وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بكل إصرار تمسك «الثنائي الشيعي» بعودة الرئيس المستقيل سعد الحريري حتى اللحظة الأخيرة، وقد استطاع مع حليفه التيار الوطني الحر التوصل معه إلى اتفاق، لكن سرعان ما نسفه الحريري وانقلب عليه بعد ساعات قليلة من إبرامه، حيث أبلغ «حزب الله» وحركة «أمل» بتراجعه عنه قبل نصف ساعة فقط من إعلان بيان عزوفه عن الترشح لتأليف الحكومة، مستبقاً موعد الاستشارات النيابية التي كان قد أجلها القصر الجمهوري مرتين.
ولأن الأمور لم تعد تحتمل مزيداً من التسويف والمماطلة، اتخذت قوى الأكثرية النيابية قرار تسمية وزير التربية الأسبق في حكومة نجيب ميقاتي، ونائب رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، حسان دياب، الذي أكد أنه لم يلتقِ أحداً قبل تكليفه، سوى رئيس الجمهورية حين استُدعي إلى القصر الرئاسي لإبلاغه بالتكليف في ردّه على مقولة إن «حزب الله» هو الذي سمّاه.
الحريري يضغط في الشارع
الحريري، وبعد أن أخرج نفسه من الساحة، أعلن في اليوم التالي لتكليف رئيس الحكومة الجديد، خلال دردشة مع بعض الإعلاميين، أنه ليس ضد تكليف دياب، وأنه سيطلب من نواب كتلته عدم مهاجمة حكومته، قائلاً إنه سيمنحها فرصة مئة يوم قبل الحكم عليها، موفّراً لها بذلك غطاء سياسياً كانت بحاجة إليه.
ولكن بعد أيام قليلة، غير الحريري موقفه بعدما أشاعه من أجواء إيجابية تجاه دياب وحكومته، فاعتبر أن الحكومة ستكون حكومة جبران باسيل، وأنه لن يترأس أية حكومة مستقبلاً يكون فيها باسيل، رافضاً شيطنة السنة واتهامهم بسرقة أموال البلد، على حد تعبيره، مؤكداً أنه لم يسمِّ دياب، ولن يغطيه، ولن يمنحه الثقة إذا اقتضى الأمر.
هكذا رسم الحريري معالم مرحلة جديدة مع العهد الرئاسي، فاتحاً النار بقوة على الرئيس ميشال عون وعلى «صهر العهد»، مؤكداً أنه لن يتعاون معه مطلقاً بعد اليوم إذا لم «يعتدل». لكن في المقابل كان حرص الحريري واضحاً على التهدئة مع «الثنائي الشيعي»، تجنباً لفتنة مذهبية. وقال رداً على موقف الرئيس نبيه بري، إنه دفع شخصياً ثمناً كبيراً عندما كان الآخرون يلعبون بالنار، وإن الفتنة السنية الشيعية بالنسبة إليه هي خط أحمر.
وأبدى الحريري تفهمه لشعور محبيه ومناصريه بالغضب والاستياء بسبب ابتعاده عن رئاسة الحكومة، مؤكداً أنه لن يتمثل فيها، ولن يسمي أحداً ولن يعطيها الثقة، وتوجّه باللوم الشديد لحلفاء الأمس (جعجع وجنبلاط) لتحميلهما إياه مسؤولية التسوية، فيما هما من استفاد منها فعلياً!
بذلك أعطى كلمة السر لمناصريه للنزول إلى الشارع، وهو الذي كان قد طالبهم أكثر من مرة بمغادرته حين انتشروا في مختلف مناطق نفوذ «المستقبل»، وقطعوا الطرقات وأحرقوا الإطارات فور الإعلان عن تكليف دياب، حيث شهد اليوم التالي، توتراً شديداً ومواجهات وقعت بين الجيش والقوى الأمنية، في منطقة كورنيش المزرعة، ومحتجين كانوا يقطعون الطريق، وعندما حاولت القوى الأمنية فتحها اعتدوا عليها، ما أدى إلى سقوط عدد من الجرحى في صفوفها. وبعد ظهر اليوم نفسه، امتد التوتر إلى مدخل بيروت الجنوبي، إثر قطع الطريق الساحلي الذي يسلكه أهل الجنوب لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في قراهم، ما تسبّب بزحمة سير خانقة، وقد حاول الجيش اللبناني فتح الطريق، لكن محاولاته باءت بالفشل، حتى ساعة متأخرة من الليل، وترافق ذلك مع سلوك استفزازي من قبل قاطعي الطريق، تجاه المواطنين الذين احتُجزوا في سياراتهم، ما أعاد إلى الأذهان صوراً بشعة من الحرب الأهلية البغيضة.
كذلك سُجّل في الأيام الماضية تجوّل سيارات تحمل مكبّرات للصوت، تدعو أهل المناطق ذات الأغلبية السنية للنزول إلى الشارع، اعتراضاً على تكليف دياب، ولإعادة الحريري إلى رئاسة الحكومة، مستحضرةً خطاباً طائفياً، من قبِيل «الطائفة السنية في خطر» وغيرها من عبارات التجييش المذهبي.
معارضو تسمية دياب
مواقف الحليفين جنبلاط وجعجع كانت أيضاً سلبية تجاه تكليف دياب. فقد اعتبر جنبلاط أن عدم تسمية نواف سلام لتأليف الحكومة من قبل «المستقبل» دليل على عقمها وإفلاسها، أما حزب «القوات اللبنانية»، فقد أوحت مصادره بأنه لم يسمِّ أحداً لاعتقاده بأن ورقة نواف سلام قد احترقت، وبالتالي لم يردْ أن يظهر بمظهر السائر في الخيار الأميركي الساقط أصلاً، وطبعاً لم يكن ليسير في خيار دياب، الذي يعتبره مرشح «حزب الله» وباسيل.
