نبيل هيثم – «صدى الوطن»
حين قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يسلك طريق المغامرة -أو قل المقامرة- مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبر محاولته تلقين درس قاس لسلاح الجو الروسي باسقاط طائرة الـ«سوخوي» في أجواء الحدود السورية-التركية، بدا وكأن «السلطان» قد راهن على «زهرِه» الجيّد في لعبة الطاولة «العثملّية»، فتناسى أنّ النزال مع الروس، لا يمكن أن يكون سوى بلعبة الشطرنج التي يجيدها «القيصر».
يوم اختار أردوغان التصعيد ضد بوتين، كان أحد المستشرقين الروس يجيب على تساؤلات محدّثيه اللبنانيين بشأن مستقبل العلاقات الروسية-التركية، بالقول حرفياً «بوتين قيصر.. ولا سلطان يعلو فوق قيصر».
بالأمس، تبدّت صحة تلك المقولة. نزل أردوغان عن عرش السلطنة، وتوجه الى عاصمة القياصرة، سانت بطرسبرغ، للقاء بوتين، طالباً فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، وتعاوناً أكبر مع «الصديق الكبير» إزاء القضايا الاقليمية والدولية.
دوافعٍ اقتصادية
لا شك في أن الاقتصاد هو المحرّك الأول للانعطافة الأردوغانية، بعد أشهر من التعالي، وانكار الأثر المدمرّ للعقوبات الروسية على الاقتصاد التركي. طال الأمر على أردوغان بضعة أشهر، ليدرك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عليه، أن تركيا في حاجة الى استعادة الترابط الاقتصادي والتجاري مع روسيا، وأن اقتصادها في عطش لتدفق السياح الروس إلى المنتجعات السياحية التركية.
يكفي النظر سريعاً الى الأرقام الرسمية الصادرة عن الكرملين بشأن العقوبات المفروضة على تركيا، لإدراك حجم الكارثة التي يمكن أن تلحقها سياسات أردوغان، في ما لو استمرت على النمط نفسه. وبحسب تلك الأرقام، فإن المبادلات التجارية بين روسيا وتركيا تراجعت، بفعل العقوبات الرئاسية التركية، بنسبة 43 بالمئة الى 6.1 مليارات دولار بين شهري كانون الثاني (يناير) وأيار (مايو) الماضيين، في حين تضررت السياحة التركية على نحو غير مسبوق بعد توقف الرحلات الروسية، إذ تراجع أعداد السياح الروس بنسبة 93 بالمئة في حزيران (يونيو) الماضي، مقارنة مع الشهر نفسه من العام 2015.
وبالرغم من أن الاقتصاد التركي كان المتضرر الأكبر من الأزمة القائمة بين أنقرة وموسكو، إلا أن الروس يدركون، بدورهم، أن استمرار التوتر بين الجانبين يمثل خسارة على اقتصاد بلادهم، على المدى الطويل، لا سيما في ظل استمرار العقوبات الغربية على روسيا، على خلفية الأزمة الأوكرانية.
ولا يقلل من أثر ذلك امتلاك الاقتصاد الروسي أسساً ثابتة لمقاومة المتغيرات الخارجية، والفضل في ذلك يعود إلى الخطة الاقتصادية التي دأب الرئيس بوتين على اعتمادها حين تسلم رئاسة الحكومة الروسية، أثناء العهد الرئاسي لصديقه ديميتري ميدفيديف، وهي الفترة الانتقالية بين عهدين رئاسيين لسيّد الكرملين الحالي.
وذلك، بات واضحاً أن ثمة حاجة متبادلة من قبل الأتراك والروس لتبديد التوتر القائم، وهو ما تبدّى بشكل الارتياح الذي استقبلت به البورصتان الروسية والتركية زيارة أردوغان الى سانت بطرسبرغ، لجهة انتعاش الروبل الروسي والليرة التركية سريعاً.
وكان واضحاً أن الهواجس الاقتصادية المشتركة قد ساهمت في تسريع عملية اعادة الدفء في العلاقات الثنائية، التي استغرقت أسابيع قليلة جداً، مقارنة بفترة القطيعة الطويلة، منذ بادر أردوغان الى توجيه رسالة الاعتذار الى بوتين، والتي استقبلها الأخير بالاعلان عن رفع تدريجي للعقوبات، استؤنفت من خلالها الرحلات السياحية الروسية الى تركيا.
ومما لا شك فيه بأن الزيارة التي قام بها أردوغان إلى سانت بطرسبرغ ستؤتي ثمارها الاقتصادية سريعاً، لجهة رفع القيود على التبادل التجاري، والأهم اعادة احياء مشروع انبوب الغاز الروسي الذي يفترض أن ينقل 31.5 مليار متر مكعب سنوياً الى تركيا عبر البحر الاسود، ومحطة «أكويو» النووية.
تقارب وانقلاب
ويبدو كذلك أن التقارب السياسي، بمفهومه الشامل، قد تقاطع مع الهاجس الاقتصادي المشترك في سلوك مسار تصفير المشاكل بين تركيا وروسيا.
