اغتيال زاده .. أولى رسائل الدم في الأسابيع الأخيرة من عهد الرئيس الأميركي
وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
«ردنا على اغتيال فخري زاده قادم وحتمي، وسيكون العقاب قاسياً لمن ارتكب هذه الجريمة، واغتياله لن يوقف مسيرة برنامج إيران النووي، بل سيسرّع وتيرته».
في جنازة رسمية مهيبة أُقيمت بحضور أسرة العالم النووي وسط أجواء غاضبة، وبحضور عدد من كبار القادة الإيرانيين، بينهم القائد العام للحرس الثوري حسين سلامي، وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري إسماعيل قاآني، ووزير المخابرات محمود علوي، ورئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، وعدد من السياسيين والنواب في البرلمان، أطلق وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي تهديداته تجاه مَن أقدموا على اغتيال الأب الروحي للبرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده.
وكانت قد ترددت معلومات خلال الأيام الماضية نقلتها صحيفة «الغارديان» البريطانية، عقب الاجتماع غير المعلن الذي عُقد في نيوم السعودية نهاية الأسبوع الماضي، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان بشأن احتمال إقدام ترامب على شن هجوم على إيران أو إيكال المهمة لإسرائيل ودعمها فيه.
عملية اغتيال زاده التي وقعت يوم الجمعة الماضي، لاقت استنكاراً دولياً كبيراً، حتى إنها تكاد تُوصف بالزلزال الثاني الذي يضرب المنطقة المتوترة أصلاً منذ اغتيال قائد «قوة القدس» الجنرال قاسم سليماني ورئيس هيئة «الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد.
وقائع عملية الاغتيال، بحسب وكالة فارس للأنباء، استغرقت ثلاث دقائق فقط، من دون الاستعانة بأي عنصر بشري في موقع التنفيذ، وأن إطلاق النار حصل من أسلحة آلية جرى التحكم فيها عن بعد، فيما كان فخري زاده وزوجته داخل سيارة مصفحة بمرافقة 3 سيارات حراسة في منطقة دماوند قرب العاصمة طهران.
وأضافت الوكالة أن إحدى سيارات الحراسة انفصلت عن الموكب بهدف التحقق ورصد أية حركة مريبة. وأشارت إلى أن أزيز الرصاص الذي استهدف السيارة أدى إلى توقف الموكب، حيث خرج زاده من السيارة معتقداً أن الصوت نتج عن اصطدام بعائق خارجي أو مشكلة في محرك السيارة. وإثر نزوله من السيارة، انطلق وابل من الرصاص من مدفع رشاش آلي يجري التحكم فيه عن بعد، كان مثبتاً على شاحنة صغيرة متوقفة على بعد 150 متراً، لتصيبه ثلاث رصاصات، ولتنفجر الشاحنة الصغيرة بعد لحظات. ونُقل زاده جريحاً إلى مستوصف قريب، ومنه بطائرة مروحية إلى مستشفى في طهران حيث فارق الحياة.
وأضافت الوكالة أن التحقيقات أظهرت أن صاحب الشاحنة التي انفجرت وكانت تحمل الرشاش، غادر البلاد بعد يوم واحد من عملية الاغتيال، من دون ذكر وجهته.
الموقف الإيراني
الرئيس الإيراني حسن روحاني أكد أن اغتيال زاده لن يضعف من عزيمة إيران أو يعيق مسار برنامجها النووي. أما رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني فقال إنه خلال الأعوام العشرين الماضية تعرّض فخري زاده لأكثر من عملية اغتيال فاشلة، مضيفاً أن الاستخبارات الإيرانية قدمت تقارير دقيقة عن احتمال استهدافه «لكن محددات أخرى أدت إلى نجاح الاغتيال»، متهماً الموساد الإسرائيلي باغتيال العالم النووي الإيراني، عبر استخدام عناصر من «جماعة خلق».
بدوره، أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وجود مؤشرات جادة حول ضلوع إسرائيل في عملية الاغتيال، أما رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي فقد اعتبر أن الغرب الذي يدعو إلى ضبط النفس تجاه الاغتيال هو في الحقيقة يعطي الضوء الأخضر للإرهابيين.
القائد العام لحرس الثورة الإسلامية اللواء حسين سلامي من جهته قال: «إن أي اعتداء لن يمر من دون رد صارم». ولم يغب الشارع الإيراني عن الحدث، فقد خرجت تظاهرات عديدة للمطالبة برد حازم، كما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف مماثلة.
