صبحي غندور
ما يحصل فـي سوريا هو أشبه بتقاطع طرق لمشاريع عديدة فـي المنطقة، بحيث نرى تكاملاً بين بعضها وتناقضاً بين بعضها الآخر، لكن فـي المحصّلة هي «مشاريع» لها خصوصياتها الإقليمية أو الدولية، ولا أجد أنّ أياًّ منها يراهن على حربٍ إقليمية أو على مدّ نيران الحرب فـي سوريا إلى جوارها باستثناء «المشروع الإسرائيلي» الذي وجد مصلحةً كبيرة فـي تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها التقسيمية العربية، على مستوى الحكومات والشعوب. فإسرائيل لا يوافقها توصّل واشنطن وطهران إلى اتفاق كاملٍ بشأن الأوضاع فـي سوريا لأنّ ذلك يوقف النزيف الدموي فـي الجسم السوري، والعربي عموماً، ولأنّه يعني أيضاً تفاهمات أميركية/غربية مع إيران تتجاوز المسألة السورية، ممّا قد يدفع أيضاً بإعادة فتح الملف الفلسطيني ومسؤولية إسرائيل تجاهه.
أيضاً، فإنّ من غير المصلحة الإسرائيلية حدوث أي تسوية سياسية تُسرّع فـي إنهاء الأزمة السورية، لذلك، فإنّ تمكُّن الحكومة السورية من استعادة سيطرتها على مناطق إستراتيجية مهمّة يعني إخلالاً فـي ميزان القوى على الأرض وإمكانية حسمه لصالح خصوم إسرائيل فـي المنطقة، ولعلّ هذا ما يفسّر الغارات الإسرائيلية التي حدثت أكثر من مرّة فـي العمق السوري، وأيضاً الدعم والتسهيلات الإسرائيلية لبعض قوى المعارضة السورية فـي المناطق المجاورة للحدود مع سوريا.
إنّ المراهنات الإسرائيلية فـي الأزمة السورية هي على مزيدٍ من التفاعلات السلبية أمنياً وسياسياً وعدم التوصّل إلى أيِّ حلٍّ فـي القريب العاجل. فمن مصلحة إسرائيل بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشرق العربي والمهدّد لوحدة الأوطان والشعوب، والمنذر بحروبٍ أهلية فـي عموم المنطقة، والمُهمّش للقضية الفلسطينية، والمؤثّر سلباً على حركات المقاومة فـي لبنان وفلسطين. كذلك، تراهن حكومة نتنياهو على تصعيدٍ عسكري ضدّ إيران ليكون ذلك مدخلاً لصراعات مذهبية محلّية فـي المنطقة لتغيير خرائطها ولإقامة دويلات طائفـية وإثنية، ولتعزيز حاجة أميركا والغرب لإسرائيل بحكم ما سينتج عن الحروب الإقليمية، «الدينية» و«الإثنية»، من تفاعلات لأمدٍ طويل تثبّت مقولة: إسرائيل «دولة يهودية»!.
طبعاً، لم تكن إسرائيل أبداً خلال كل الأحداث المهمة بالمنطقة مجرّد «راغبٍ» و«متمنٍّ»، بل هي قوة مؤثّرة وفاعلة بشكلٍ مباشر أو من خلال واجهات أو علاقات مع حكومات وجماعات دولية وإقليمية. فهل يمكن أصلاً فصل الأزمة السورية الحالية عن الصراع العربي/الإسرائيلي وعن مأزق التسوية على المسار الفلسطيني، حيث كانت دمشق فـي العقدين الماضيين داعمةً للقوى الفلسطينية الرافضة لنهج «أوسلو» وإفرازاته السياسية والأمنية؟ ثمّ كانت دمشق – وما تزال – غير موقّعة على معاهداتٍ مع إسرائيل، كما جرى على الجبهات المصرية والأردنية والفلسطينية، فبقيت سوريا – ومعها لبنان- فـي حال الاستهداف من أجل فرض «التطبيع العربي» مع إسرائيل، بغضّ النظر عن مصير التسوية العادلة الشاملة لأساس الصراع العربي/الصهيوني، أي القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. وهل يمكن نسيان أنّ مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين يقيمون فـي لبنان وسوريا، وبأنّ ما يحدث، وما قد يحدث، فـي هذين البلدين سيؤثّر كثيراً على مصير ملفّ اللاجئيين الفلسطينيين؟!. ثمّ هل من الممكن أن تغفر إسرائيل لمن اضّطرها للانسحاب العسكري المذلّ عام 2000 من لبنان، بعد احتلال أراضٍ فـيه لأكثر من عقدين من الزمن، ثمّ لمن أفشل مغامرتها العسكرية وحربها المدمّرة على لبنان ومقاومته عام 2006؟!. أليس حتمياً حدوث انعكاساتٍ خطيرة على لبنان «الجيش والمقاومة والشعب» من جرّاء تداعيات الأزمة السورية واحتمالات نتائجها السياسية والأمنية؟!. ثمّ هل حقّاً أنّ التغيير المنشود فـي سوريا هو فـي نظامها السياسي الداخلي فقط، أم أنّ الهدف الكبير الهام لبعض الأطراف الدولية والإقليمية هو فصم العلاقة بين سوريا وإيران من جهة، وبين دمشق وموسكو من جهةٍ أخرى؟!.