اولى ظواهر هذا التقارب تبدّت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان، وما رافقها من توتر في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، التي تستضيف الداعية الاسلامي فتح الله غولن، الذي تتهمه تركيا بالوقوف وراء الحركة الانقلابية.
تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة لا شك أنها تركت أثارها على أردوغان، وذلك على مستويين: الأول، ادراك الرئيس التركي بأن ثمة حاجة الى استدارة سياسية نحو روسيا التي وقفت الى جانبه في محنته، لاسيما وأن الولايات المتحدة خذلته، وربما تآمرت عليه، في الحركة الانقلابية تلك، أو أنها بالحد الأدنى قد أرادت توجيه رسالة سياسية اليه، من بوابة المجموعة العسكرية المتمردة، بأن نظامه ليس مستقراً، فراح يبحث عن الأمان لدى حليف جديد معاد للأميركيين، أي بوتين.
والثاني، هو ان التطورات التي جرت في تركيا مؤخراً، والحرب المفتوحة على «الكيان الموازي»، المتمثل بجماعة غولن، دفعت أردوغان الى الانكفاء نحو الداخل، لترميم آثار الانقلاب الفاشل، وهو ما يتطلب منه كبح الاندفاعة الاقليمية، والإقرار بأن ثمة حاجة الى حل للقضايا الملتهبة، وعلى رأسها الصراع في سوريا، وفق مقاربة مقبولة، تتمثل في الوجهة الروسية للحل السياسي.
وفي ظروف المواجهة المتصاعدة مع الغرب، يحاول الرئيس التركي لعب ورقة موسكو، وذلك بهدف إضعاف ضغط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتجنب العزلة الخارجية.
ومن الناحية العملية، فإنّ زيارة أردوغان الى روسيا، وهي الأولى الى الخارج منذ الانقلاب الفاشل، تعني عمليا عودته إلى المحافل الدولية بعد احباط مخططات الانقلابيين. ولا بد من التذكير أنه منذ الحركة الانقلابية الأخيرة، لم يتلق أردوغان اتصالاً واحداً من قبل القادة الأوروبيين، لا بل أن الضغط الخارجي عليه قد تزايد بشكل غير مسبوق، على خلفية تزايد القمع السياسي، لا سيما بعد عمليات التطهير الواسعة النطاق التي شملت مختلف القطاعات، والاعتقالات التي شملت الصحافيين.
مصالح متبادلة
وفي المقابل، فقد كان موقف موسكو من أحداث تركيا مختلفا تماماً عن موقف الدول الغربية، إذ سارع فلاديمير بوتين الى الاتصال بأردوغان إثر فشل المحاولة الانقلابية، وأعرب عن دعمه الشخصي له، لا بل أن معلومات تحدثت عن أن أردوغان تلقى بالفعل انذاراً بالانقلاب من روسيا، قبل ساعات قليلة على وقوعه، بعدما تمكن العسكريون الروس –أغلب الظن أنهم ضباط اتصال في قاعدة حيميم- من التقاط مكالمات لاسلكية بين مدبري الحركة الانقلابية، وأبلغوا الاستخبارات الروسية بفحواها على الفور، مما جنّب أردوغان الاعتقال في مرمريس، وهي خطوة، لو تحققت بالفعل، لكان شكل تركيا اليوم مختلفاً.
ورغم عدم تأكيد هذه المعلومات رسمياً، يبدو أن روسيا تلعب بدورها جيداً الورقة التركية، فبإحيائها العلاقات الثنائية مع أنقرة، تحصل على أداة للتأثير في الوضع في الشرق الأوسط، وفي مناطق استراتيجية اخرى.
ولأسباب براغماتية، فموسكو بحاجة إلى أنقرة، حيث لا يزال موقف الأخيرة في سوريا مؤثراً في الوضع، كما أن دورها مؤثر في شمال القوقاز، الذي يشكل «جهاديوه» مصدر قلق للأمن القومي الروسي.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك مشروع «السيل التركي» الذي يمكن أن تستخدمه روسيا للضغط على الاتحاد الأوروبي، للحصول على الضوء الأخضر لمد «السيل الشمالي-2».
ومن المؤكد، أن العلاقات الاقتصادية الروسية–التركية ستعود بشكل سريع إلى سابق عهدها، في حين ينبغي استطلاع المراحل اللاحقة للمصالحة البوتينية–الأردوغانية لرصد التقارب السياسي المحتمل، والذي ستترتب عليه الكثير من النتائج على المستوى الاقليمي، ولا سيما في ما يخص الصراع في سوريا.
ولكن ثمة مؤشرات خرج بها لقاء سانت بطرسبرغ في هذا الإطار، فبالرغم من التعارض في الرؤيتين الروسية والسورية إزاء مستقبل الرئيس بشار الأسد، إلا أن الملفت للانتباه كان إقرار أردوغان بـ«الدور الأساسي» الذي يمكن أن تلعبه روسيا في تسوية الازمة السورية، قائلاً إن «روسيا لاعب اساسي وشديد الاهمية من اجل احلال السلام في سوريا» و«هذه المشكلة ينبغي تسويتها من خلال تدابير مشتركة تتخذها روسيا وتركيا».