الجدير ذكره أن خمسة من كبار العلماء النوويين الإيرانيين اغتيلوا خلال عشرة أعوام بين 2010–2020، وفي 2012 أعلنت طهران إلقاءها القبض على جميع الإرهابيين الذين كانوا وراء الاغتيالات الأربعة الأولى.
في الأثناء، وكخطوة أولى في سياق الرد الإيراني، أبلغ محمد باقر قاليباف رئيس البرلمان الايراني، رئاسة الجمهورية بالقانون الذي يدعو الحكومة إلى رفع مستوى تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمئة، وبوقف عمليات التفتيش الدولية للمنشآت النووية. وقبل ذلك، كان مجلس صيانة الدستور قد صادق على قانون الإجراءات الاستراتيجية الذي ينص على ضرورة استئناف إيران تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 20 بالمئة وتركيب أجهزة طرد مركزي متطورة في منشأتي «نطنز» و«فوردو» النوويتين.
ضلوع إسرائيل
وفي إطار التحقيقات الأولية، توجهت أصابع الاتهام فوراً إلى عدو إيران الأول، إسرائيل، حيث أكد وزير الأمن الإيراني محمود علوي، التوصل إلى خيوط كثيرة في قضية اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زادة، وأن التفاصيل ستُعلن تباعاً وستوضع بين أيدي الشعب الإيراني.
وفي أول اعتراف إسرائيلي بالجريمة، أقرّ مسؤول استخباري إسرائيلي، لصحيفة «نيويورك تايمز»، بعملية الاغتيال ونقلت الصحيفة أيضاً عن المسؤول السابق في «سي آي أي»، بروس ريدل، أن إسرائيل استخدمت علاقاتها الوثيقة مع الدول المجاورة لإيران، مثل، أذربيجان للمراقبة وتجنيد العملاء. وكانت الصحيفة نفسها، قد نقلت في وقت سابق عن ثلاثة مسؤولين استخباريين، تأكيدهم أن إسرائيل، تقف خلف اغتيال العالم الإيراني.
وكان نتنياهو قد أشار في مؤتمر صحافي عقده عام 2018 وتزامن مع إعلان أميركا الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، إلى خطورة العالم الإيراني زاده، ونشر صورته خلال حديثه عن تصاعد قدرة إيران النووية.
وعلى أثر تهديدات طهران، أصدرت الحكومة الإسرائيلية، الخميس الماضي، تحذيراً من احتمال استهداف مؤسساتها في الخارج رداً على الاغتيال. وذلك بعدما أوردت وكالة «رويترز» أن إيران تبحث عن أهداف إسرائيلية حيوية لاستهدافها مثل منشآت الغاز. كما نقل موقع «بزنس إنسايدر» ، عن الأدميرال المتقاعد في البحرية الأميركية الخاصة ويليام ماكرافن قوله إن «الانتقام الايراني أمر لا مفر منه».
ردود فعل
نتنياهو وحول تورط إسرائيل في عملية اغتيال زاده، قال إنه كثيراً ما يسمع مثل هذه «المزاعم»، وهو لا يريد الرد عليها، على حد تعبيره. وفي تعليق له على اغتيال زاده، قال وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير، «لا نقر بالاغتيالات بأي شكل من الأشكال وهي ليست من سياسة المملكة»، على حد تعبيره،
متجاهلاً عملية تقطيع الصحافي جمال خاشقجي بالمنشار داخل سفارة بلاده في اسطنبول، والتي ستبقى وصمة عار على جبين بلاده لن تُمحى بتقادم الزمن أو البترودولار!
الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، وتعليقاً على جريمة اغتيال زاده، قال «هذه ليست طريقة لحل المشاكل، ونحن لا نستطيع أن نمنع إيران من أن تصبح دولة نووية من خلال اغتيال خبرائها وعلمائها النوويين»، واصفاً الاغتيال بـ«العمل الإجرامي»، وقال إنه سيدعو إلى اجتماع وزاري لدول الاتفاق النووي قبل عيد الميلاد بهدف إحيائه.
في هذه الأثناء، أكد الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن، الأربعاء الماضي، تمسكه بموقفه حول العودة إلى الاتفاق النووي رغم صعوبة ذلك، قائلاً إن أفضل طريقة لتحقيق بعض الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط هي التعامل مع البرنامج النووي الإيراني.
