يعيش أهل بلدي وبينهم ما فيــش
تعــارف يخـــلي التحـالف يعـيـش
تعيش كل طايفه من التانيه خايفه
وتـنـزل ستـايـر بــدايــر وشـيــش
لكن في الموالد يا شعبي يا خالــد
بنتـلمّ صحبــه ونهـتـف: يعـيش!
أحمد فؤاد نجم
الشهيد شكري بلعيد |
ازمة مرحلة الانتقال الديمقراطي: المراوحة فـي المكان
مثلت الثورة التونسية دور المُلهم والشرارة الأولى التي كانت وراء عديد الثورات الأخرى في المنطقة العربية، ورغم كل ما يقال فيها بين شاكر وناكر لدورها الطلائعي وأصالتها فإنّ كلّ المتابعين للواقع التونسي، في عهد زين العابدين بن علي، يدرك أنّ منطلق الثورة هي حركة رفض شبابي لإستفراد عائلة بأغلب مُقدّرات البلاد والدولة في ظل حالة خانقة من البطالة وضيق الحريات وإنسداد الآفاق أمام الشباب وهم أوسع شريحة من مكونات الشعب التونسي، ممّا أدّى إلى إنفجار الشارع وسقوط النظام وفرار رئيس البلاد.
خلال المرحلة الإنتقالية، بعد الثورة، تمت إنتخابات المجلس التأسيسي وتشكلت حكومة من إئتلاف ثلاثة أحزاب (ترويكا) بزعامة حركة «النهضة» الإسلامية ومشاركة حزبي «المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي إنتُخب رئيسه محمد المنصف المرزرقي رئيسا للدولة، و«التكتل من أجل العمل والحريات» الذي إنتُخب زعيمه مصطفى بن جعفر رئيساً للمجلس التأسيسي.
وإنصرفت حكومة «الترويكا» لقيادة مرحلة اصطلح على تسميتها «بمرحلة الإنتقال الديمقراطي» وإنجاز مهمات مستعجلة هي: أوّلا مواجهة المشاكل الإقتصادية والاجتماعية المُلِحة مثل التشغيل وتحسين ظروف المعيشة اليومية للمواطن، وثانياً كتابة دستور للبلاد (في غضون سنة) يضع الأسس لحياة ديمقراطية للجمهورية التونسية الثانية، وثالثاً تحقيق العدالة الإنتقالية لكل المظلومين وتقديم المذنبين للقضاء، ورابعاً التحضير للإنتخابات التشريعية القادمة عبر تحديد تاريخ للإنتخابات وتعيين هيئة مستقلة للإشراف عليها.
إلاّ أنّه ورغم مرور سنتين على الثورة وأكثر من سنة على نهاية المرحلة الإنتقالية المفترضة، لم يشعر المواطن التونسي بأيّ تغيير في الأوضاع، حيث لم يتم كتابة الدستور رغم تجاوز المُهلة القانونية ولم تُحل مشاكل البطالة العاجلة وتنامت أعداد العاطلين عن العمل ممّا زاد في حراك الشارع الذي طالب بمكافحة الإرتفاع الكبير بأسعار المواد الغذائية والإستهلاكية وهو ما زاد من أعباء الأسرة التونسية المُثقلة أصلا بالهموم الحياتية.
وقد دشنت الحكومة مشاورات منذ ستة أشهر بهدف تحوير وتوسيع الحكومة ولم يشهد هذا التحوير النور وقد أقرّ رئيس الحكومة حمادي الجبالي بتباطؤ المجلس التأسيسي في إنجاز مهامه وطالب رئيس المجلس مصطفى بن جعفر بالإسراع في تحديد تاريخ نهائي للإنتخابات العامة، كما أكّد الجبالي أنّ التعديل الوزاري طال انتظاره «وأُضيع الكثير من الوقت» وهو أمر مخالف لـ«مطالب الشعب وأهداف الثورة».
ومع تواصل الأزمة الإقتصادية والإجتماعية وتفاقم التجاذب السياسي توسّع الشرخ بين «الترويكا» الحاكمة والمعارضة التي رفض أغلبها المشاركة في الحكومة الجديدة وإنصرفت بإهتمامها للتحضير للإنتخابات القادمة عبر دخولها في تحالفات مُوسّعة، دشّنها اليسار بجمع كل أحزابه في «الجبهة الشعبية» وأيضاً تحالَف «نداء تونس» و«الحزب الجمهوري» و«المسار الديمقراطي» ضمن حلف إنتخابي آخر.
وفي ظل التأزّم السياسي وإختناق الشارع جاء إغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد ليزيد في غليان وإحتقان التونسيين الذين باتوا اليوم على شفا ثورة ثانية لتصحيح مسار الثورة الأولى.