الميدان السوري
ولا شك أن تطورات الميدان السوري ستفرض نفسها على ايقاع التقارب التركي–الروسي إزاء سوريا، لا سيما أن زيارة أردوغان سبقها توحد كل الجماعات الارهابية في محاولة لكسر طوق حلب الذي ثبته الجيش السوري وحلفاؤه في ١٧ تموز (يوليو) الماضي، وفشلت قوى المسلحين في فكه رغم محاولاتها المتتالية في الأسبوعين الماضيين التي لم تحقق سوى ثغرة محدود في جنوب غرب المدينة.
وأعلن قائد دائرة العمليات في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، الفريق سيرغي رودسكوي، عن «تصفية أكثر من ألف مسلح، خلال الأيام الأربعة الأخيرة في جنوب غرب حلب، بالإضافة إلى إصابة أكثر من ألفين آخرين» وذلك غداة المحاولة الفاشلة لفك الطوق عن الأحياء الشرقية للمدينة التي تعج بالمسلحين.
وقال رودسكوي، إن «الوضع في ضواحي حلب الجنوبية – الغربية حرج للغاية، ويدعو إلى القلق»، مضيفاً أن «الإرهابيين قاموا خلال الأيام الأخيرة بتشكيل مجموعات بلغ أعداد أفرادها حوالي سبعة آلاف مسلح، ومدّتهم بالأعتدة العسكرية المناسبة، والسيارات والمدرعات المزوّدة بالسلاح».
ويدرك أردوغان جيداً ان القوات الروسية هي بالكاد على مسافة 30 ميلاً جنوبي الحدود التركية، وطياروها يقصفون يومياً المسلحين في حلب، وأن بوتين لن يتسامح مع تهريب الصواريخ عبر الحدود التركية، والتي اسقط احدها الطوافة العسكرية الروسية في ادلب مؤخراً.
وإذا كان الموقف التركي العلني يظل متبايناً مع موسكو بشأن مستقبل سوريا فإنه لا بد أن يكون للتقارب الروسي–التركي ثمنه السياسي بالنسبة إلى أردوغان في الملف السوري، ولا سيما في ما يتعلق بالحرب التي تخوضها روسيا ضد الارهاب هناك.. وربما يتطور الأمر إلى أبعد من ذلك، أي تغيير الوجهة التركية تجاه سوريا بشكل كلي، وهو ما عبّر عنه الكاتب البريطاني المخضرم روبرت فيسك بسؤال: «إذا كان أردوغان قد أسقط طائرة روسية ثم اعتبر بوتين صديقه…. فلماذا لا يفعل الشيء ذاته مع بشار؟».
بسبب غولن .. تركيا تلوّح بقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة
لوحت الحكومة التركية بقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة في حال لم تسلمها الداعية الإسلامي فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب منتصف الشهر الماضي، وذلك بعد أن شهدت العلاقة بين الدولتين الحليفتين توترا في الأسابيع الماضية.
وقال وزير العدل التركي بكر بوزداغ في تصريحات لوكالة أنباء الأناضول الحكومية «إذا لم تسلم الولايات المتحدة غولن فإنها ستضحي بعلاقاتها مع تركيا من أجل إرهابي»، وأوضح أن مشاعر العداء لأميركا لدى الشعب التركي بلغت ذروتها بسبب هذه القضية.
وتابع «يعود للطرف الأميركي أن يحول دون أن تتحول هذه المشاعر إلى كراهية»، مرجحا أن تقدم إدارة الرئيس باراك أوباما على تسليم غولن لأنقرة، لاسيما وأن الداعية فقد صفته «كأداة» بيد الولايات المتحدة وغيرها من الدول.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد ألمح في الفترة الأخيرة إلى أن رفض تسليم غولن سيكون له عواقب على العلاقات بين البلدين، متهما واشنطن بـ«حماية» خصمه.
ويأتي هذا التهديد بشأن مستقبل العلاقات بين الجانبين ليضاف إلى تصريحات أدلى بها مسؤولون في الحكومة التركية اتهموا فيها الولايات المتحدة بالتورط في محاولة الانقلاب في 15 تموز (يوليو) الماضي، وهو ما نفته الحكومة الأميركية التي أعلنت في عدة مناسبات دعمها للحكومة المنتخبة ديمقراطياً ورفضها للانقلاب الفاشل.
وترفض الإدارة الأميركية تسليم غولن الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا منذ عقود إلى تركيا من دون الاطلاع على أدلة تثبت تورطه في المحاولة. وتقول الحكومة التركية في المقابل إنها سلمت واشنطن ملفات ووثائق تؤكد اتهاماتها لغولن وتدعم طلبها بتسليمه.
وينفي غولن أي ضلوع له في محاولة الانقلاب. وقال أحد محاميه الأميركيين الأسبوع الماضي إنه لن يتم تسليم موكله لأن ليست هناك «ذرة دليل» ضده.
Leave a Reply