هذه أبعاد خارجية مهمّة للصراع المسلّح الدائر الآن فـي سوريا، فهو إضافةً لكونه صراعاً على السلطة ومستقبل النظام، هو صراع إقليمي/دولي على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرفٍ داعمٍ أو رافضٍ للنظام الحالي فـي دمشق.
لكن المشكلة على الصعيد الداخلي السوري كانت فـي مراهنة بعض المعارضين للحكم على التحرّك الشعبي المسلّح و فـي المراهنة على تدخّل عسكري لحلف «الناتو»، كما حصل فـي التجربة الليبية، بينما نتيجتهما – عسكرة الحراك والتدخل الأجنبي – أدتّ فـي ليبيا إلى تفتيت الكيان وإلى حرب الميليشيات وليس إسقاط النظام فقط.
كذلك تكون مراهنة خاطئة أيضاً، ومميتة أحياناً، عندما تُمارس الحكومات العنف الدموي القاسي ضدّ قطاعاتٍ من شعبها، حتّى لو كان وسط هذه القطاعات مندسّون وإرهابيون. فالعنف المسلّح الداخلي
– مهما كان مصدره – يُولّد مزيداً من الأزمات الأمنية والسياسية، ولم ينجح فـي أيِّ مكان بتحقيق مجتمعات موحّدة مستقرّة.
فمن المفهوم استخدام العنف المسلح فـي مواجهة اعتداء خارجي، أو من أجل تحرير أرضٍ محتلة، لكن لا يجوز ولا ينفع هذا الأسلوب فـي تحقيق تغيير سياسي أو فـي الحفاظ على نظام سياسي. لأن الخطأ من جهة لا يبرّر الخطأ من الجهة الأخرى.
لكن لا يمكن، منطقياً وعملياً، اعتبار ما يحدث الآن فـي سوريا من صراعٍ مسلّحٍ – مهما اختلفت تسميته – «قضية داخلية» فقط، ترتبط بحركةٍ شعبية من أجل تغيير النظام. ولا يمكن تجاهل حقيقة أنّ درجة العنف فـي الأوضاع السورية الآن هي انعكاسٌ لحدّة أزماتٍ أخرى مترابطة كلّها بعناصرها وبنتائجها وبالقوى الفاعلة فـيها. ولا يمكن فصل الأزمة السورية عن الخلافات العربية-الإيرانية-التركية وعمّا حدث فـي العقد الماضي من أوّل احتلالٍ أميركي لبلدٍ عربي (العراق)، حيث كانت سوريا معنيّةً بأشكال مختلفة بتداعيات هذا الاحتلال ثمّ بدعم مواجهته. ولا يمكن عزل ظاهرة «داعش» فـي سوريا وغيرها من الجماعات الإرهابية عن نشأة «القاعدة» وامتدادها إلى العراق أولاً بعد الاحتلال الأميركي له.
إنّ سوريا هي قضية حاضرة الآن فـي كل الأزمات الدولية، وسيكون مصير الحرب المشتعلة فـيها، أو التسوية المنشودة لها، هو الذي سيحدّد مصير الأزمات الأخرى. كذلك، فإنّ استمرار الحرب يعني استمرار التأزّم مع طهران، ويعني مخاطر حرب إقليمية تشترك فـيها إسرائيل، إضافةً إلى التورّط التركي الكبير الحاصل فـي الأزمة السورية ممّا قد يؤدي إلى تورّط «الناتو» عسكرياً، وهو أمرٌ لا ترغب به الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون.
أيضاً، فإنّ مخاوف إدارة أوباما من زيادة نفوذ جماعات التطرّف المسلّحة فـي سوريا ومخاطر انتشارها إلى دول مجاورة، لا يمكن إزالتها من دون تسوية سياسية للحرب الدائرة فـي سوريا وعلى سوريا. فكلّما زاد التصعيد العسكري كلّما زاد نفوذ هذه الجماعات وتأثيراتها على مستقبل الأحداث فـي عموم المنطقة. ولا خيار الآن أمام إدارة أوباما إلاّ البحث عن تسوية سياسية ودعم مهمة المبعوث الدولي ديمستورا والجهود الروسية والمصرية لتسهيل هذه التسوية لدى الأطراف السورية المعنيّة بالأزمة، إذ ليست واشنطن بوارد التدخّل العسكري المباشر، ولا هي تثق بمصير السلاح الذي يمكن أن تقدّمه لبعض قوى المعارضة السورية.
مراهنات دولية وإقليمية كثيرة على الحرب فـي سوريا وصلت حتّى الآن إلى طريقٍ مسدود، كما هو أيضاً الخيار بالحلّ العسكري عند كلّ طرف. وستكون العقبة الكبرى أمام أي صيغة تسوية سياسية جادّة للأزمة السورية هي فـي جماعات التطرّف المسلّحة على المستوى الداخلي، وإسرائيل ومن لديها من عملاء أو حلفاء على المستويين الإقليمي والدولي. فلا مصلحة لهذين الطر فـين فـي إنهاء الصراع الدموي فـي سوريا أو فـي التفاهمات الدولية مع طهران، وما قد تفرزه من نتائج سلبية على كلٍّ منهما.
Leave a Reply