كمال ذبيان – «صدى الوطن»
قبل أربع سنوات، انطلقت حركات احتجاج شعبية في لبنان احتجاجاً على موضوع النفايات التي ملأت الشوارع بعد توقف العمل بمكب الناعمة، فتشكّلت مجموعات سمّيت بـ«الحراك المدني» الذي بدأ مطالباً بإيجاد حل لأزمة النفايات قبل أن يرفع سقف المطالب بالدعوة لإسقاط النظام، مما أدى في نهاية المطاف إلى خفوته، وسط تشكيك ببعض تلك المجموعات والجهات الممولة لها، لاسيما بعد تجربة ما سمي بـ«الربيع العربي»، وارتباط بعض منظمات «المجتمع المدني» بأجندات سياسية دولية، إضافة إلى أن أطراف الحراك قد لجأت إلى عنف مما أثار قلق وهواجس المواطنين.
الحراك
«الحراك المدني» الذي عول عليه اللبنانيون قبل سنوات، وكبر ككرة الثلج المتدحرجة، من خلال اتساع المشاركة الشعبية فيه بالعاصمة بيروت، كما في مناطق لبنانية أخرى، لم يلبث أن انطفأ، لعدم وجود قيادة وبرنامج موحّد له، إضافة إلى التسابق نحو الظهور السياسي والإعلامي ومحاولة صرف الغضب الشعبي انتخابياً سواء في الانتخابات البلدية أو النيابية، فتشكلت لائحة «بيروت مدينتي» كتوجه شعبي نحو التغيير في سباق بلدية بيروت والمخاتير، كما خاض «حزب سبعة» الانتخابات النيابية بعد نحو ثلاث سنوات من ظهوره، متعهداً بانتهاج أداء حزبي مختلف يقوم على البرنامج والدعوة لإصلاح النظام بدلاً من إسقاطه.
ورغم أفوله دون تحقيق أية أهداف ملموسة، ترك الحراك إيجابيات عديدة منها رفع سقف التظاهر ضد الطبقة الحاكمة منذ مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، الذي كان من المفترض أن يكون لإصلاح النظام عبر إلغاء الطائفية السياسية وإصدار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، إلى جانب إلغاء طائفية الوظيفة، وغيرها من الإصلاحات المنصوص عليها في الدستور الذي أناط بمجلس الوزراء مجتمعاً السلطة التنفيذية، بعد أن حدّد صلاحيات رئيس الجمهورية.
لكن ما حصل خلال ثلاثة عقود أعقبت الطائف، بأن مّن تولّوا السلطة، لم يعملوا قط على تطبيقه، وكما لم يعملوا على بناء دولة المؤسسات، بل ساهموا في تقويض تلك المؤسسات، وتحويلها إلى محميات طائفية ومذهبية، من خلال تقاسم الحصص والمغانم، ومَن كان خارجها من قوى مسيحية فاعلة كـ«التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، لجأت –بعد انخراطها في السلطة– إلى الممارسة نفسها لأركان الحكم الذين شكّلوا «ترويكا»، فتحوّل لبنان إلى مزرعة، ودولة فاشلة، وفق التوصيف الدولي.
وإذا كانت النفايات قد أججت الحراك الشعبي قبل بضع سنوات، فإن انكشاف اقتصاد لبنان وتضعضع وضعه المالي، قد يكون دافعاً للعودة إلى الشارع لاسيما مع المخاطر التي تحوق بسعر صرف الليرة، بعدما تبين أن السياسة المالية التي كان يرسمها حاكم مصرف لبنان، بإشراف السلطة السياسية أوصلت البلاد إلى دين بمئة مليار دولار مع فوائد سنوية تقدر بـ5.5 مليار دولار لهذا العام، وقد حققت المصارف اللبنانية من تلك القروض أرباحاً بنحو 90 مليار دولار، في وقت يشكو المصرف المركزي من هبوط الاحتياطي فيه إلى نحو 29 مليار دولار فقط، وهو مبلغ بالكاد يكفي لسد احتياجات لبنان الضرورية من الواردات التي تفوق 20 مليار دولار سنوياً، في حين يقدر نمو الناتج المحلي بصفر بالمئة في ظل عجز تجاري متفاقم وغياب للحلول الجذرية.
عودة الاحتجاجات
أمام هذا الواقع الاقتصادي والمالي المرير، الذي لم يعد بإمكان المسؤولين اللبنانيين نكرانه في ظل التصنيفات والتقارير الدولية له، عادت الدعوات للاحتجاج في الشارع، رفضاً لسياسة الافقار والتجويع، وقلق الناس على مدخراتهم، كما على رواتبهم، إذ سبق للبنان أن مرّ بأزمة مشابهة في ثمانينيات القرن الماضي وحتى منتصف التسعينيات منه، عندما وصل سعر صرف الدولار إلى نحو ثلاثة آلاف ليرة، حيث تحرّك الشارع في 6 أيار 1992، فسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي لتمهيد الطريق أمام وصول رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة لأول مرة، كمنقذ للاقتصاد وصاحب مشروع لإعمار لبنان.