انقلاب على النهضة أم فشل الترويكا أم ضريبة الصراعات الإيديولوجية؟: الشرخ يتّسع
استفاقت تونس على خبر إغتيال مجهولون يوم الأربعاء السادس من شباط (فبراير) المعارض شكري بلعيد (49 عاماً)، الأمين العام لـ«تيار الوطنيين الديمقراطيين الموحد»، وقد تمّ الإغتيال حسب وكالة الأنباء التونسية عندما كان بلعيد في سيارته قرب منزله صباحاً وهو بصدد المغادرة نحو عمله حين تلقى خمس رصاصات قاتلة من مجهولين.
ويعتبر بلعيد أحد أبرز قياديي «الجبهة الشعبية» التي تشكلت من تحالف لأحزاب اليسار مع قوى قومية وبعض المستقلين في إلتقاء سياسي جبهوي إستعدادا للإنتخابات التشريعية والرئاسية المقررة في منتصف هذا العام.
وعُرف المحامي بلعيد بمعارضته لنظام بن علي ونضاله السياسي والنقابي ضد المنظومة الحاكمة منذ أن كان طالبا في الجامعة ثم استمر نضاله بعد تخرجه ومزاولته مهنة المحاماة. إلتحق بلعيد بعد الثورة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي. واختار بلعيد كما أغلب أحزاب اليسار أن يظلوا خارج الحكومة كمعارضين لإعتقادهم بجوهرية الخلاف في المنطلقات والأهداف بينهم وبين «الترويكا» الحاكمة وخاصّة حركة «النهضة». وقد مارس بلعيد كما بقية قيادات اليسار نقدا متواصلا لسياسات «الترويكا» لرغبة «النهضة» الجامحة في التغلغل في مفاصل الدولة والعودة بالبلاد الى محاولة التفرد الحزبي التي مارسها حزب «تجمع بن علي». وقد اتهمت الحكومة بلعيد مرات عديدة «بوضع العصي في العجلات» وبـ«إشعال الفتن» خاصة بعد أن وُجّه له اتهام مباشر بتأجيج وإشعال الإضرابات التي وقعت في محافظة سليانة الجهة التي ينتمي إليها بلعيد.
ويتوقع ملاحظون أن تسوء الأمور أكثر ويزداد غضب الشارع خاصة وأنّ بلعيد اغتيل في اليوم التالي من مشاركته في برنامج تلفزيوني إتّهم فيه حركة «النهضة» بإعطاء الضوء الأخضر لممارسة العنف وتنفيذ جرائم الإغتيال. وقد برز التوجه نحو اتهام «النهضة» بالإغتيال من عائلة الفقيد حيث إتّهمها أخوه بالإغتيال كما اتهم المعارض المعروف حمة الهمامي، الأمين العام لـ«حزب العمال» والناطق الرسمي بإسم «الجبهة الشعبية»، الحكومة بالمسؤولية على الإغتيال كما إتّهم قائد السبسي رئيس حزب «نداء تونس» ورئيس الحكومة الانتقالية السابق «حكومة النهضة» بالإغتيال كما سارت أحزاب الوسط أو ما اصطلح على تسميتها بـ«الكتلة الديمقراطية» داخل المجلس التأسيسي وخارجه في نفس الإتجاه واعتبرت الحكومة مسؤولة بسبب فشلها الأمني وانتشار السلاح في البلاد والتسامح مع الخطاب التكفيري للخصوم والذي كان وراء حالات العنف التي وقعت في البلاد والتي مورست بشكل رئيسي ضد أحزاب المعارضة من قبل جماعات متشددة تحسب على التيار الإسلامي «تُركت لها حرية الحركة لإرهاب الخصوم».
وفي معرض الإصرار على اتهام «النهضة» وشركائها في الحكومة، قررت أسرة بلعيد رفض حضور أحزاب «الترويكا» موكب الدفن والتعزية. وبدورها نددت «النهضة» بشدة بالإغتيال واعتبرته عمل «اجرامي» و«جبان»، وجاء التنديد من أمينها العام ورئيس الحكومة الحالي الجبالي وكذلك عبر زعيم الحركة راشد الغنوشي الذي قال إنّه على «القوى السياسية أن تكون صفاً واحداً ضد من يريد الزج بالبلاد في عدم الإستقرار»، وأضاف «إنّ الذين اغتالوا بلعيد يدفعون بتونس نحو حمام دم ولكنّهم سيفشلون». وإعتبر الغنوشي أن إتّهام «النهضة» هو «دعوة وتحريض الى ممارسة العنف ضد اعضاء وأنصار الحركة»، ودعا الجميع إلى «ضبط النفس والتعقل» وقال «عقلاء الناس لا يلقون بالتهم جزافاً».
