كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بعد نجاحها في احتواء وباء كورونا في لبنان، تواجه حكومة حسان دياب مهمات أكثر تعقيداً بكثير، لانتشال البلاد من واقعها الاقتصادي المرير الذي جاء ثمرة عقود من السياسات المالية والاقتصادية البائسة.
لقد بدأت الحكومة في لبنان، الأسبوع الماضي، بتخفيف إجراءات التعبئة العامة لمواجهة وباء كورونا، وقد حققت نجاحاً لافتاً في احتواء الفيروس، إذ لم تسجّل في لبنان سوى 25 وفاة من أصل 740 إصابة بينما تعافى أكثر من 205، ليصنف لبنان من بين أفضل الدول في منع انتشار «كوفيد–19» وبشهادة منظمة الصحة العالمية.
وبناءً عليه، قررت الحكومة تمديد التعبئة العامة حتى 24 أيار الجاري، مع تخفيف شروط الإغلاق، والسماح بفتح المؤسسات تدريجياً، كما خففت القيود المفروضة على تنقل المواطنين، مع تحذير وزير الصحة الدكتور حمد حسن، للمواطنين بضرورة الالتزام بإجراءات التباعد الاجتماعي وعدم الاختلاط لمنع تجدد الوباء واستقبال الصيف من دون كورونا.
فحكومة دياب تستعد لصيف ساخن مليء بالمطبات السياسية، والاستحقاقات التي لا تقل سخونة لوقف الانهيار المالي والاقتصادي، وانتقال لبنان إلى مرحلة جديدة تقوم على الإنتاج بدلاً من الاقتصاد الريعي الذي أوصل البلاد إلى شفير الإفلاس،.
الأزمة المالية
يعاني لبنان من مرض اقتصادي مزمن بدأت أعراضه بالظهور في تسعينيات القرن الماضي، مع تبني سياسة الاستدانة، تحت شعار إعادة الإعمار، ورفع الفائدة على سندات الخزينة، لتكوين رأسمال كفيل بتثبيت سعر صرف الليرة عند 1,500 ليرة مقابل الدولار الواحد، بعدما وصل سعر الصرف إلى نحو ثلاثة آلاف لدى تسلم رفيق الحريري رئاسة الحكومة أواخر العام 1992.
فقد وصل الحريري إلى الحكم على صهوة «علاقاته الدولية» باعتباره الشخص الوحيد القادر على حماية النقد الوطني، لتبدأ معه «الحريرية السياسية» التي لم تعمل على بناء اقتصاد منتج، بل عملت على تعزيز الاقتصاد الريعي بالاستناد إلى العمليات المصرفية وتحويل العملة والمضاربات والاستثمار بالعقارات التي شهدت «فورات» دامت أولها من العام 1993 حتى العام 1996، ليبدأ بعدها الركود في ظل ارتفاع الدين العام من أقل مليار دولار إلى نحو 14 ملياراً، وازدياد العجز في الموازنة بشكل مضطرد، مما اضطر الحريري إلى الاستعانة بأصدقائه الدوليين لإنقاذ الوضع المالي.
أصدقاء لبنان
في العام 1996، انعقد مؤتمر دولي في واشنطن تحت اسم «أصدقاء لبنان»، لتوفير المساعدات من الدول الصديقة، وعلى رأسها دول الخليج، لاسيما السعودية. ورغم الهبات والقروض الميسرة وتعاقب مؤتمرات الدول المانحة، واظبت الحريرية السياسية على سياسة الاستدانة بفوائد مرتفعة للحفاظ على الاقتصاد الريعي، بإشراف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حتى شكلت ديون المصارف وفوائدها المتراكمة حوالي 90 مليار دولار من الدين العام، وهو ما نبّه إليه رئيس جمعية المصارف الأسبق فرنسوا باسيل، الذي دعا المصارف إلى وقف تمويل الدولة من أموال المودعين، فلم يسمع له أحد، وأُخرج من رئاسة الجمعية، قبل سنوات، وزادت الأزمة المالية تعقيداً.
حافظ لبنان على نظام الاستدانة و«سياسة تركيب الطرابيش»، بفضل المال السياسي الذي كان يتدفق إلى البلاد بين فينة وأخرى، مثل «المكرمات» التي تضخها السعودية أو قطر أو الإمارات.
