قبل نحو أسبوعين، وعلى أثر إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري عن مبادرته السياسية الجديدة في مهرجان الذكرى الـ 29 لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه والتي نوّه فيها بالمقاومة «التي لولاها لما كان للبنان وجود على الخارطة العالمية»، مثلما أشاد بعلاقة التنسيق التي تربطه بالبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير على طريق السعي لإحداث إختراق في جدار الأزمة الوطنية الكبرى التي تعيشها البلاد، في ذلك الحين خرجت إحدى الصحف اللبنانية (البلد) برسم كاريكاتوري لرئيس المجلس صوّره بعمامة وثوب سوداوين وعلى صدره صليب وفي يده عصا القدّاس وتحتها تعليق غني بالدلالات جاء فيه: «غبطة السيد نبيه».والواقع أن رئيس المجلس النيابي اللبناني بات منذ إندلاع الأزمة القائمة بين «فسطاطي لبنان» (بالإذن من أسامة بن لادن) أكثر شبهاً بالعملة اللبنانية التي لا يختلف فريقا النزاع على «شرعيتها» وقيمتها في الجمع بين اللبنانيين، وإن بدا ظاهراً أن بري يلبس أحياناً عباءة «المعارضة» ويلوّح بسيفها في لحظات يشعر فيها أن إعادة فريق السلطة «إلى صوابه» يتطلب زجراً أو تهديداً «بالأسوأ» إذا ما استمر على «عناده». لم ينل رئيس المجلس، والحال هذه سوى القليل من الإنتقاد الذي بقي في إطار «التهذيب» من قبل فريق الرابع عشر من آذار، إذا ما استثنيا الشطح الأخير الذي صدر عن زعيم اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط عندما وصفه بـ«صندوقة بريد» لـ«حزب الله» وهذا التوصيف كان يمكن وضعه دائماً في الخانة الإيجابية للدور الذي يؤديه طالما أن لا «بريد» قائم بين المتنازعين وهو (الرئيس بري) لم يجد ضيراً في هذا الدور وهو أكثر العارفين أن نقل «البريد الداخلي» والإقليمي والخاري بقي مقصوراً عليه في غياب أي طرف وطني قادر على مد الجسور بين الأطراف التي دخلت في حالة إنقسام لم تبقِ معه أي «لاعب» داخلي خارج الإصطفاف الحاصل بدرجات متفاوتة.هنالك شعور في أوساط كثيرة في لبنان والخارج أن مبادرة رئيس مجلس النواب أشعلت ضوءاً ولو خافتاً في النفق اللبناني المظلم وقدّمت «تنازلاً» بالنيابة عن فريق 8 آذار لا يجوز الإستهانة بمقداره، تمثل بالتخلي عن حكومة الوحدة الوطنية قبل إنتخابات الرئاسة وهو مطلب كانت المعارضة تصر على تحقيقه ولو في آخر لحظة قبل موعد الإستحقاق الرئاسي، مما جعل الفريق الآخر (14 آذار) يتشبث بمواقفه ويزيد من شكوكه إزاء ما يبطنه هذا المطلب من محاولة للإستيلاء على السلطة التنفيذية بعد «تعطيل السلطة التشريعية» بإقفال المجلس النيابي وحدوث فراغ في موقع الرئاسة الأولى، هذا بالرغم من كثافة التطمينات التي كان يقدمها الرئيس بري و«كفالته الشخصية» لأطراف المعارضة.أما وقد صارت حكومة الوحدة الوطنية مطلباً غير قابل للتحقيق بصورة عملية نظراً إلى عامل الوقت الذي سيجعل من هكذا حكومة من أقصر الحكومات عمراً لأنها ستستقيل حكماً بعد إنتخاب رئيس جديد للجمهورية إذا وفق الأطراف الى ذلك، وبعدما تجاوزت مبادرة بري هذا المطلب فإن ملاقاة المبادرة في منتصف الطريق أمر بالغ الأهمية في ذروة التأزم الداخلي والتوتر الإقليمي، لعل الضوء الذي أنارته في نفق الأزمة يكبر ويتمدد ويقدر اللبنانيون بواسطته على تلمس المخارج ومحاولة إنتشال بلدهم من براثن التدخلات الخارجية والتأسيس لمساحة من الحراك السياسي التوافقي ولو بحدوده الدنيا تجعل تمرير الإستحقاق الرئاسي وإنتخاب رئيس جديد بالتوافق محطة أولى للإنتقال إلى المحطات الأكثر تعقيدا حول موقع لبنان ودوره في أزمات المنطقة، وهل يبقى فيها ساحة للمشاريع الإقليمية والدولية و«صندوقة بريد» للرسال المدوية والدامية على حساب إستقراره وأمنه؟ أم يكتسب قدرا من المناعة الداخلية التي تحصنه من الإنزلاق إلى الحروب والفوضى الداخلية؟