أما الصحف الإيرانية فانقسمت حول قراءة تصريح بايدن بشأن الاتفاق النووي، فالمتشددة منها رأت فيه تماهياً مع طرح ترامب الذي خرج على إثره من الاتفاق النووي فيما رأت صحف الإصلاحيين أنه تمهيد للعودة إلى الاتفاق. وفي السياق عينه، أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن بلاده لن تعيد التفاوض مع أحد بشأن الاتفاق النووي الذي توصلت إليه مع السداسية الدولية سابقاً، مشدداً على وجوب أن تفي أميركا بالتزاماتها في الاتفاق النووي من دون أي شروط ، ومؤكداً بأن من حق إيران عدم الالتزام بالاتفاق النووي إذا لم يلتزم به الآخرون.
يُذكر أن إيران قلصت التزاماتها بموجب الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عام 2015، رداً على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وإعادة فرض عقوباتها على طهران. وكانت الولايات المتحدة تسعى إلى إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران، لكن مساعيها فشلت في غياب أي تأييد من قبل الأعضاء الآخرين في مجلس الأمن، وتأكيد الأطراف المتبقين في الاتفاق النووي عزمهم على الحفاظ على الصفقة.
خيارات الرد
في قراءة سريعة، تبرز خيارات عديدة قد تلجأ طهران إلى اعتماد أحدها للرد، من بينها الاكتفاء بخطوة تسريع برنامجها النووي التي اتخذتها بالفعل.
أما الخيار الثاني فقد يكون إيكال المهمة إلى إحدى أذرعها في لبنان أو العراق أو سوريا أو اليمن، لكن هذا الخيار مستبعد بالنظر إلى حجم الضربة الذي يفرض على إيران أخذ الأمر على عاتقها. أما ثالث الخيارات فهو أن تقدم إيران على اغتيال شخصية إسرائيلية رفيعة، وقد تلقّت سابقاً العديد من الاتهامات بهذا الشأن، وهو خيار خطر لما قد يستتبعه من رد مقابل، أو ربما قد تفكر طهران بشن ضربة عسكرية مباشرة ضد مواقع حيوية إسرائيلية، لكن لا يخفى على الإيرانيين أبداً مدى خطورة ذلك.
هذه السيناريوهات يتوقعها المراقبون، من دون إغفال وجود أصوات معتدلة، ولاسيما في وزارة الخارجية وعالم الأعمال، تدعو إلى ضبط النفس، أو على الأقل إلى تأخير الرد، بغية عدم تقويض الآمال المعقودة لدى هؤلاء على عودة إدارة بايدن إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات.
رد مدروس
إذن، هي الأسابيع الأربعة الحرجة التي تحدثنا عنها سابقاً، والتي تحمل في طيّاتها لحظة مصيرية يعيشها الشرق الأوسط بأكمله، فالرئيس الأميركي الذي يعاني أزمة داخلية جراء خسارته في الانتخابات، قد يحاول تغطية فشله من خلال استدراج إيران إلى رد مدوٍّ بحجم الضربة التي تلقتها أخيراً، ليستتبع الرد برد موسع يستهدف تدمير منشآت إيران النووية التي كلفتها الكثير من الوقت والجهد والمال.
أما إيران الدولة المفجوعة بخسارة كبير علمائها والتي يترقب العالم كله ردها، فهي دولة أثبتت على مدى عقود أنها صاحبة باعٍ طويل في العمل الدبلوماسي وسياسة الصبر وعض الأصابع، وليست هي التي تُستدرج إلى عمل انتقامي غير مدروس قد يدفع المنطقة إلى حرب لا أحد يستطيع تقدير مآلاتها، وهي في غنًى عنها في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها بسبب العقوبات، وبسبب جائحة كورونا، كما أنها لا تريد نسف الجسور مع إدارة بايدن التي تستعد مبدئياً للعودة إلى الاتفاق النووي.
لا شك في أن طهران سترد، لكنها ستقيّم ردها عميقاً قبل الإقدام عليه، كي تجني منه ما ترجوه من فوائد، أولها ردع العدو ومنعه من استباحة أرواح قادتها ومنشآتها وكل ما يتعلق بسيادتها وأمنها القومي، وصولاً إلى إبعاد شبح الحرب الشاملة عن شعبها الذي اكتفى مما عاناه على مدى العقود السابقة.
Leave a Reply