فقد لجأ الرئيس سعد الحريري إلى استكمال ما نهج والده في مؤتمر «باريس–1»، فانعقد له «باريس 2» و«باريس 3»، وكانت كلها مسكنات مؤقتة، لأن الحكومات المتعاقبة لم تلتزم قط بالإصلاحات المطلوبة والمشروطة في تقديم المنح والقروض، وهذا ما اشترطته الدول المانحة بوضوح في مؤتمر «سيدر» الذي انعقد عام 2018، ولم ينفّذ.
في الواقع لم تسع الحكومات اللبنانية منذ انتهاء الحرب الأهلية على تغيير «قواعد الأزمة»، باستثناء الرئيس إميل لحود الذي اختار الرئيس سليم الحص لقيادة أول حكومة في عهده بعيداً عن الاقتصاد الريعي الذي رسخته «الحريرية السياسية»، فتم إقصاء رفيق الحريري من السلطة، وجاء مناهضون لسياساته المالية والاقتصادية بتولي الدكتور جورج قرم لوزارة المالية، حيث وضع أسساً لنظام مالي مختلف يقوم على الاستدانة من أجل الاستثمار في القطاعات المنتجة، لكن هذه السياسة وئدت بعد عودة الحريري السريعة إلى الحكم بعد انتخابات العام 2000.
خطة التعافي المالي
فبعد كل هذه السنوات التي رزح فيها لبنان تحت العجز المالي وعبء دين عام وصل إلى نحو مئة مليار دولار، وانكفاء «الدول الصديقة» عن مساعدته إلا بشروط، كما حصل في مؤتمر «سيدر»، وصولاً إلى عهد الرئيس الحالي ميشال عون الذي هادن «الحريرية السياسية» خلال أول ثلاث سنوات من حكمه بموجب «التسوية الرئاسية» التي عقدت بينه وبين الحريري الابن، ازدادت الأزمة الاقتصادية تعقيداً حتى بات لبنان اليوم على شفير انهيار مالي واجتماعي وأمني.
فالعونيون أسقطوا «الإبراء المستحيل» الذي كانوا يدينون به «الحريرية السياسية» منذ العام 1992، وأوقفوا كل نقاش حول المرحلة السابقة، متخلين عن شعار «الإصلاح والتغيير»، فوجدوا أنفسهم أمام شعب بات ثلثه يعيش تحت خط الفقر، فيما الطبقة الوسطى التي تعتبر صمام أمان النظام السياسي والاقتصادي في لبنان، آخذة في الانحسار، ليدرك العونيون متأخرين أن أولى أخطاء عهد عون، كانت بالإبقاء على رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، من ضمن التسوية الرئاسية، بينما كان الفريق الاقتصادي في «التيار الوطني الحر» يحمّله شخصياً مسؤولية ما وصلت إليه أوضاع البلاد المالية والاقتصادية، بسبب سياسة تثبيت سعر صرف الليرة.
هذا التعايش بين نهجين في التفكير داخل «التسوية الرئاسية»، أدّى إلى انفجار الشارع بوجه الطبقة الحاكمة في 17 تشرين الأول من العام الماضي، مع بدء ظهور ملامح الانهيار المالي الذي لم تنفع في كبحه بعض المحاولات الخجولة، من خلال ورقات إصلاحية ومؤتمرات، وصولاً إلى استقالة الحريري من رئاسة الحكومة.
انفضت التسوية الرئاسية واختار العهد، حسان دياب خلفاً للحريري، وهو شخصية مغمورة سياسياً وليس له مواقف معلنة من الصراعات الداخلية والدولية، وقد خاض تجربة في وزارة التربية في حكومة نجيب ميقاتي دون أن يترك أثراً يذكر.
ورغم صعوبة التحدي، قبِل دياب المسؤولية لإنقاذ الوضع المالي المتدهور، واتّفق مع رئيس الجمهورية على وضع خطة وبرنامج من أجل إخراج لبنان من النفق المالي المظلم، وقد وصل سعر صرف الدولار إلى نحو 4,500 ليرة، وارتفعت أسعار مختلف السلع، وبات على الحكومة أن تتحرك بسرعة لمنع الانهيار، فيما تتربص بها مختلف القوى السياسية، إما حفاظاً مكتسباتها أو لاستعادة السلطة في حال فشل دياب وطاقمه.
