وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
في أيلول (سبتمبر) من عام 2016، دقت جمعية المصارف اللبنانية ناقوس الخطر من خلال دراسة لها تناولت فيها الواقع المأزوم وانعكاساته على قدرة الليرة اللبنانية على الصمود في ظل التراكم المستمر في عجز المدفوعات.
الدراسة تضمّنت تحذيراً مباشراً من عدم القدرة على تثبيت سعر صرف الليرة التي ستنهار في غضون سنتين. الدراسة التي أُجريت عام 2016 ذكرت أن سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار سيصل إلى 2,638 عام 2018 وإلى 5,638 عام 2020.
إذن، الأزمة المالية التي يشهدها لبنان اليوم كانت متوقعة، ولكن بفارق زمني ضئيل، بفعل المسكّنات التي كانت تعالَج بها الأزمة بين الفينة والأخرى. غير أن الحراك المستمر في الشارع منذ أكثر من شهرين، أسهم في تسريع حالة الانكشاف الاقتصادي التي تعيشها البلاد، من خلال قطع الطرقات والإضرابات والتوترات الأمنية المتنقلة، وما الإحصاءات الأخيرة التي تحدثت عن خسارة أكثر من 280 ألف وظيفة خلال الشهرين الماضيين، سوى دليل واضح على ذلك.
وضمن سلسلة الانهيارات المصرفية التي بدأت مع بنك «الجمّال»، أعلنت وكالة «ستاندرد آند بورز» للتصنيفات الائتمانية خفض تصنيفاتها طويلة الأمد لثلاثة مصارف لبنانية، هي: «بنك عودة» و«بلوم بنك» و«بنك ميد» إلى درجة «التعثّر».
يُضاف هذا الإجراء إلى سلسلة تدابير وقيود تمارسها المصارف على عمليات سحب الودائع بالدولار الأميركي، والحد من تحويل الأموال إلى الخارج، وتعليق التحويل النقدي من الليرة اللبنانية إلى الدولار بالسعر الرسمي، وعدم قدرة الأفراد على الوصول إلى ودائعهم المصرفية في الوقت المحدد، بما يخالف الشروط التعاقدية بين الطرفين.
إملاءات صندوق النقد الدولي
في قراءة سريعة لمعاناة لبنان الاقتصادية، يقول الخبير الاقتصادي ورئيس تحرير مجلة الإعمار والاقتصاد، الدكتور حسن مقلد، إن الورقة الإصلاحية التي كانت قد تقدمت بها الحكومة المستقيلة مع بداية الأزمة كانت تحمل بعض الإيجابيات، غير أن فيها الكثير من السلبيات التي تجعلها كارثية بكل ما للكلمة من معنى وتسهم في تعميق الأزمة بدل حلها، كيف لا وهي التي تضمنت موافقة على مشروع «سيدر» دفعة واحدة ومن دون شروط وبمدة زمنية قياسية، علماً بأنه يحتاج إلى نقاش جدي ومعمّق في كل تفاصيله.
ثم إنها –أي الورقة الإصلاحية– منحت صك براءة لثلاثين سنة من الأخطاء الاقتصادية التي دمّرت مبدأ الإنتاج وعززت فكرة الريع، تماماً كما فعلت المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد و«ستاندرد أند بورز» التي لا تنفك تطلق تحذيراتها وتتدرج فيها بنحو تصاعدي، لافتاً إلى أنه لطالما وجّه الخبراء الاقتصاديون اللبنانيون انتقادات للسياسات المالية والنقدية المتبعة، لكن تلك الانتقادات لم تلقَ آذاناً صاغية لدى تلك المؤسسات، بل أكثر من ذلك كانت تمضي في تغطيتها والموافقة عليها، وفجأة ها هي تقرر اليوم نزع ذلك الغطاء، وتتهمها بالفشل والتسبب بالانهيار الحاصل.
لكن مقلد يؤكد لـ«صدى الوطن» أن الأمر يخضع دائماً للاعتبارات السياسية التي تسيّر تلك المؤسسات وفقاً لها.
الاقتصاد اللبناني بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة، نقطة يتفق فيها مقلد مع طروحات صندوق النقد الدولي، لكن في الوقت عينه يشير إلى خلاف عميق معه، أولاً حول الأهداف، وثانياً حول آلية تنفيذ إعادة تلك الهيكلة، التي قد يؤدي اعتمادها إلى تدمير البلاد، فهي تطرح مثلاً رفع الدعم عن الخبز والكهرباء بما يطال الطبقة الفقيرة من الشعب، أما الأجدى والأهم بحسب مقلد فهو العمل على تعزيز الإنتاج والابتعاد عن الاقتصاد الريعي وترشيد الاستيراد الاعتباطي لأنواع عديدة من الكماليات، فلا يُعقل أن يستورد بلد بحجم لبنان ما قيمته 20 مليار دولار سنوياً، منها 70 مليون دولار تذهب لاستيراد الورود من هولندا و210 ملايين دولار لاستيراد الألبان والأجبان من السعودية و250 مليون دولار ثمناً لاستيراد «المعسّل للأرغيلة»!.
