كمال ذبيان – «صدى الوطن»
تقدمت الأحداث والتطورات المتسارعة في فلسطين، على الأزمة السياسية–الاقتصادية الخانقة في لبنان، والتي تهدد الدولة بالزوال في ظل الانهيار الحاصل على مختلف المستويات. فمع انسداد أفق الحلول في بلاد الأرز تشخص أنظار اللبنانيين جنوباً حيث يخوض الشعب الفلسطيني ومقاومته، ملحمة بطولية جديدة أصابت العدو الإسرائيلي بالنكسة والذهول من صمود شعب، ظنّ الصهاينة أنه نسي قضيته، وأن التهويد بات أمراً واقعاً، وأن القدس ستكون عاصمة كيانهم الغاصب.
لبنان والصراع مع إسرائيل
الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة هذه الأيام، هي الرابعة منذ نحو 13 عاماً، بعد عدوان 2008 و2012 و2014. وخلال الاعتداءات الثلاثة الواسعة، لم يحقق جيش الاحتلال أهدافه في ليّ ذراع المقاومة في غزة خصوصاً، وفلسطين عموماً، وهذا ما خبره الإسرائيليون في لبنان، منذ اجتياحه عام 1982، ثم بانسحابه دون قيد أو شرط في 25 أيار 2000، وصولاً إلى فشله في حرب تموز 2006.
ففي تجربته الأخيرة في لبنان، عجز جيش الاحتلال عن تحقيق الأهداف التي شن من أجلها حرب تموز، مستنفداً –على مدار 33 يوماً– كل بنك الأهداف لديه دون أن ينجح في تدمير ترسانة المقاومة الإسلامية التي لم تتوقف صواريخها عن دك المدن الإسرائيلية طوال الحرب التي انتهت بتعديل قواعد الاشتباك وإقامة توازن رعب مع الكيان الغاصب.
ولا شك أن نجاح المقاومة في لبنان، شكل النموذج الذي استفادت منه المقاومة في غزة تحديداً، حيث تنامت القدرات الصاروخية لدى الفلسطينيين بعد كل عدوان، وصولاً إلى التطور الملحوظ الذي نشهده هذه الأيام.
إذ لم تبقَ منطقة أو نقطة عسكرية أو مرفق حيوي، خارج مدى صواريخ المقاومة التي أصابت تل أبيب ومدناً رئيسية أخرى، ولم توفر المستوطنات في غلاف غزة، بالتزامن مع تحريك المقاومة الشعبية في القدس والضفة الغربية وكل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، منذرة باضطرابات داخلية لم تعهدها إسرائيل منذ ولادتها.
يد على الزناد
لم تطلب غزة، المساندة من محور المقاومة بعد، بل هي ليست بحاجة على ما يبدو إلى فتح أية جبهة أخرى، لاسيما وأن ميزان الردع بات يميل لصالحها بمواجهة جيش الاحتلال.
ولا شك أن «حزب الله» جاهز تماماً لأي تطورات قد تطرأ على معركة غزة، خاصة وأن الحزب كان قد استنفر عناصره ووضع مقاتليه في أعلى جهوزية قبل اندلاع المواجهة المستمرة في الأراضي المحتلة، وتحديداً منذ أن أعلن رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، عن مناورة كبرى باسم «مركبات النار» تغطي كلاً من الجبهة الجنوبية مع قطاع غزة والجبهة الشمالية مع لبنان، استعداداً لأي عمل عسكري محتمل.
وكان لافتاً ربط العدو الإسرائيلي بين الجبهتين ووضعهما في مسار واحد، لكن غزة فاجأته، بأنها كانت السباقة في توقيت الحرب، دفاعاً عن القدس ودعماً لعائلات فلسطينية تسكن حي الشيخ الجراح بعد محاولة طردهم من قبل المستوطنين وشرطة الاحتلال.
وقد أدّى تحرك غزة العسكري نصرة للقدس إلى ارتباك غير مسبوق في صفوف العدو الذي تفاجأ أيضاً بانتفاضة شعبية في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، إضافة إلى جبهة القتال المفتوحة مع القطاع المحاصر.
إذ كان قادة إسرائيل يتهيبون الخطر القادم من الشمال عبر «حزب الله»، لكن الجبهة مع لبنان لم تتحرك باستثناء مسيرات تضامنية مع فلسطين، شاركت فيها أحزاب وفصائل مؤيدة للمقاومة. ووصلت الحشود إلى الجدار الفاصل الذي أقامه جيش الاحتلال عند تخوم الخط الأزرق مع لبنان، لمنع تسلل المقاومين إلى داخل المستوطنات في الجليل المحتل، تخوفاً من تهديدات الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، الذي توعد الإسرائيليين بقتالهم داخل فلسطين المحتلة في يوم من الأيام.
