ديترويت – مؤشرات نهضة مدينة السيارات من تحت ركام «عقود الإنهيار» عديدة. فمن تدفق الإستثمارات الى وسط المدينة، الى انتزاع الولاية دفة إدارة شؤون المدينة المالية عبر قانون الطوارئ، وصولا الى «جسر سنايدر».. يبقى الهاجس الأمني أبرز عائق أمام عودة ديترويت الى مجدها الغابر، ولذلك تعززت الجهود في الآونة الأخيرة بين شرطة المدينة وشريف مقاطعة وين إضافة الى شرطة الولاية ووكالات فدرالية، في إطار خطة أمنية مشتركة تستهدف عتاة المجرمين في المدينة بهدف خفض نسبة الجريمة في المدينة بنسبة الربع مع حلول نهاية العام ٢٠١٣.
خطة «ديتروت وان» التي أعلن عنها رئيس البلدية دايف بينغ، تطبق على نطاق واسع منذ مطلع نيسان (أبريل) الماضي، في الوقت الذي يشهد فيه سكان ومرتادو منطقة وسط المدينة، التي تشمل «نيو سنتر» والـ«داون تاون» مرورا بالمنطقة الجامعية (ميدتاون)، بأمان ملحوظ منذ أن طُبقت فيها خطط أمنية لتشجيع الإستثمار والسكن.
ويعتبر توسع «المناطق الآمنة» في مدينة ديترويت هدفاً مشروعاً في سياق الجهود الحثيثة المبذولة لنهضة «مدينة السيارات»، عبر الإحتذاء بمدينة شيكاغو التي تعتبر من أكثر المدن الأميركية ازدهاراً وحيوية رغم أنها تحتوي مناطق فيها نسبة عالية من الجريمة، استدعت قبل عامين انتشار «الحرس الوطني» عقب مقتل عشرات الأشخاص في غضون أشهر.
خطة طموحة.. فـي مدينة مأزومة
وبالعودة الى خطة «ديترويت وان» المشابهة لخطة مماثلة طُبقت في العاصمة واشنطن، وتعتمد على تعزيز جهود ملاحقة المطلوبين الخطيرين بالتوازي مع توفير سجون إضافية وتعزيز انتشار عناصر الشرطة المحلية (مدينة-مقاطعة-ولاية) في الأحياء، تقول السلطات إن الهدف هو تحقيق تراجع ملموس بمعدلات الجريمة عبر رفع مستوى التعاون بين مختلف الأجهزة، إضافة إلى تعيين مدعين فدراليين في مراكز الشرطة في ديترويت وضواحيها لتسهيل عملية مقاضاة المتهمين. أما الهدف من التركيز على أخطر المطلوبين فهو مكافحة الجرائم المسلحة وجرائم القتل. يذكر أنه منذ مطلع العام الجاري وحتى ٣١ آذار (مارس) الماضي، وقعت في ديترويت 69 جريمة قتل مقارنة بـ 76 في نفس الفترة من العام الماضي، ناهيك عن 214 عملية إطلاق نار غير قاتلة في مقابل 243 في نفس الفترة من العام 2012 بحسب بيانات الشرطة.
وديترويت القابعة حالياً تحت إدارة كفين أور، المعين من قبل حكومة لانسنغ، تستعد لمعركة انتخابية قاسية هذا الصيف، في ظل معارضة شعبية واسعة من الأميركيين السود ترفض «سيطرة الولاية على مدينتهم»، مع العلم أن رئيس البلدية الحالي، بينغ، الذي يتهمه البعض بـ«بيع ديترويت»، سحب يوم الجمعة الماضي طلب ترشيحه لدخول المنافسة في الإنتخابات التمهيدية التي ستقام في آب (أغسطس) المقبل دون تأكيد عزمه على ذلك. وتشير أحدث استطلاعات الرأي الى أن شريف مقاطعة وين، بيني نابليون، ورجل الأعمال مايك داغن أبرز المنافسين على مقعد بينغ الذي يعول بشدة على نجاح سريع لخطة «ديترويت وان» قد يحفظ له حظوظ البقاء في منصبه المفرّغ في الوقت الراهن من معظم صلاحياته لصالح مدير الطوارئ، أور، الذي يسعى الى سد عجز في ميزانية المدينة يفوق الـ٣٠٠ مليون دولار سنوياً.
