القوى السياسية اللبنانية أمام امتحان ماكرون
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
مع سير عجلة تأليف الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى أديب، يستذكر اللبنانيون هذه الأيام، حقبة «الوصاية السورية» وتشابهها المرير مع ما تمارسه فرنسا اليوم عبر رئيسها إيمانويل ماكرون الذي حضر إلى لبنان مرتين بعد انفجار مرفأ بيروت، حيث التقى رؤساء الكتل والأحزاب الرئيسية وأوعز إليهم بضرورة تغيير الحكومة وتشكيل أخرى «موثوقة» بوزرائها، للقيام بالإصلاحات المطلوبة دولياً ومحلياً.
تقمّص الدور السوري
إذن تقمّص الفرنسي، الدور السوري، مستسخاً التدخلات الأجنبية والعربية عبر تاريخ لبنان الحديث، الزاخر بالنفوذ الخارجي السافر في إدارة شؤون البلاد سواء بالاحتلال والانتداب أو الوصاية والرعاية وصولاً إلى زمن الدولة العثمانية.
ورغم التفاؤل الذي بثه الفرنسيون لدى بعض اللبنانيين، عبر سرعة تكليف رئيس جديد للوزراء –اختاره ماكرون بنفسه– إلا أن هذا التدخل المباشر، بالنسبة للكثيرين، ليس إلا مؤشراً سلبياً آخر على قصور لبنان وعجزه عن إدارة نفسه بنفسه، في ظل النظام القائم.
فالدول الضعيفة تبقى دائماً محكومة من الدول القوية سواء القريبة أو البعيدة، خصوصاً إذا كانت في موقع جيو–سياسي هام، كما لبنان، الذي لا يخرج منه محتل أو مستعمر أو وصيّ، حتى يعود إليه آخر، وهو ما ظهر في الدور الفرنسي المتجدد الذي بدأ منذ مؤتمر «سان كلو» عام 2007 للبحث في إصلاح النظام السياسي، مروراً بمؤتمر «سيدر» الاقتصادي عام 2018، وصولاً إلى زيارتي ماكرون الأخيرتين، اللتين تسعى من خلالهما باريس إلى استعادة نفوذها التاريخي في البلد الذي أنشأته قبل قرن من الزمن، ولاذي تعود إليه اليوم بمهمة «إنقاذية» لانتشاله من خطر «الزوال والاختفاء».
تشكيل الحكومة
منذ تسمية السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب لرئاسة الحكومة بإيعاز من ماكرون وموافقة معظم القوى السياسية، يستفيد الرئيس المكلّف من ضغط فرنسي على أقطاب الحكم في لبنان لتيسير مهمة تشكيل الحكومة، والتي كانت تستهلك أشهراً منذ انسحاب السوريين، وأحيانا كانت تصل الفترة إلى نحو سنة، كما في حكومة الرئيس تمام سلام، لأن المسؤولين اللبنانيين اعتادوا على تلقي التوجيهات من الخارج في ظل عجز النظام القائم عن حسم الخلافات الداخلية، بما في ذلك انتخاب رئيس الجمهورية.
وإلى جانب الثغرات الدستورية وغياب الآليات الواضحة لفض النزاعات السياسية، ساهمت الأزمات المتلاحقة في تعطيل البلاد مراراً تحت ظل غياب الراعي الدولي الصريح، الذي كان متمثلاً بـ«عنجر» قبل العام 2005، قبل أن يجد اللبنانيون أنفسهم في صلب الصراعات الدولية والإقليمية، من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» إلى الحرب على سوريا.
غير أن تسليم الأطراف الداخلية المبدئي بالدور الفرنسي المستجد كراع صريح للبنان المنكوب، أعاد اللبنانيين في غمضة عين إلى زمن الوصاية السورية حيث كانت تدار الخلافات خلف أبواب مغلقة، كما حصل في «قصر الصنوبر» مؤخراً.
إذ يأتي دخول الفرنسيين كأوصياء جدد على الساحة اللبنانية، بتنسيق محدود مع واشنطن، ورضى إيراني معلن، تمّ التعبير عنه بلقاء الرئيس ماكرون مع ممثّل «حزب الله» النائب محمد رعد، اعترافاً بتمثيله الشعبي وأحقيته بالمشاركة في السلطة، على عكس النهج المعتمد من واشنطن ودول الخليج المعادية لـ«حزب الله» التي ترفض أية مشاركة للحزب في الحكومة.
بل كان ماكرون أكثر وضوحاً بتقربه من «حزب الله»، عندما طلب تأجيل البحث في مسألة سلاح المقاومة، رغم انخراط العديد من الأطراف الداخلية بحملات ضده، قبيل وصول ماكرون إلى بيروت.