ونتيجة لتوجيه أغلب الأحزاب السياسية التهمة بالإغتيال إلى الحكومة وإلى «النهضة» فقد قامت مجموعات من الغاضبين بمهاجمة مقرات الحركة في عدد من المدن وحرقت محتوياتها في أوّل بوادر لإنخراط الشارع في العنف ممّا قد يؤدي إلى فعل ورد فعل قد ينتهي في الأخير بما لا يحمد عقباه، أي حرب أهلية لا قدّر الله.
وقد قطع رئيس الدولة المنصف المرزوقي جولته الأوروبية وألغى حضور مؤتمر القمة الإسلامية بالقاهرة ليعود إلى تونس بعد أن برزت مؤشرات على تدهور الوضع، وقد أدان الرئيس الإغتيال بشدة، وبدأ مشاورات مع شخصيات إعتبارية ووطنية من أجل الإسراع بالبحث على حلول توافقية لتطويق الأزمة وتكوين حكومة وفاق وطني، وحسب كل المؤشرات تبدو محاولة الرئيس في طريق مسدود، لعدم إمكانية جمع الأطراف المؤثرة في حكومة واحدة نتيجة تشبث كل طرف بموقفه حيث رفضت حركة «النهضة» مقترح أمينها العام ورئيس الحكومة الحالي بتكوين حكومة تكنوقراط، ورفضت المعارضة التي اجتمعت في مقر «حزب العمال» بعد حادثة الإغتيال والتي ضمت ممثلين عن «الجبهة الشعبية» و«نداء تونس» و«الحزب الجمهوري» و«المسار الديمقراطي» و«الجبهة الوطنية التونسية» و«القطب الديمقراطي» و«التحالف الديمقراطي» وعدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي مقترح الحكومة.
واعتبر الناطق الرسمي بإسم «الجبهة الشعبية» حَمَّه الهمامي أنّ مقترح الحكومة «قد جاء متأخرا وهو غير كاف» ولذلك قرّر بعض أعضاء التأسيسي المنتمين للمعارضة تعليق عضويتهم في المجلس لغاية تحقيق مطالب استقالة الحكومة وسط تلويح بإنسحاب كامل أعضاء المعارضة في المجلس إذا لم يتم ذلك.
ويرى الهمامي أنّ الحل الصحيح يكمن في حلّ المجلس التأسيسي والإحتكام لإنتخابات عامة، وقد قررت المعارضة تكوين تنسيقية تتولى تحديد المطالب ومتابعة تنفيذها. كما ندّد الإتحاد العام التونسي للشغل وهو أكبر منظمة نقابية في البلاد بجريمة الإغتيال ودعا إلى الإضراب العام يوم الجمعة (مع صدور هذا العدد) كما قررت هيئة المحامين وهيئة القضاة الإضراب يومي السابع والثامن من الجاري، كما نددت منظمات وهيئات دولية وكذلك فرنسا عبر لسان رئيسها هولاند بالإغتيال.
وفي ردها على قرارات المعارضة اعتبرت أحزاب «الترويكا» ورئيس الجمهورية أنّ المجلس التأسيسي هيئة شرعية ومنتخبة لا يمكن حلّها إلاّ بعد الإنتخابات العامة القادمة. وقد قرر رئيس الدولة أن تقام جنازة رسمية لشكري بلعيد وأن يدفن في مربع الشهداء في مقبرة الجلاز ودعا الجيش للإنتشار لتأمين موكب الجنازة والمواطنين.
وقد أجمع أغلب التونسيين على أنّ إغتيال بلعيد هو عمل جبان وغير إنساني مهما كانت المبررات والخلفيات وإذا ذهبنا مع الإتجاه الذي يظن أنّ الفقيد قد أغتيل من أجل أفكاره، أي نتيجة تشنج معاد لمواقفه السياسية أو الإيديولوجية، فالأمر خطير لأنّ الرجل صاحب أسرة ومناضل ضد الدكتاتورية كطالب ومحام وسياسي وإنسان. وصراع الأفكار والسياسة والإيديولوجيات هو أمر يغني الحياة السياسية والفكرية أمّا الخوف من الأفكار والتشنج ضدها فليس عملاً مبرراً للعنف لأنّ الله اعطى الناس عقولا وكلفهم جميعا ليحاسبهم هو و«كل نفس بما كسبت رهينة».
