طلّ وسألني إذا نيسان دقّ الباب..
منذ عقود، في الرابع عشر من نيسان، غادرت قريتي الجنوبية وتركت بيتنا الذي بنيناه أنا وزوجي بالتعب والدموع، حين أعلنت أن الأسرة قدري واقتنعت بأن مصلحتها في الرحيل إلى المهجر، ورضخت للأمر حينها وما ندمت، رغم أني كنت أقسم لنفسي بين كل جولة وأخرى من الحروب والهروب من ملجأٍ إلى ملجأ، أنني لن أغادر بيتي في قريتي ثانية ولن أتشرَّد مهما كانت الظروف، لكن للأسف، مثل الكثيرين ضعفت ورحلت.
ذاكرتي مثل ذاكرة عاشق بدوي، تزيده الليالي شوقاً وإخلاصاً لمن يحب. يمضي العمر باحثاً عن ماضٍ لم يبق منه سوى الحنين. أعود إلى طفولتي الخالية من كل ترف، وأعيد على مسامع أحفادي ما لم يعرفوه عن قرية بسيطة جميلة لها عطرٌ خاص يملأ كل حاراتها وأحيائها وطرقها وأجوائها الرضيَّة، حيث كان الفرح الحقيقي والصادق يعم الجميع ببساطة. أحياناً يسمعونني –أي الأحفاد– وفي أكثر الأحيان يملّون بسرعة ويركضون إلى ألعابهم الإلكترونية العجيبة.
أتذكر كيف كان أبي يكنس الطريق بعد مرور قطيع الغنم ليجمع مخلفاته كسماد لأشجار صغيرة غرسها. وأتذكر عمي (أبو زوجي) الذي كان يسقي شجيرات التين والزيتون بعرقه، حتى تكبر ويأكل منها الأولاد والأحفاد. أتذكر تعب الفلاحين وجهدهم وتمسكهم بأرضهم ليرثها الأبناء والأحفاد. الكثيرون هاجروا وتركوا الأرض، والعديد من الأولاد باعوا تعب آبائهم ليتحملوا العيش في بلدٍ يتآمر بعضه على بعضه بغباء وجهل.
في أوائل أيامي في ديربورن، تعرفت إلى جوزفين جبُّور. ببساطة وقلة اكتراث، وبلغة عربية مكسَّرة، قالت لي: أنا من برعشيت! قلت لها عندكم كرم كبير اسمه كرم «بيت الجبُّور». لم تتذكر ولا تريد أن تتذكر وكل ما كانت تهتم به هو تقاعدها بعد سنين عمر قضتها بالعمل في شركة فورد للسيارات. لم تبالِ ولم تسأل مَن من أقاربها الباقين في لبنان، باع كرم أبيها وأرض جدِّها، وقبض الثمن. الآن .. أتخيل حفيدتي بعد خمسين سنة أو أكثر، مثل جوزفين جبُّور، كل ما يربطها بالوطن بضعة كلمات تقولها بخفة وبلا معنى: أهلي «عروب» من برعشيت!
أحد الأصدقاء اشترى بيتاً من الدرجة فوق المتوسطة في منطقة فوق المستوى في القسم الغربي من مدينة ديربورن. اشتكت زوجته من امرأة غريبة الأطوار تأتي بين الحين والآخر لتقول لها إن هذا البيت كان لها ذات يوم، وإنها كانت تعمل بوظيفة مرموقة في حكومة ولاية ميشيغن. وفي إحدى المرات تقدمت من الرجل مالك البيت إمرأة نحيلة طاعنة في السن، بسيطة المظهر، حزينة القسمات، وقالت له: هل تعرف أنك تسكن في بيتي؟ بكل أدب وعطف أجابها الرجل: يا سيدتي، لقد كان هذا بيتك في الماضي، وهو بيتنا منذ سنوات عدَّة، وقد اشتريته بما وفَّرت من مال بعد كد وتعب لمدة ثلاثين سنة. إنني أفهم معنى الخسائر. لقد خسرت وطني أنا أيضاً وخسرت بيتي، ولم يدفع لي ثمنه أحد، بل جاء إنسان غريب عن بلدي وأرضي واحتلَّه، واحتلَّ ذكريات صباي، وأحرق صورة أمي وأبي ومنعني حتى من الوقوف قرب البيت مثلك والشكوى إلى من يسكن فيه.
هل نحن أمة مسكينة وحزينة مثل تلك السيدة؟ نستوقف الناس ونقول لهم إننا كنا أمَّة ذات أمجاد ونخبرهم بأن أرضنا يحتلُّها الغرباء الذين قدموا من أصقاع الأرض لإقامة وطنهم الموعود؟ ما يحدث في البلاد العربية من حروب أهلية ودولية وهزائم وهجرات وأطلال وحقد وفقر وجهل، هي خدمات مجانية يقدمها الأعراب لإسرائيل التي تسعى لجمع غرباء يهود العالم وبناء وطن لهم. أما نحن، نهجر أوطاننا ليبني أولادنا بلاد الآخرين.
من منكم يظن أن أولاده أو أحفاده سيعودون إلى وطن الأهل والأجداد.. فليرجمني بمئة حجر!
Leave a Reply