لقد “اكتشفتها” القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الأزمات اللبنانية المتلاحقة على مدى العقود الأربعة الماضية: الحل في أيدي اللبنانيين الذين عليهم ابتكار الصيغ المناسبة والإتفاق حول خطوطها الرئيسة. أما دور الأشقاء والأصدقاء فيقتصر على “التسهيل” والمساعدة.
لكن اللبنانيين أنفسهم يبدون غير مقتنعين بأن لديهم القدرة على اجتراح الحلول لمشاكلهم. لذا تزخر تصريحاتهم وتنظيراتهم بالمعادلات والتوازنات ويبقون معلقين على حبال انتظار الحلول الخارجية، ولو أدى الأمر إلى تعليق العمل بدولتهم ومؤسساتها نتيجة الخلاف حول أي تفصيل من تفاصيل الأزمة التي تحاصرهم وآخرها أزمة المحكمة الدولية وتداعياتها على استقرارهم ووحدتهم.
ولقد وصلت درجة تعلق اللبنانيين بحبال الخارج الشقيق أو الصديق إلى حد رهن مستقبل بلدهم بخروج ملك من المستشفى بعد علاجه من “انزلاق غضروفي” أو تصريح من مرشد أعلى يدعوهم إلى عدم التعويل على محكمة “شكلية” ستعتبر قراراتها “باطلة ولاغية”.
واذا كان انزلاق غضروف في ظهر ملكي عول بعض اللبنانيين على الاستناد إليه قد “جمد” حياتهم السياسية لأسابيع، فإن “فتوى” المرشد الأعلى ببطلان المحكمة من شأنها إعادتهم إلى المربع الأول من الانتظار الذي ربما كان عليه أن يمتد إلى حين جلاء “الصورة الداخلية” لصراع القوى داخل دولة ولاية الفقيه، بين مرشد أعلى يسعى إلى إعادة الكلمة الفصل في الشؤون الإقليمية والداخلية الى احضان المؤسسة الدينية، ورئيس بدأ يتحرك ضمن هامش أوسع في مفاوضاته و”مناوراته” مع “المجتمع الدولي” التي ظهرت تجلياتها بالانفراج الفجائي في أزمة تشكيل الحكومة العراقية التي أبصرت النور ومثلت أمام البرلمان ونالت ثقته واقسمت اليمين الدستوري في غضون 48 ساعة بعد تعثر دام تسعة أشهر!
ربما توجب على القيادات اللبنانية المسترهنة اراداتها الى القوى الشقيقة والصديقة أن تستلهم العبر من القيادات العراقية التي لا تقل انقساماتها واصطفافاتها عن نظيراتها اللبنانية، لتخرج من أسر هذا الارتهان و”تصدق” ولو لمرة واحدة أن “أهل مكة أدرى بشعابها” وأن تبادر الى صياغة حلول “محلية” تضعها بين أيدي القوى الاقليمية من عربية وإيرانية وتركية فضلا عن الدولية الأميركية والغربية لتقول لها، مثلما فعل العراقيون: هذه حلولنا فتفضلوا بأخذ العلم وإسباغ المباركة ونحن لكم من الشاكرين!
ليس سرا أن “الحل العراقي” الذي أبصر النور الأسبوع الماضي كان ثمرة استغلال ذكي لوصول التدخلات الخارجية في الشأن العراقي إلى مأزق. فلا الأميركيون تمكنوا من الانفراد بـ”حلولهم” العراقية، ولا الإيرانيون استطاعوا فرض رغباتهم على الأميركيين، ولا العرب، “معتدلين” و”ممانعين” أفلحوا في رسم مشهد عراقي يلبي طموحاتهم، فكانت النتيجة أن استعاد العراقيون المبادرة لمرة واحدة، كانت كافية لوضع كل القوى المؤثرة أمام أمر عراقي واقع لم تنفع جهود تعديلاته منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في آذار (مارس) الماضي.
ليس سرا أيضا أن رئيس الحكومة العراقية العائد، نوري المالكي، قد فرض نفسه بقوة وارادة الناخبين العراقيين الذين نال أعلى نسبة من أصواتهم منفردا، وأبدى منذ اعتلائه السلطة عصبية وطنية عراقية لا تقل حتى عن تلك التي كانت سائدة، إبان حكم البعث البائد. والمالكي، للعلم، لم يكن الشخصية السياسية المفضلة لحكم عراق ما بعد صدام حسين، لا من قبل الأميركيين ولا العرب (ممانعين ومعتدلين) ولا الإيرانيين!
فهل تدرك القيادات اللبنانية التي تعيش حالة انتظار يائسة لفرج الـ”سين-سين” أن تصحيح “الانزلاق الغضروفي” الملكي ليس من شأنه تصحيح انزلاقهم الى مهاوي الفتن إذا لم يبادروا، على الطريقة العراقية، إلى أخذ المبادرة ورمي معادلة “لام-لام” (لبناني-لبناني) في أحضان الأطراف العربية والاقليمية والدولية، لمرة واحدة وأخيرة، قبل أن تأكل نار الفتنة ما تبقى لهم من وجود على تلك البقعة الصغيرة من الأرض التي لا بديل لهم جميعا عن العيش فوقها. أم أن هذه القيادات فقدت أية امكانية المبادرة وباتت أسيرة انتظار لأقدار لم يخبرنا التاريخ أنها كانت يوما “حتمية”؟
حتى الآن ظل العجز الخارجي عن تحقيق “اختراق لبناني” لصالح أي من القوى المؤثرة في أزمته يؤمن امتداداً لأزمة البنانيين. لكن ترددهم وعجزهم عن الفعل لن يطول قبل أن يتركوا لمصائر مجهولة ليس بمقدور أي فريق منهم الرهان على رسوها في الميناء الذي يريده.
يمكن للسياسيين المقامرة بأي شيء في “السياسة” عدا المقامرة بمصير بلد ووطن، فهذه مسألة غاية في الخطورة وتقع في خانة الخيانة التي لن يغفر التاريخ لمرتكبيها.
Leave a Reply