نيويورك، واشنطن – بعد طيّ صفحة التحقيقات حول التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016، عاود الديمقراطيون، الأسبوع الماضي، مساعيهم لعزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكن هذه المرة بسبب مكالمة هاتفية أجراها مع نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في 25 تموز (يوليو) الماضي.
ففي حين كان ترامب يواصل جدول أعماله على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أطلت رئيسة مجلس النواب الأميركي، الديمقراطية نانسي بيلوسي، من واشنطن للإعلان عن فتح تحقيق رسمي بهدف عزل الرئيس بدعوى الاشتباه بانتهاكه الدستور من خلال الضغط على دولة أجنبية لإيذاء خصمه الديمقراطي جو بايدن.
وأثارت المكالمة بين ترامب وزيلينسكي والتي أبلغ عنها عنصر استخباراتي بشكلٍ سري بعدما ارتاب بشأن مضمونها، ضجة واسعة بعد أن نشرت وسائل إعلام محلية تقارير تحدثت عن محاولة الرئيس الأميركي دفع نظيره الأوكراني لبدء تحقيق بحق هانتر بايدن، نجل نائب الرئيس الأميركي السابق.
وزعمت التقارير أن ترامب هدد زيلينسكي بوقف المساعدات من واشنطن لكييف، وذلك في الوقت الذي يعتبر فيه بايدن الأب منافساً أساسياً لسيد البيت الأبيض الحالي في انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2020.
وسارع الديمقراطيون في الكونغرس، بزعامة بيلوسي، إلى تلقف القضية لإطلاق إجراءات عزل ترامب، الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري.
وفي الوقت الذي قالت فيه وزارة العدل إنها لم تعثر في نص المكالمة على أساس لفتح أي تحقيق مع ترامب، اعتبرت بيلوسي أن فحوى الاتصال تؤكد ضرورة دراسة عزل الرئيس.
وقالت بيلوسي إن «تصرفات رئاسة ترامب كشفت عن الحقائق المشينة لخيانة الرئيس لقسمه وخيانته لأمننا القومي وخيانته لنزاهة انتخاباتنا». وأضافت «لذلك، أعلن أن مجلس النواب يفتح تحقيقاً رسمياً» لعزل الرئيس.
بدوره، ندّد الرئيس ترامب بالديمقراطيين، واصفاً حملتهم الجديدة بأنها «حملة مطاردة ساحرات نتنة».
وعلق ترامب على إعلان بيلوسي عبر «تويتر» قائلاً: «يوم بمثل هذه الأهمية في الأمم المتحدة، كثير من العمل وكثير من النجاح، لكن الديمقراطيين قرروا إفساد كل شيء (…) حملة مطاردة نتنة. أمر سيء جداً لبلدنا».
الكشف عن مضمون المكالمة
وكان ترامب قد استبق إعلان بيلوسي، بالسماح بنشر فحوى المحادثة الهاتفية التي أجراها مع نظيره الأوكراني. وقال ترامب في تغريدة على «تويتر»: «سترون أن الأمر يتعلق باتصال ودي ولائق من كل الجوانب»، مؤكداً أنه «ما من ضغط، وخلافاً لجو بايدن وابنه، لا مقايضة! كل هذا ليس سوى استمرار لأكبر حملة مطاردة شعواء في التاريخ».
ونشر البيت الأبيض نص المحادثة مع الرئيس الأوكراني والتي تضمنت قول ترامب لزيلينسكي إنه يطلب منه «خدمة» بالتحدث مع محاميه رودي جولياني ووزير العدل ويليام بار، من أجل فتح التحقيق مجدداً في قضية الفساد المتورط فيها نجل جو بايدن.
ولم يظهر في المحادثة تهديد ترامب للرئيس الأوكراني، بشكل واضح بإيقاف الدعم الأميركي، في حال رفض إجراء التحقيق.
وكان ترامب قد أمر بتجميد مساعدات لأوكرانيا بنحو 400 مليون دولار قبل أيام قليلة من الاتصال الهاتفي. لكن الملخص لم يظهر ما إذا كان زيلينسكي يدرك أن ترامب قد جمد تلك المساعدات.
وخلال المكالمة التي استمرت 30 دقيقة، قال ترامب لزلينيكسي: «ثمة حديث كثير عن نجل بايدن وعن أن بايدن أوقف التحقيق، ويريد أناس كثيرون أن يعرفوا المزيد عن هذا الموضوع، لذلك فإن أي شيء ممكن أن تفعلوه مع النائب العام سيكون رائعاً».
وعندما كان بايدن يشغل منصب نائب الرئيس الأميركي باراك أوباما، مارس مع عدد من القادة الغربيين ضغطاً على أوكرانيا للتخلص من المدعي العام الأوكراني فيكتور شوكين باعتبار أنه لم يكن شديداً بما يكفي ضد الفساد، في حين يشتبه بأنه إقالته جاءت لإغلاق تحقيق بشأن فساد هانتر بايدن.
من جانبه، كرر ترامب في أكثر من مناسبة خلال الأسبوع الماضي، نفيه أن يكون قد ضغط على زيلينسكي عبر مساومته على مساعدة عسكرية أميركية مخصّصة لأوكرانيا، مؤكداً أن نص المكالمة كفيل بإثبات ذلك.
وعلى هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، عقد ترامب مؤتمراً صحافياً مع زيلينسكي، في ذروة الجدل المثار بخصوص محادثتهما الهاتفية.
وأصرّ الرئيس الأوكراني على أنه «لم يتعرض لضغوط» خلال المكالمة لإعادة فتح التحقيق في ما يخص شركة الغاز التي عمل فيها ابن بايدن، مؤكداً في الوقت ذاته بأنه «لا يريد التدخل في مسار الإجراءات القانونية التي تجري داخلياً في الولايات المتحدة».