لكن قائد شرطة ديترويت بالوكالة، تشستر لوغان، يجد أنه «من المبكر الحكم على مدى نجاح الخطة» دون أن يخفي تفاؤله بالقول إن «الشرطة بدأت بتلمس النتائج عملياً»، حيث داهمت قوى مشتركة في الشهر الماضي عدداً من أوكار تجار المخدرات تم خلالها إلقاء القبض على العديد من المشبوهين كما شهدت دائرة الشرطة في المدينة ارتفاعاً في عدد الغرامات وتحرير المخالفات.
والجدير بالذكر أن المدينة شهدت في العام ٢٠١٢ أعلى معدلات جرائم القتل منذ حوالي عقدين من الزمن، حيث وصلت النسبة إلى 54,9 جريمة قتل لكل 100 ألف نسمة، دون حسبان من يقتلون على أيدي الشرطة، أي ما يوصف بـ«القتل المبرر». وأمام هول الأرقام تقول المدعي العام الفدرالي لشرق ميشيغن، باربرا ماكويد، إن السلطات وجدت نفسها مضطرة لفعل شيء فمعدل «أكثر من جريمة قتل يومياً، يعتبر في نظرنا معدلاً فائقاً.. وهذا كان مؤشراً صريحاً بالنسبة لنا».
تعاون الأهالي مفتاح النجاح
وتأتي خطة «ديترويت وان» على خطى نموذج ناجح طبق في واشنطن العاصمة، حيث تراجعت نسبة جرائم القتل فيها إلى 13,9 لكل 100 ألف نسمة عام 2012، وقد أرجع المسؤولون هناك الفضل في نجاح الخطة المشتركة إلى عدة عوامل، بينها تشكيل وحدات لمكافحة العصابات وانتشار الأسلحة، ورفع مستوى التعاون وتبادل المعلومات بين مختلف الأجهزة إضافة الى تعاون سكان المجتمع المحلي الذي كان حاسماً في تراجع معدلات الجريمة في منطقة العاصمة.
ونشرت دائرة الشرطة في واشنطن تقريراً جاء فيه ان عدد جرائم القتل في المدينة بلغ 186 جريمة عام 2008 لينخفض الى 88 فقط في العام 2012.
ولكن عوامل النجاح هذه قد لا تكون متوفرة في ديترويت. إذ يقول رون سكوت من «التحالف ضد العنف البوليسي» إنه يخشى أن تتحول خطة «ديترويت وان» إلى عملية شبه عسكرية لمكافحة الجريمة في المدينة. وأضاف «أخشى من تضاؤل الدور المناط بالشرطة المحلية» لصالح دوائر أخرى ما يفقد الخطة تفاعل المجتمع معها. وهذا ما ترفضه ماكويد التي تؤكد أن مسؤولي الأمن التقوا بقيادات محلية ولمسوا ترحيب المواطنين بالخطة لرغبتهم في بسط الأمن بأحيائهم، وقالت إن اسم «ديترويت وان» (ديترويت موحدة) قُصد به الجهود الموحدة بين الجميع بما في ذلك المواطنين، وأضافت أن المواطنين عليهم التعبير عن رأيهم طالما كانوا هم الضحايا أو الشهود على الجرائم.
ولكن سكوت يقول «إن الناس في ديترويت ليسوا في حاجة الى الخطط الأمنية وحسب، بل هم في حاجة ماسة الى الخطط الإجتماعية»، وتابع قائلاً إن إلقاء القبض على أعداد كبيرة من المجرمين ومصادرة كميات من الأسلحة ليس هو الحل على المدى البعيد، معتبراً أن المعالجة الأمنية وسياسة «القبضة الحديدية» ستلحق ضررا بالديمقراطية.