وضعت الحكومة خطة إنقاذية، مستندة إلى ما ورد في تقرير مؤسسة «لازارد» للاستشارات المالية، ومقترحات صندوق النقد الدولي، فأقرّت حصول «هيركات» مقنّع على مَن جنى أرباحاً عالية، من الفوائد، سواء من المصارف أو المودعين الكبار، كما ركّزت على إعادة هيكلة الدين العام للمصارف، وصولاً إلى تصفيره على مدى خمس سنوات وهو المقدّر بـ83 مليار دولار.
كذلك، شملت الخطة الإنقاذية، وقف دعم الكهرباء، التي تكبد الدولة حوالي ملياري دولار سنوياً، مشكلة الجزء الأساسي من الدين (حوالي 35 إلى 46 مليار دولار)، إضافة إلى إعادة النظر في القطاع العام وتخفيضه إلى النصف، إذ يبلغ عدد موظفي الدولة حالياً نحو 300 ألف شخص، نصفهم لا يعمل أو لا ينتج، وذلك نتيجة التوظيف السياسي الذي أنهك دوائر الدولة على مدى عقود، والذي استمر بعد العام 2017 من خلال توظيف نحو 5,500 شخص إضافي، فيما تم توظيف 35 ألفاً على مدار السنوات السبع الماضية.
ولا تقتصر الوظائف المعرضة للإلغاء على الجهاز المدني أو الإدارة، بل ستطال الاقتطاعات، المؤسسات العسكرية والأمنية التي يبلغ عديدها نحو 125 ألفاً. كما سيتم النظر في التعويضات ومعاشات التقاعد التي تحمّل الخزينة أعباءً تصل إلى حدود ملياري دولار سنوياً، فيما تبلغ قيمة رواتب الموظفين الحاليين نحو 6.5 مليار دولار، وهذه أعباء تثقل الموازنة وتفاقم العجز سنوياً، إلى جانب خدمة الدين التي ستكبد الدولة ما يقرب من سبعة مليارات دولار في موازنة 2020.
اقتصاد إنتاجي
يعتبر رئيس الجمهورية، أن الخطة التي وضعتها حكومة دياب، هي الأولى في لبنان التي تهدف لنقله من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج، إذ أن ما يستورده لبنان هو بحدود 20 مليار دولار سنوياً بينما لا تتجاوز صادراته ثلاثة مليارات دولار في أحسن تقدير، وهو ما يستنزف الميزان التجاري وخزينة الدولة من العملات الصعبة، لاسيما مع التهرّب من دفع الرسوم الجمركية، وهشاشة النظام الضرائبي غير العادل.
في المقابل تركز الخطة الإنقاذية على الاستثمار في قطاعي الصناعة والزراعة، مع تنشيط قطاعي السياحة والخدمات، دون التركيز عليهما فقط كما كان يحدث في العقود الماضية. فالسياحة تعتبر من أبرز مصادر العملة الأجنبية ومن أسس الاقتصاد اللبناني.
وتراهن حكومة دياب على زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي بشكل خاص لإيجاد توازن بين الاستيراد والتصدير، وهو ما اعتبره عون، بأنه إنجاز تاريخي للبنان، تحقق في عهده وإن تأخّر سنوات.
لقد مرّ لبنان بحروب وصراعات وأزمات متعاقبة أدت إلى توحش الاقتصاد الريعي لاسيما في ظل «الحريرية السياسية» التي ولّدت طبقة الـ4 بالمئة من فاحشي الثراء على حساب 96 بالمئة من اللبنانيين.
هذا النهج الذي اتبع بعد اتفاق الطائف يتحمل مسؤولية ما آل إليه وضع لبنان المالي والاقتصادي وحتى السياسي في ظل تشابك عالمي المال والسلطة.
«الحريرية السياسية» التي أرساها الحريري الأب، وحماها الحريري الابن، انقلب عليها عون بعد فض التسوية الرئاسية. ويبدو أن دياب الذي يتهمه خصومه بأنه أداة بيد رئيس الجمهورية، لن يتردد في هدم مقدساتها، وفي مقدمتها تحرير سعر صرف الليرة، الذي قلب خلال أشهر قليلة حياة اللبنانيين رأساً على عقب، بارتفاع الدولار الصاروخي وانكشاف العملة الوطنية، وبينما تبدو آفاق المساعدات الدولية مسدودة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي يسببها وباء كورونا، يبقى أمام الحكومة خيار صندوق النقد الدولي، الذي قرّرت التوجّه إليه والإطلاع على شروطه.
Leave a Reply