تكاد لا تخلو سهرة أو جلسة أصحاب أو محادثة بين اثنين من إلقاء النكت، بهدف الإضحاك، وترطيب الأجواء، أو إيصال رسائل خاصة في كثير من الأحيان. وتنجح النكت غالباً في إشاعة أجواء مرحة وحميمة.. يصل فيها الضحك إلى أعلى مستوياته، ناهيك عن آثاره الأخرى وفعاليته في تكوين وعي فردي مقاوم وناقد، في مواجهة بعض الظواهر التي أصبحت بمثابة حقائق ثابتة.
وفلسفة التنكيت.. قائمة أساساً على القدرة على النفاذ إلى حقيقة الأشياء وجوهرها، ومن ثم إدراك ذلك الفرق الشاسع بين تلك الحقيقة الجوهرية ومظاهرها الواقعية، ومن هنا بالضبط تنشأ المفارقة التي تنطوي على سخريات فاقعة. وبهذا المعنى.. ليس من المبالغة القول إن السخرية هي طريقة لتقويم الوقائع وكشف زيف “الحقائق”. ومن يفكر بالنكت التي يرويها الناس.. يلاحظ مقدار الذكاء الكامن وراء التقاط المفارقات، والتعبير عنها، بجمل وتعابير مختصرة ومكثفة غالباً. والأخطر في هذا الموضوع.. أننا لا نعرف من هم الأشخاص الذين يؤلفون النكت..
مؤلف النكتة شخص مجهول على عكس المؤلفين الآخرين، إذ قلما وجدت نكتة تنسب إلى شخص معين، والحقيقة فإن تأليف النكت أصعب من أنواع التأليفات الأخرى المعروفة في مجالات الأدب والكتابة والمسرح والسينما. وإذا خطر ببال أحد ما أن يؤلف نكتة تستقطب اهتمام الناس وتملك القدرة على إضحاكهم في جميع الظروف، فسوف يدرك مدى صعوبة الأمر.
والنكتة قديمة جداً، عرفها الإنسان وأنتجها ورواها منذ طفولته البشرية، ولكن للأسف لم تعرف النكتة طريقها إلى التدوين والتوثيق إلا فيما ندر. وبالتدقيق في طبيعة النكت الرائجة.. يمكن للمرء أن يقع على الأسباب الواقعة وراء ذلك، ولعل أكثرها معقولية.. كونها (النكات) تتجاوز التابوهات المعروفة في الثقافة العامة: الجنس، والسياسة، والدين.
وحتى في يومنا هذا، ما تزال معظم النكت وأكثرها رواجاً تتناول المواضيع ذاتها في السياسة والجنس والدين. وهذا يقود إلى التفكير بأن تاريخ “التحريم” والمنع قائمان في أساس الثقافات وأنظمة الحكم. ولكن ثمة سؤال في هذا الخصوص: هل صحيح أن الكبت يقود إلى مثل هذه الممارسات؟ والإجابة معقدة وعويصة.. ذلك أن الكثير من المجتمعات استطاعت أن تكسر تلك التابوهات وأقنية التحريم، بل أنها استطاعت تغيير منظومة القيم نفسها، ومع ذلك ظلت النكتة حاضرة في المجتمعات المنفتحة بالأساليب القديمة ذاتها، السخرية المرة، أو المفارقة المضحكة، التي تناوش عوالم السياسة والدين والجنس.
وقد تكون النكت الجنسية من أكثر النكت رواجاً في وقتنا الحاضر، ولا بد أنها كانت كذلك بالنسبة إلى الإنسان القديم، جدنا البعيد. وكما أن آدابنا وكتبنا الآن لا تضم الكثير من هذه النكت، الفاحشة، كذلك خلت وثائق أجدادنا من النكت الجنسية الفاحشة. ويمكن القول بالأمر ذاته.. بالنسبة للنكت الدينية والسياسية. لقد كان على الدوام ثمة ممانعات “سلطوية” أو أخلاقية، أو اجتماعية، تعمل على تضييق الخناق على انتشار النكت، وانتقالها بين الناس، ولكن النكت استطاعت على الدوام اختراق الحواجز والمحرمات والرقابات، ووصلت إلى معظم البشر، شفاهة، وعبرت الأزمان..
وقليلة هي الدراسات التي تتناول “حقيقة النكتة”، فأعمال من هذا النوع لا تخلو من المخاطرة والمغامرة، ومن يقرأ عن تجربة الكاتب بوعلي ياسين الذي حاول أن يدرس النكتة ويوثقها ويفلسفها، يعرف مدى صعوبة هذا الموضوع.
في التنكيت، تقول أقدم نكتة سياسية مدونة، وعمرها خمسة آلاف سنة، وقد وجدت مدونة على أوراق البردي في مصر الفرعونية: كيف ترفع معنويات الفرعون سنوفرو حين يذهب لصيد السمك؟
الجواب: ترمي أحد العبيد بدون أن يدري ثم تصرخ بأعلى صوتك هناك سمكة كبيرة يا سيدي!
أما آخر نكتة، فهي نكتة جنسية، وبالطبع لا نستطيع أن نرويها هنا للأسباب التي تعرفونها!
Leave a Reply