لكن سياسات الحريري المالية والنقدية، التي جاءت برياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، لتطبيقها، قامت على رفع الفائدة على سندات الخزينة إلى نحو 42 بالمئة، فأتى بالمال، لكنه لم ينفقه في سبيل تأسيس اقتصاد منتج فتحوّل لبنان إلى بلد للخدمات فقط، حتى أصبح لبنان يرزح تحت دين عام ثقيل ومن دون بنى تحتية أو خدمات أساسية كالكهرباء والمياه والمستشفيات والمدارس الرسمية إلخ…
هذا الواقع المزري، الذي يقف معه لبنان على شفير أزمة اقتصادية غير مسبوقة، في ظل شح المال والتلاعب بسعر صرف الدولار، دفع بالمواطنين للخروج من منازلهم إلى الشارع تعبيراً عن مخاوفهم وغضبهم على ما آلت إليه أوضاعهم المعيشية، في ظل إقفال مؤسسات، وفقدان فرص العمل وصعود أرقام البطالة، وارتفاع الأسعار. إذ تنادى مواطنون وعبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى التجمع في ساحة رياض الصلح وجوارها، في وقت كانت تجري احتجاجات في مناطق أخرى، ولو خجولة، لكنها جاءت معبّرة عن سخط الناس وعدم ثقتهم بحكامهم، فلم تخلُ منطقة من إقفال طريق، وحرق دواليب، في رسالة وجهت بالدرجة الأولى إلى مَن يتولى شؤونهم من الأحزاب والكتل النيابية والوزراء، رفضاً لأدائهم، بعد ثلاثين عاماً على وقف الحرب الأهلية. فإن مَن تولّى أمر اللبنانيين أوصلوهم إلى العوز، حيث يرزح نحو ثلث الشعب اللبناني تحت خط الفقر، حتى أن البطالة في صفوف الشباب والخريجين بلغت نسبة 40 بالمئة فلم يعد أمامهم سوى الهجرة، خاصة بعدما تعطلت قروض الإسكان، مما انعكس إحجاماً عن الزواج، وارتفاعاً في معدلات الطلاق التي سجّلت رقماً عالياً هذا العام، بلغ نحو تسعة آلاف حالة، وهو رقم عالٍ جداً قياساً إلى عدد سكان لبنان.
ضد الجميع
التحرك الشعبي لم يجمع أعداداً كبيرة، لكنه شكل بداية يمكن البناء عليها، إذا ما قامت له قيادة فعالة قادرة على تقديم برنامج مرحلي يلبي مطالب مَن نزلوا إلى الاحتجاج. وقد نصحهم النائب اللواء جميل السيد، بأن يبتعدوا عن العنف، الذي تريده السلطة لتقلب الطاولة عليهم بالقمع وتخويف الناس منهم، داعياً إلى التظاهر بصمت كوسيلة فعالة لتمكين الحركة الاحتجاجية، وهو ما تتداوله بعض أطراف في الحراك، ومنهم «حزب سبعة» الذي رفض شعار إسقاط النظام.
ومع ذلك لجأت مجموعات شاركت في الاحتجاجات إلى الاصطدام بقوى الأمن والقيام بأعمال تخريب وتكسير، وهو ما أفقد الحراك السابق صدقيته وأهدافه، ويمكن أن ينطبق أيضاً على أي حراك آخر في المستقبل.
ولعل أبرز الثغرات في الحراك السابق والحالي، يتجلى في عدم حصر المطالب، بل توسعها وتشتتها، فيما يرى البعض أن شعار استعادة المال المنهوب، هو الأنسب، لتمويل الخزينة من جيوب كل مَن أثرى نفسه بطرق غير شرعية. إذ يقدّر المبلغ الذي يمكن أن تسترده الحكومة لو حزمت أمرها بحوالي 75 مليار دولار، وهي من أرباح المصارف، وشركات الخليوي، وصفقات بواخر الكهرباء إلخ… والأسماء معروفة، وقصورهم وأموالهم تدل عليهم، بحسب المحتجين.
من هم المحتجون؟
انشغلت الدولة وأحزاب السلطة، بالتفتيش عن هوية المحتجين، ومَن حرّكهم ويقف وراءهم. إذ اعتبر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن هذه الحركة موجهة ضد عهده، في وقت كان وزير الخارجية جبران باسيل، يوجّه أصابع الاتهام نحو الشركاء في السلطة، فيما اعتبر الرئيس الحريري بان الاحتجاجات موجهة ضده بهدف دفعه إلى الاستقالة. وبالفعل باشرت الأجهزة الأمنية بالسؤال عن منظمي الحراك، الذي غابت عنه كل الأحزاب، كما تجاهلته النقابات وعلى رأسها الاتحاد العمالي العام، بالرغم من أن مشاركين في الاحتجاجات، أعلنوا عن هويتهم كـ«حزب سبعة» و«بدنا نحاسب»، إضافة إلى أفراد شاركوا في احتجاجات سابقة.
وفي الواقع، إن الاحتجاجات التي يشهدها لبنان، يمكن تشبيهها بانتفاضة «السترات الصفر» في فرنسا، التي كانت تنظم تحركات أسبوعياً ومازالت دون أن تُعرف قيادتها أو برنامجها، وهو ما ينطبق على مَن نزلوا إلى الشارع في لبنان، فهؤلاء من دون سترات، لأن لا لون سياسياً لهم، ولا يجمعهم سوى وجعهم وغضبهم وثورتهم على السلطة الفاسدة.
فمن تظاهروا واحتجوا لبسوا «سترات» الفقر والجوع والبطالة والهجرة…
Leave a Reply