لقد دأب رئيس المجلس على إبداء الإلتزام بما يراه سيد بكركي فيما يخص شخص ومواصفات الرئيس المقبل للجمهورية ولعل الجسر غير المنظور الذي بقي ممتداً بينه وبين البطريرك الماروني طوال الأزمة هو الذي ظل يرفد رئييس المجلس بجرعات التفاؤل بإمكانية إجراء الإنتخابات الرئاسية في مواعيدها وأطرها الدستورية وأهمها نصاب الثلثين الذي يبدو أن التوافق حوله بين المرجعيتين المارونية (الدينية) والشيعية (السياسية) لم يأتِ إلا بعد إدراك المخاطر المحدقة بالكيان والصيغة إذا ذهب كل فريق في تصلبه إلى أقصى الحدود الممكنة وتعذر معه إنتخاب الرئيس، الذي يرضى عنه فريقا النزاع ولا يشكل تحدياً للحلفاء الإقليميين ولكنه في الوقت عينه لا يكون «موظفاً» عند أولئك الحلفاء.وكلما اقترب موعد الإستحقاق دون أن تظهر في الأفق ملامح «تسوية ما» قد لا يرضى عنها بعض الأطراف في الفريقين ولكنها تنجي لبنان من محظور الفوضى والفراغ، كلما خطا لبنان خطوة جديدة نحو حرب داخلية لم يمنع من إندلاعها حتى الآن سوى ذلك الصمام الإقليمي – الدولي الذي يقف قربه رئيس المجلس النيابي والبطريرك الماروني حارسين محاولين الإبقاء على «أمانه» من محاولات التخريب التي من شأنها جرّ البلاد إلى ما لا تحمد عقباه.لأجل ذلك يذهب البطريرك الماروني إلى حاضرة الفاتيكان للتزود بالدعم المعنوي والسياسي لخيارات توافقية يحيق بها أكثر من تهديد على الساحة المسيحية ذاتها والساحة اللبنانية بأكملها، وهو يعود إلى لبنان متسلحاً بهذا الموقف الفاتيكاني الحريص على الحفاظ على آخر معاقل المسيحيين في الشرق والذي يعمل على فرملة الإندفاعة الأميركية في لبنان خشية أن يكون المسيحيون فيه ضحية صراع من نوع آخر بين المسلمين أنفسهم هذه المرة، «إخترعه» الأميركيون في العراق وينذر بالتمدد نحو لبنان وهذا ما لا مصلحة للمسيحيين فيه على الإطلاق، لأنهم سيكونون الخاسرين بصرف النظر عن «المنتصر» و«المهزوم» في ذلك الصراع المذهبي المقيت الذي يخشى أن وباءه قد ينتشر في أكثر من بقعة من العالم الإسلامي.فهل يكون الظهور الإعلامي «غير العادي» لرئيس المجلس على شاشة برنامج «كلام الناس» إيذاناً بخروج «الدخان الأبيض» من مدخنة عين التينة بعد عودة «دولة» البطريرك صفير من الفاتيكان ولقائه الموعود مع «غبطة السيد نبيه» في بكركي؟ثمة رواية تاريخية تفيد أن معاوناً للرئيس السوفياتي الراحل جوزيف ستالين دخل عليه خلال اجتماعه مع الحلفاء المنتصرين في محادثات يالطة حول تقسيم مناطق النفوذ في العالم بعد الحرب الكونية الثانية. وهمس في أذنه أن قداسة الحبر الأعظم غير راضٍ عما يجري التداول به من تقسيمات في أوروبا، فأجابه الزعيم السوفياتي الفولاذي آنذاك: إتصل بالبابا واسأله عن عدد الدبابات التي في حوزته(!).بالطبع لم يتغير الحال مع البابا الحالي بينديكتوس السادس عشر وليس من شأن الرئيس «الفولاذي» المعاصر جورج بوش أن يسأل نفس السؤال الذي طرحه ستالين قبل أكثر من ستين عاماً لأن «سلاح» البابا يوحنا بولس الثاني أسهم بعد حوالي نصف قرن في تفتيت الأمبراطورية الستالينية بالصلاة لأجل البولنديين، ولأن بوش بحاجة إلى دعم «البابا الألماني» الحالي على الأقل لجلب ألمانيا إلى تأييد فرض عقوبات على نظام طهران، إذا لم يكن لأجل ضربة عسكرية لها تدل مؤشرات كثيرة على أن توقيتها هو ما يشتغل عليه ما تبقى من «المحافظين الجدد» في واشنطن.ولربما لهذه الأسباب وغيرها طار نائب الرئيس السوري فاروق الشرق إلى الفاتيكان ليصلها قبل بطريرك الموارنة في لبنان، لمحاولة وضع «نقاط سورية» على حروف «حماية المسيحيين في الشرق» قبل أن تتحوّل هذه الحماية إلى «خطة دولية» يباركها الحبر الأعظم ويمشي وراءها سيد البيت الأبيض وحلفاؤه الأوروبيون كلّ لأسبابه، وتجد سوريا نفسها خارج معادلتها بالكامل.ليس بلا دلالة أن يمهد وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشينر لزيارته إلى بيروت بإبداء «تفهمه» للغارة الإسرائيلية على الشمال السوري! وقبلها الطلب الصريح إلى سوريا أن تكف يدها عن لبنان!
Leave a Reply