وقد ذهب بعض المحللين إلى إحتمال قيام قوى معادية للثورة من الداخل بإستغلال التوتر الذي كان سائداً بين اليسار عموماً، وبلعيد خصوصاً، وبين التيار الاسلامي عموما لإحداث انقلاب على «النهضة» بسبب العداء لقيادة الإسلاميين للحكومة فإقتنصت القوى المعادية، حسب زعم البعض، الفرصة لإشعال فتنة في البلاد بإغتيال بلعيد خاصة بعد اتهامه للنهضة بالتحريض على القتل قبل يوم واحد من اغتياله ممّا سهّل حسب رأيهم إلصاق التهمة بحركة النهضة. وقد ذهب آخرون نفس الإتجاه، أي أنّ العمل مُدبّر من أجل زرع الفتنة والفوضى ولكن بأيادٍ تعمل لمصالح خارجية لعبت على التناقضات وإختارت توقيت الإغتيال ممّا زاد في توسّع الشرخ والتناقض بين اليسار و«النهضة»، ما يعني أنّ اغتيال بلعيد يأتي في سياق إقحام تونس في دوامة من العنف لغاية في نفس يعقوب.
ويعتقد بعض آخر أنّ سبب الإغتيال هو نتيجة فشل حكومة «الترويكا» في ضبط حالة التسيب الأمني التي تسببت بإنتشار فوضى السلاح المتدفق من ليبيا إضافة إلى عجزها في حلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة والتي اعترف ببعضها رئيس الحكومة في خطابه الأخير.
لقد أحدث اغتيال بلعيد شرخاً كبيرا في علاقات الأحزاب ببعضها وقسّم التونسيين وجعل أبواب مستقبل تونس مفتوحة على كلّ الإحتمالات، إلاّ أنّ هناك أمل في أن يَرْأَبَ العقلاء الصدع ويتبع الشعب صوت العقل فليس أمام التونسيين إلاّ التضامن وضبط النفس وضرب مثل آخر عن وحدتهم في أكثر الفترات صعوبة، بعد أن ضربوا مثلا في الثورة من أجل الحرية في ظل أكثر الأنظمة دكتاتورية، هذا دون إغفال إحقاق العدالة بالقبض على الجناة ومعرفة من يقف وراءهم وتقديمهم للمحاكمة مهما كانت صفاتهم أو مناصبهم.
حتى لا يكون بلعيد تونس معروف سعد لبنان: درء الفتنة الأهلية
لقد صدم إغتيال بلعيد أغلب الطبقة السياسية والشعب التونسي، لأنّه أوّل إغتيال سياسي بعد الثورة، بعد أن إعتقد «شعب الخضراء» أنّ أيّام الظلم والعسف والعنف السياسي قد ولت مع زوال عهد بن علي، إلاّ أنّ ما حصل أفاق الجميع على حقيقة وهي أنّ المناهضين لهذه التجربة الثورية الغضّة لا زالوا يتربصون بها الدوائر، وقد استطاعوا أن يدخلوا الشك بين السياسيين والذي قد يتسرّب إلى الشارع فينفلت ويحصل في تونس ما حصل في لبنان سنة 1975 عندما اغتيل السياسي معروف سعد في صيدا، فكان إغتياله سبباً من أسباب تفجر حروب لبنان الأهلية ودمارها الذي طال لسنين عديدة.
إضافة الى الأزمة الخانقة التي كانت تمر بها البلاد والتوقيت الذي اختير لإغتيال بلعيد الذي زاد في إرباك الجميع، ساسة وشعب، فقد وجّهت أصابع الإتهام نحو النهضة أو السلفيين، وقد يكون هذا هو الهدف الذي اختير له التوقيت لإلباس النهضة التهمة دون غيرها، وإبعادها عن أطراف أخرى مفترضة ولها مصالح وأجندات أخرى من وراء حادثة الإغتيال.. فكما كانت الفتنة المذهبية وسيلة تفتيت دول عربية مشرقية، فإن الدول التي لا توجد فيها مذاهب قد تكون الفتن السياسية الإيديولوجية هي «الورقة الرابحة» لتأجيج حروب اهلية في تونس وغيرها،لذلك تقتضي المرحلة من الجميع توخي الحذر وانتظار نتائج التحقيق.
إنّ ما بعد كل ثورة أعقد ممّا قبلها، وهي مرحلة تتطلب صبراً وجلداً لذلك على كل السياسيين التونسيين أن يساهموا في إيجاد مناخ إيجابي يمكن من خلاله تجاوز المحنة والإنطلاق نحو مرحلة أكثر توافقية. وعسى أن يكون دم الشهيد بلعيد شمعة تنير درب التونسيين وتوحّدهم كما وحّد دم المناضل فرحات حشاد الذي إغتالته فرنسا التونسيين ضد المستعمر الفرنسي.
Leave a Reply