وقال ترامب في مؤتمر صحفي إن «الرئيس الأوكراني نفى أي ضغط من لدنا عليه»، ثم تابع «أطالب الديمقراطيين بالشفافية فيما يخص علاقة بايدن بأوكرانيا».
وختم ترامب بالقول «مسألة العزل انتهت، تماما كما انتهت قضية التدخل الروسي في الانتخابات، ليس هناك مجال لأي حديث عن كل هذا». وقال أيضاً «عزل من أجل مكالمة هاتفية؟ إنها نكتة!».
وقال ترامب خلال لقائه زيلينسكي إن جو بايدن مارس تهديداً سياسياً كبيراً على الرئيس الأوكراني، لإغلاق التحقيقات في نشاط ابنه. وتابع «أطالب الديمقراطيين بتوخي الشفافية، فنحن ملتزمون بحرية نقل المعلومات والشفافية في قضية بايدن وابنه».
ووعد الرئيس الأميركي، من جهة ثانية، باعتماد «كامل الشفافية» في ما خصّ عميل الاستخبارات الذي أخطر مرؤوسيه بمضمون المكالمة الهاتفية.
ولكنه طالب أيضاً بأن تكون هناك شفافية بشأن جو بايدن وابنه هانتر في ما يتعلّق «بملايين الدولارات التي تم إخراجها بسرعة وسهولة من أوكرانيا ومن الصين عندما كان نائباً للرئيس».
وأكّد ترامب في أنّ إطلاق خصومه الديمقراطيين إجراءات عزله سينعكس «إيجابياً» على فرصه في إعادة انتخابه لولاية ثانية.
الديمقراطيون مصرون
توالت ردود فعل أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، على فحوى المكالمة الهاتفية حيث أظهر الديمقراطيون عزمهم على مواصلة إجراءات المساءلة تمهيداً لعزل ترامب. وقالت بيلوسي إن ملخص ما دار بين الرئيس الأميركي ونظيره الأوكراني يثبت أن سلوك ترامب «يقوض نزاهة الانتخابات الأميركية والأمن الوطني»، و«يؤكد الحاجة لتحقيق من أجل عزله».
رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، الديمقراطي آدم شيف، قال إن المكالمة تشير إلى «تورط بجريمة أكثر مما كان متوقعاً». وأضاف أن الملخص الذي نشره البيت الأبيض والذي أظهر أن ترامب طلب من نظيره الأوكراني إجراء تحقيق حول نائب الرئيس السابق جو بايدن، «بدت مثل التهديدات التي تصدر عن المافيا».
ورفض مجلس النواب الذي تسيطر عليه أغلبية ديمقراطية يوم الجمعة الماضي مشروع قانون جمهورياً يمنع التحقيق الرسمي الخاص ببدء إجراءات مساءلة الرئيس.
ورفض مشروع القانون الذي تقدم به كيفن مكارثي زعيم الجمهوريين في المجلس 222 نائبا مقابل 184 وجرى التصويت على أساس حزبي بشكل كبير.
و،مع بدء جلسات الاستماع في لجان الكونغرس، اتهم ترامب النائب شيف، بقراءة نسخة مزورة في الكونغرس عن نص المكالمة التي دارت بينه ورئيس أوكرانيا.
وكتب ترامب على «تويتر»: «النائب آدم شيف قرأ على الكونغرس، بطريقة مزورة وأمام ملايين المشاهدين، نسخة غير موجودة من محادثتي مع الرئيس الأوكراني». وأضاف: «كان من الأجدى أن يقرأ النسخة المدونة الدقيقة من المكالمة، لكنه غيّر كلماتي بشكل كامل حتى يجعلها تبدو مريعة ويجعلني أبدو مذنباً، لقد كان يائساً وتم فضحه».
لا أساس لفتح تحقيق
في المقابل، أعلنت وزارة العدل الأميركية أنها درست فحوى المكالمة، ولم تعثر على أساس لفتح تحقيق مع سيد البيت الأبيض.
وقالت الوزارة، في بيان، إن «إدارة الشؤون الجنائية لوزارة العدل درست التسجيل الرسمي للمكالمة وتوصلت، بناء على الحقائق والقوانين ذات الصلة، إلى استنتاج مفاده أنه لم تكن هناك أية انتهاكات لقواعد تمويل الحملات الانتخابية ولا حاجة إلى اتخاذ أي إجراءات أخرى».
ورغم ذلك بدأت لجان مجلس النواب إجراءات مساءلة ترامب تمهيداً لعزله. ولكن إذا كان مجلس النواب هو الذي يوجّه الاتّهام للرئيس بهدف عزله فإنّ مجلس الشيوخ هو الذي «يحاكمه» وفقاً للدستور الأميركي. ولا بدّ لأي تصويت على عزل الرئيس أن يحصل على أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ كي يتم بالفعل عزل الرئيس وهو أمر لم يسبق حصوله في تاريخ الولايات المتحدة. ونظراً إلى أنّ الديمقراطيين ليسوا سوى أقلية في مجلس الشيوخ فإن احتمال تصويت أغلبية الثلثين لصالح عزل ترامب هو أمر مستبعد تماماً.
ولذلك، فإن إجراءات العزل التي أعلنت عنها بيلوسي، ربما لم تكن سوى محاولة من الديمقراطيين لإحراج ترامب أمام زعماء العالم في نيويورك، لكن ذلك لا يمنع أن يقوم معارضو الرئيس الأميركية باستغلال القضية إلى أبعد حدود ممكنة للضغط على سيد البيت الأبيض قبل انتخابات الرئاسة.
Leave a Reply