراليون والديمقراطيون المجالس التشريعية على استخدام الترسيم الانتخابي لإتاحة المجال أمام عدد أكبر من الملونين والأقليات لدخول المجالس التشريعية المحلية والفدرالية. لكن عودة الجمهوريين إلى الأغلبية في الكونغرس الفدرالي عام 1994، أعطت المحافظين دفعاً هائلاً جعل من الحديث عن ترسيم الدوائر الانتخابية أولوية مطلقة. ومن الأحداث الطريفة في هذا المجال أن 11 من الأعضاء الديمقراطيين في مجلس الشيوخ في ولاية تكساس فروا من ولايتهم لمنع اكتمال نصاب مناقشة الدوائر الانتخابية واضطروا للبقاء في المنفى، في ولاية نيو مكسيكو المجاورة لأكثر من شهر ونصف حتى انتهاء الدورة التشريعية. وقد تكررت الحالة ذاتها في ولاية ويسكونسن بعد بضعة أعوام.
يوم الاثنين قبل الماضي، أعلنت المحكمة العليا في الأيام الأخيرة من دورة انعقادها الحالية، انها قبلت النظر في دعوى مرفوعة إليها من المحكمة الفدرالية في ويسكونسن حيث انقسم القضاة الثلاثة إلى صوتين مقابل صوت ولم يتمكنوا من الاجماع على قرار يتعلق بشكوى مرفوعة من مشرعين ديمقراطيين ترى في الترسيم الانتخابي الذي أقرته الأغلبية الجمهورية عام 2011، انحيازاً كاملاً على أساس حزبي ولا يراعي الحقوق الدستورية للمقيمين في الدوائر الانتخابية المعاد تحديدها. وافق قاضيان من اللجنة العدلية على مضمون الدعوى فيما رفض العضو الثالث ذلك وتم رفع الأمر إلى المحكمة العليا.
تنبع الأهمية الاستثنائية لقرار المحكمة العليا بقبول النظر في الدعوى من حقيقتين؛ الأولى هي أنها المرة الأولى التي تقبل فيها المحكمة النظر في قضية ترسيم الدوائر الانتخابية، حيث كانت الحالات السابقة تقتصر على دائرة واحدة، وليس على آلية ترسيم الدوائر، فحتى هذا الأسبوع كانت المحكمة العليا تعيد إلى الولايات الحق الحصري في تقرير مصير الدوائر، وكانت حريصة تماماً في الحالات الفردية التي نظرتها سابقاً على التأكيد على الحق الحصري للمجالس التشريعية المحلية في البت بذلك. طبيعة هذه الدعوى وشمولها لآلية الترسيم والبت في دستورية اعتماد معايير حزبية في إقرار ذلك يعني أن القرار المنتظر أن يصدر في الخريف المقبل، إذا كان إيجابياً لصالح المحكمة الدنيا، فانه سيحدث انقلاباً فورياً في الخريطة السياسية والانتخابية في أميركا. السبب في ذلك هو الحقيقة الثانية وهي أن المجالس التشريعية المحلية تعيد رسم حدود الدوائر الانتخابية بعد كل إحصاء سكاني يجري كل عشر سنوات. الإحصاء المقبل سيتم في العام 2020، وهي سنة انتخابات رئاسية وتشريعية تشير التكهنات إلى أنها ستكون لصالح الحزب الديمقراطي بعد أربع سنوات من الفوضى الجمهورية التي فاقمها وأشاعها أسلوب دونالد ترامب الرئاسي.
المفعول المباشر لهذا النوع من الاحتمال سيكون خسارة المحافظين لقاعدتهم الشعبية الراسخة المتمثلة في الفلاحين والأرياف والأطراف التي غالبيتها بيضاء أوروبية الأصل، بالإضافة إلى خسارتهم للدوائر المسلوخة من اطراف المدن لصالح الضواحي، كما يعني تركيز الكتل المدينية والمجموعات الاثنية والسود، والأهم الكتل ذات الأصول اللاتينية. سيناريو من هذا النوع قد يحول الحزب الجمهوري عام 2022 إلى أقلية قليلة كما هو حاله الآن في كاليفورنيا ونيويورك وماساتشوستس.
المهتمون بالانتخابات وأهل العلوم السياسية بدأوا على الفور في طرح الاحتمالات وتوقع السيناريوهات التي ستحصل إذا ألغت المحكمة العليا «الجيريمانديرينغ»، وبدأ نفض الغبار عن اقتراحات ومشاريع قديمة لإعادة رسم الدوائر الانتخابية بطريقة أقل تشوهاً وأكثر منطقية تقوم على تواصل جغرافي له معنى أو انتماءات إثنية تأخذ بعين الاعتبار الحقائق الديمغرافية. إلا أن المحافظين لا يتصرفون على أساس أن المعركة محسومة ضدهم سلفاً، وهم يراهنون بقوة على أن اغلبية أعضاء المحكمة العليا ـ خمسة من أصل تسعة ـ محسوبون على الفريق المحافظ وقد يضعون الاعتبارات الحزبية أولاً حتى في معالجة قضية دستورية من الطراز الأول.
Leave a Reply