وفي المسيرات الشعبية، صعد شبان في العشرينات من عمرهم، على الجدار بوسائلهم، وحطموا «كاميرات المراقبة»، ووصلوا إلى الشريط الشائك، بينما كان جنود الاحتلال يختبئون وراء متاريسهم والمستوطنون قابعون في منازلهم أو الملاجئ. سقط شهيد اسمه محمد الطحان برصاص جنود الاحتلال، كما هوى جرحى، لكن إرادة المواجهة لم تتوقف، فاستمرت المسيرات في رسائل تضامنية، ذات أبعاد عسكرية، بأن الدخول إلى المستوطنات، وفتح الجبهة، رهن بما ستؤول إليه تطورات الأوضاع في فلسطين عموماً وغزة خصوصاً.
ولعل الرسالة التحذيرية الأوضح كانت في إطلاق بضعة صواريخ من منطقة القلَيلة بجوار مخيم الرشيدية في صور، وأيضاً من منطقة العرقوب وغيرها. وإذ نفى «حزب الله» علاقته بالصواريخ التي أُطلقت خلال الأسبوع الماضي، إلا أنه أكّد في الوقت عينه على وحدة المعركة من غزة إلى القدس وصولاً إلى جنوب لبنان والجولان.
المعركة مؤجلة
رغم تسارع الأحداث والتطورات، من غير المتوقع حتى الآن خروج جبهة جنوب لبنان عن السيطرة. فقرار دخول المعركة مساندة لغزة وفلسطين، له ظروفه السياسية والعسكرية، كما المناخ الشعبي الذي يبدو متحمساً لمساندة الشعب الفلسطيني.
لكن لا يبدو أن «حزب الله» مستعجل لفتح المعركة التي يؤجلها إلى توقيت يكون لصالح المقاومة، طالما أن المقاومة في داخل فلسطين الشعبية والمدنية منها، كما المسلحة، تسجل انتصارات واضحة بالرغم من جنون آلة القتل الإسرائيلية في استهداف البشر والحجر، إلى حد يكاد يرقى إلى سياسة الأرض المحروقة والدمار الشامل، لفرض وقف إطلاق الصواريخ دون تقديم أي تنازلات تتعلق بحي الشيخ جراح أو القدس، عبر وضع فصائل المقاومة تحت ضغط شعبي هائل بوصفها المسبب للخراب والدمار والقتل الذي يرتكبه جيش الاحتلال يومياً في القطاع المحاصر.
غير أن إشعال جبهة لبنان بوجه إسرائيل، لا يتوقف فقط على جهوزية «حزب الله» العسكرية فحسب، بل يتعداها إلى البيئة السياسية الراهنة والوضع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم في بلاد الأرز، حيث تعالت في آلآونة الأخيرة النغمة القديمة–الجديدة الداعية إلى حياد لبنان، وهو الشعار الذي يرفعه البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، الذي أبدى تضامنه إنسانياً مع الفلسطينيين، رافضاً أن يكون لبنان ساحة مساندة لهم.
لكن الفريق السيادي هذا ربما نسي أن لبنان انتهج هذا الخط في حرب حزيران 1967، التي شهدت هزيمة الأنظمة العربية، فكانت ردة فعل الفلسطينيين تبني الكفاح المسلح من أجل استرداد الأراضي المحتلة، فتحول لبنان إلى ساحة جهاد للفلسطينيين بعد تشريع سلاحهم في «اتفاق القاهرة» الذي تم بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية.
حينها، لم ينفع شعار الحياد، لبنان بشيء، بل جعله يدفع أبهظ الأثمان لتجاهله موقعه في الصراع. والأمر نفسه ينطبق على هذه المرحلة، إذ أن الحياد ليس خياراً حقيقياً، بل المقاومة هي الخيار الوحيد وفق المعادلة الثلاثية الذهبية (الجيش والشعب والمقاومة) التي يرفضها فريق لبناني بدعوة المطالبة بأن يكون قرار الحرب والسلم بيد الدولة حصراً، وليس «حزب الله»، ومن خلفه محور المقاومة عموماً وإيران خصوصاً.
فهذه المعادلة الذهبية أثبتت نجاحها منذ بداية تسعينيات القرن الماضي ووفرت للبنان في غضون عقدين قدرة الردع بمواجهة إسرائيل حتى أن أهل الجنوب الذين اعتادوا، عند أي عمل عسكري صهيوني، أن ينزحوا عن قراهم ومدنهم، فإنهم هذه المرة قصدوا الجنوب لإحياء عيد الفطر وإقامة الصلاة في المساجد، وتبادل التهاني بالعيد، تأكيداً على صمودهم وإيمانهم بأن المقاومة أصبحت تشكل قوة ردع حقيقية.
Leave a Reply