ولقد نجح ماكرون سريعاً في دفع عجلة تشكيل حكومة مستقلة تشبه رئيسها المستقل، بحصوله على غطاء سنّي من رؤساء حكومات سابقين، في مقدمتهم رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، إضافة إلى غطاء سياسي من كافة الكتل السياسية التي سمّته في الاستشارات النيابية، والتي تؤيّد تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين مدعومين سياسياً، بحيث تكون لها مهمة واحدة وسريعة، وهي إنقاذ الوضع المالي والاقتصادي المنهار، من خلال برنامج إصلاحي يشمل ملف الكهرباء والتدقيق في حسابات مصرف لبنان وتطهير إدارات الدولة وترشيقها، فضلاً عن محاربة الفساد ووقف الهدر.
الإصلاحات أولاً
الإصلاحات تتقدّم على ما عداها في تشكيل الحكومة، إذ أن فرنسا ودولاً مانحة أخرى اشترطت الإصلاح مقابل المساعدات وتنفيذ الإصلاحات، مما يستوجب أن تتألّف الحكومة من شخصيات لديها خبرة واختصاص وصاحبة سيرة حسنة، لقيادة مسيرة الإنقاذ.
وبحسب المعلومات المتاحة، تتركّز اتصالات الرئيس المكلّف، على حكومة مصغّرة ومنتجة ومنسجمة، ومدعومة من القوى السياسية، دون أن تكون ممثلة فيها، إضافة إلى التخلي عن العرف بتخصيص بعض الحقائب الوزارية لطوائف وأحزاب معينة، مثل أن تكون وزارة المالية للشيعة، أو وزارة الطاقة لـ«التيار الوطني الحر».
بل يركّز الرئيس أديب على أن تكون وزارات الطاقة والاتصالات والعدل والمالية، من خارج المحميات السياسية، لأنها الأكثر حاجة إلى الإصلاح، إذ مَن سيتولاها، ستلقى عليه مهمة معالجة إنتاج الكهرباء واستقلال القضاء ووقف التهرّب الضريبي والجمركي واعتماد سياسة ضرائبية عادلة.
مهلة الأسبوعين
ليس أمام الرئيس المكلّف، ترف الوقت لتشكيل الحكومة، كما كان يحصل في السابق، إذ لا يتحمّل لبنان طول الانتظار، لاسيما بعد انفجار المرفأ الكارثي وتفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسبة الفقر إلى 55 بالمئة وتراجع الاحتياط المالي لدى مصرف لبنان مما يهدد بإزالة الدعم عن المحروقات والطحين والدواء.
ولا يزال على الرئيس أديب أن يقدّم تشكيلته الحكومية إلى رئيس الجمهورية لإصدار مراسيمها بالتوافق معه، وفق الدستور، مما يستوجب عملياً التوصل إلى تفاهم مع الرئيس ميشال عون حول شكل الحكومة، وهو الذي طالب بحكومة من 24 وزيراً، كي يتابع كل وزير شؤون وزارته، في حين يرى الرئيس أديب، تقليل عدد الوزراء إلى 14 فقط، وقد يتم التوصل إلى عدد وسطي بينهما في هذا الشأن.
متى تولد الحكومة
ولادة الحكومة، ستكون على التوقيت الفرنسي، في منتصف أيلول (سبتمبر) الجاري، إذ تتواصل باريس مع بيروت للإسراع في عملية التأليف، وقد كلّف ماكرون، رئيس المخابرات الفرنسية، السفير السابق في لبنان برنارد إيميه، أن يقوم بمهمة متابعة الملف اللبناني، وهو ما كان يقوم به النظام السوري في لبنان، عبر قادة أمنيين، من غازي كنعان إلى رستم غزالي، حتى بات للبنان اليوم، معتمد أمني فرنسي يتابع الملفات الداخلية عن كثب، وفي مقدمتها تشكيل الحكومة، وهو الاستحقاق الأقرب، وتليه استحقاقات لا تقل تعقيداً لإطلاق ورشة الإصلاح التي يجب أن تبدأ في غضون ثلاثة أشهر، بحسب مهلة ماكرون التي تنتهي في كانون الأول (ديسمبر) المقبل.
فالرئيس الفرنسي يخطط للعودة إلى بيروت قبل نهاية العام الجاري للاطلاع بنفسه على ما أنجزته الحكومة من إصلاحات، حتى تعيد فرنسا تحريك ما اقترحه مؤتمر «سيدر»، بتوفير 11.5 مليار دولار للبنان.
وقد وُعد المسؤولون اللبنانيون، بمساعدات عاجلة بقيمة ثلاثة مليارات دولار، إذا ما استعجلوا في تشكيل الحكومة التي بات مصيرها متوقفاً على القوى السياسية التي عليها أن تسهّل التأليف، وتتحرّر من مطالبها الفئوية والسياسية، وتخرج من عقلية المحاصصة والمحسوبية، وفق ما قاله ماكرون في «قصر الصنوبر» حين أبلغ زعماء الكتل والأحزاب بأن عليهم مساعدة أنفسهم قبل أن يطلبوا المساعدة من الآخرين، وأن أول امتحان لهم هو في تشكيل الحكومة.
حتى الآن، تبدو الطبقة السياسية ممتثلة للقرار الفرنسي، وقد ظهر ذلك جلياً بتكليف السفير أديب، ولكن هل سينطبق الأمر ذاته على تشكيل الحكومة وبيانها الوزاري؟
Leave a Reply