سبب آخر يتحدث عنه الخبير الاقتصادي مقلد يجعله غير مرحّب ولا مطمئن لصندوق النقد الدولي و«مقترحاته» ألا وهو وجود وزير المالية اللبناني السابق جهاد أزعور كأحد مديري الصندوق. ويذكّر مقلد هنا بأن أزعور كان أيضاً مساعداً لوزير المالية ورئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، ما يعني أنهما مسؤولان أساسيان عمّا وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية من تدهور، فكيف يمكن الوثوق بمن أسهم في خلق الأزمة؟
لكل الأسباب سالفة الذكر، يعتبر مقلد أن وصفة صندوق النقد الدولي غير ناجعة ولم تعرف النجاح في أي بلد اعتمدها، بل أكثر من ذلك كانت تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقراً.
أما عن الاستثمارات النفطية التي دخلت حديثاً في حسابات الدولة اللبنانية فيشير الدكتور مقلد إلى أنها تخضع هي أيضاً لمبدأ الإدارة السليمة والإجراءات الملائمة، التي يمكن أن تأتي بالفائدة المرجوّة، أما إذا جرى التعامل معها بالذهنية السائدة نفسها، ذهنية المحاصصة والهدر والمحسوبيات والتلزيمات بالتراضي، فإنها ستكون عديمة الفائدة.
ملامح مجاعة في لبنان؟
«صدى الوطن» سألت مقلد عمّا تردد من احتمال حصول مجاعة في لبنان، الأمر الذي أصاب الناس بحالة من الهلع، ودفعهم إلى تخزين كميات كبيرة من المواد الغذائية احترازاً، يجيب بالقول إن انكشاف البلد اقتصادياً بنسبة 87 بالمئة على الخارج، وعجزه عن فتح الاعتمادات اللازمة من أجل استيراد السلع والمواد الضرورية، قد يؤديان إلى حدوث نقص حاد في بعض السلع، لكن الأمور لن تصل إلى حد المجاعة بمعناها الحقيقي، فهناك أراضٍ زراعية يمكن استغلالها، كما أن لبنان يمتلك حدوداً مع الجارة سوريا يمكنه أن يستفيد منها لتعويض النقص الذي قد يحصل في بعض أنواع السلع الضرورية، والتحذير الذي أُطلق عن احتمال حدوث مجاعة إنما أُطلق بغية التسريع في إيجاد حل للأزمة الخانقة ولمنع الانزلاق الدراماتيكي نحو الهاوية.
فرص الخروج من الأزمة
أما اليوم وقد بات الانهيار الاقتصادي بمنزلة الأمر الواقع في رأي البعض، يذهب آخرون إلى القول إن ما هو موجود من أموال لدى الدولة اللبنانية موزعة بين مليارات الداخل والخارج، إضافة إلى سندات «الأوروبوند» وكمية احتياطي الذهب، نصف هذه الأموال يكفي لوقف حالة الانهيار تدريجاً، ولإعادة إنعاش الاقتصاد اللبناني، وإخراجه من غرفة العناية المركزة، لكن الأمر مرتبط من دون شك بتوافر النيات لدى الطبقة السياسية الممسكة بمفاصل الدولة، والتي لم تستطع بعد، أن تستوعب فكرة التنازل ولو عن جزء بسيط من «الكعكة»، حتى تتمكن من السير قدماً في مشروع إصلاح اقتصادي حقيقي، وبأن الهيكل إذا سقط سيسقط فوق رؤوس الجميع.
لبنان ما زال يمتلك إمكانات حقيقية تتيح له إدارة الأزمة وحتى الخروج منها، يؤكد الكثير من الخبراء الاقتصاديين، وبينهم مقلد.
وتنتعش هذه الآمال مع تكليف رئيس جديد لتأليف الحكومة العتيدة، رغم ما وُوجه به من احتجاجات في الشارع منذ الدقائق الأولى لتكليفه، فالأكاديمي حسان دياب رفض تسمية حكومته حكومة مواجهة، مشدداً على أنه سيتشاور مع كل الأفرقاء لتأليفها خلال وقت قصير، علها تلملم أوضاع البلاد المهترئة وتنقذ ما يمكن إنقاذه.
Leave a Reply