ويُعتبر تعاون الأهالي أساسياً في نموذج واشنطن، حيث اعتمدت السلطات على وسائل للتعاون مع المواطنين في الجوار وذلك من خلال تبادل البلاغات عبر الرسائل النصية حيث كانت الشرطة تعلم الجيران بعمليات القبض على المجرمين في أحيائهم. وفي حال لم تلق السلطات التعاون نفسه من أهالي ديترويت، فمصير «ديترويت وان» محكوم بالفشل برأي الكثيرين.
«ديترويت وان».. وخطوات مرافقة
والجدير بالذكر أن خطة «ديترويت وان» -الأمنية المشتركة- تتعاون فيها عدة دوائر وتشمل شرطة ديترويت، شرطة شريف مقاطعة وين، مكتب الادعاء العام في المقاطعة، شرطة ميشيغن، مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي)، دائرة السجون في الولاية، مكتب الادعاء الفدرالي لشرق ميشيغن، ووكالة مكافحة المخدرات (دي إي أي).
وبموجب الخطة سيتواجد ممثلون عن مكتب الادعاء الفدرالي ومكتب الادعاء في مقاطعة وين، ليل نهار في مراكز الشرطة في ديترويت لاصدار مذكرات التفتيش وتوجيه التهم، كما أن الاجهزة المختلفة سوف تعقد اجتماعات منتظمة لتبادل المعلومات حول المجرمين وأماكن تواجدهم في أخطر أحياء المدينة. وتعوّل ماكويد على تحقيق إنجازات أمنية نتيجة رفع مستوى التعاون وتبادل المعلومات وهو ما وصفته بأسلوب «لم يسبق لنا أن اعتمدناه من قبل».
ولا تأتي خطة «ديترويت وان» منعزلة. فقد وفرت دائرة السجون في الولاية، مع بداية العام الجاري، موقعاً الكترونياً يتيح لضباط الشرطة من مختلف الأجهزة في الولاية الاطلاع على المعلومات المتعلقة بالمجرمين عبر شبكة للمعلومات تتضمن تفاصيل عن التهم الموجهة لهم والأحكام الصادرة بحقهم وظروف الافراج عنهم وأماكن اقامتهم وتاريخهم العسكري والوظيفي وحتى انتماءاتهم للعصابات.
كما أسهمت تبرعات من القطاع الخاص بتوفير ١٠٠ سيارة دورية جديدة لشرطة ديترويت، وذلك لمساعدة الضباط في اداء المهام الموكلة اليهم في مكافحة الجريمة. وقد تم تمويل هذا البرنامج من شركات تجارية كبرى رفعت استثماراتها في المدينة والمنطقة عموماً. كما أعادت الولاية افتتاح سجن في ديترويت لاحتواء الأعداد المتزايدة من الموقوفين، حيث من المعروف أن السلطات في المدينة تضطر الى الإفراج عن العديد من المرتكبين بسبب اكتظاظ السجون.
من جانبه، أعرب رئيس نقابة ضباط الشرطة في ديترويت، مارك دياز، عن امله في نجاح «ديترويت وان»، منوها الى وقوع إصابات بين أفراد الشرطة أثناء المداهمات خلال الشهر الأول من تطبيق الخطة. ومن المعروف أن دائرة الشرطة في ديترويت تعرضت لاقتطاعات كبيرة في الميزانية، يعتقد البعض أنها تسببت بالمقابل بارتفاع ملحوظ في مستويات الجريمة داخل المدينة وضواحيها. وقد حاولت الإدارة، التي تعرضت لنكسة بعد فضيحة جنسية طالت قائد الشرطة السابق رالف غودبي، استيعاب الموقف عبر دفع ٨٠ بالمئة من موظفيها للقيام بدوريات ميدانية، وذلك بهدف زيادة التواجد الأمني في الشوارع والأحياء، ولكن جاء ذلك على حساب تفكيك وحدة مكافحة العصابات (المراهقين) وتقليل عدد العاملين في وظائف مكتبية.
Leave a Reply