في تغريدة له قال الوزير السابق سليمان فرنجية إن الحكومة المقبلة برئاسة دياب هي حكومة ظاهرها مستقل وباطنها مرتبط بباسيل، وتضم سياسيين مشهود لهم بالتقلب. تغريدة أزعجت الحلفاء وألقت مزيداً من الغموض والتساؤلات حول مصير الحكومة المقبلة. وقد رفض باسيل كلام فرنجية معتبراً أنه موجّه إليه، لكنه إهانة للرئيس.
زيارة هيل: ساعدوا أنفسكم لنساعدكم
الجميع كان يترقب زيارة الموفد الأميركي ديفيد هيل الذي حضر وجال على السياسيين الذين توقعوا منه كلاماً متشدداً، بل أكثر من ذلك، تقول الأخبار التي رشحت عن تلك اللقاءات، إنه لم يتقدم بأي طرح أو طلب يشبه الإملاءات التي كانت متوقعة، من قبيل ترسيم الحدود البحرية والنزاع على البلوك الرقم 9 ، أو الإصرار على حكومة من التكنوقراط، أو غيرها من المطالب، بل اكتفى الرجل بالمطالبة باسترداد العميل الأسرائيلي عامر الفاخوري الذي يحمل الجنسية الأميركية، وهو ما قوبل بالرفض، واعداً اللبنانيين بالمساعدة إن هم ساعدوا أنفسهم.
خفوت الحراك المطلبي
يجمع المراقبون أن موجة الحراك التي بدأت في 17 تشرين الأول (أكتوبر) قد هدأت وخبت، وأن ما يحدث اليوم في بعض شوارع بيروت وغيرها من المناطق، لا علاقة له بالحراك المطلبي، بل هو مجرد حالة مذهبية تتمظهر في الشارع رفضاً لأي اسم غير سعد الحريري لرئاسة الحكومة، علماً بأن الأخير هو من أبعد نفسه، فبعد أن أحرق كل الأسماء التي طُرحت، احترق اسمه هو، وربما بإيعاز أميركي هذه المرة.
مباركة بكركي
صبيحة عيد الميلاد، الرئيس ميشال عون عقد خلوة مع البطريرك الماروني بشارة الراعي، قبيل القداس، أعلن بعدها أن الأمور تسير على ما يرام، وتمنى أن تكون الحكومة عيدية رأس السنة للبنانيين، مؤكداً أنها ستكون حكومة اختصاصيين، وأنه انتظر الحريري مئة يوم من دون جدوى. أما البطريرك الراعي فقد منح «بركته» للحكومة المنتظرة، طالباً تسهيل تأليفها، وعدم وضع العراقيل في وجهها، متمنّياً لدياب التوفيق في مهمته.
مجريات التأليف
في آخر مجريات التكليف، رشح أن اجتماعاً عُقد ليل الاثنين–الثلاثاء بين «الخليلين» والرئيس المكلف دياب، وحُكي عن أن ثمة تشكيلة كانت معدة وجاهزة كان ينوي دياب التوجه بها يوم الخميس للرئيس، لكنه تريّث بانتظار المزيد من المشاورات. ويتردد في الكواليس أيضاً أن بري اقترح على دياب تشكيلة من 18 وزيراً 14 منهم من التكنوقراط و4 من السياسيين المعتدلين غير المستفزين تسمّيهم الأحزاب. فيما نقلت مصادر أخرى كلاماً مغايراً، مفاده أن دياب باتت تشكيلته جاهزة ولم يبقَ سوى إقناع الرئيس بري بها. أما بالنسبة إلى الأسماء المتداولة في بازار التوزير، فكلها تدخل في خانة التكهنات، ولا شيء ثابت حتى الآن.
بعض المتفائلين يتحدثون عن خطة فرنسية لمساعدة لبنان وانتشاله من الهاوية التي يغرق فيها بوتيرة متسارعة، وعن رغبة أميركية بالمساعدة، مشروطة بتأليف حكومة اختصاصيين تكون بعيدة عن تأثير «حزب الله»، وعن أن الأيام المقبلة تحمل بوادر حلحلة للوضع المالي السيء، وهذا المسعى، بحسب أولئك المتفائلين، هو لتفادي الانهيار الشامل الذي سيكون «حزب الله» المستفيد الأول منه إن وقع.
هل يعتذر دياب؟
إذاً، هي أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وعراقيل كثيرة تواجه تأليف الحكومة، على وقع توترات مذهبية عادت لتطل برأسها من جديد، وسط كل ذلك، وتحت وطأة الحُرم المذهبي الذي أطلقته في وجهه دار الفتوى، برفضها أي اسم غير سعد الحريري لترؤس الحكومة، يستمر الرئيس المكلف حسان دياب في سعيه للتأليف، مؤكداً بحسب ما نُقل عنه، تصميمه على الاستمرار في المهمة، حتى لو نزل كل المعترضين إلى الشارع وبقوا فيه. فهل سينجح؟
يقول العارفون بدقائق الأمور، إن فورة جديدة سيشهدها الشارع السني ضد دياب، قد لا تتيح له إكمال مسيرته، وستضطره إلى الاعتذار مرغماً تحت ضغط الشارع، ليعود اسم الحريري إلى التداول مجدداً كمنقذ وحيد للبلاد!
Leave a Reply