فاطمة الزين هاشم
اقتحمتُ خلوتها حينما كانت تجلس فـي إحدى زوايا القاعة المخصصة للقراءة فـي احدى المكتبات العامة، دون أن تمسك بيدها كتاباً أو صحيفة تطالعها، جذبني صمتها وشرودها وطريقة جلوسها الرزينة، مما دفعني إلى الإقتراب منها وإلقاء التحية عليها. ارتسمت على محياها ابتسامة لطيفة كأنها تدعوني للجلوس بجانبها، لم أتردد، جلست بقربها، أذهلني جمالها الذي لم يتأثر بسنوات العمر، بريق عينيها ينم عن عاطفة شفافة ودماثة خلق. سألتها لماذا تجلسين هنا بمفردك، أجابتني والحسرة تعتصر قلبها، استعيد ذكريات الماضي الجميل. اعترتني حالة من الفضول لمعرفة هذا الماضي، لكنها كانت أسرع مني وأفرغت ما اختزنته فـي صدرها لسنوات طوال. قالت: التقيته هنا لأول مرة فـي هذا المكان يمسك كتاباً فـي يده وكوباً من القهوة فـي اليد الأخرى، كنت أجلس أنا فـي الكرسي المقابل، لاحظت اختلاس نظراته نحوي بين الفـينة والأخرى، أصابني الإرتباك وحاولت تغيير مكاني، لكنه سرعان ما استدار نحوي وقال: هل وجودي هنا يسبب الإزعاج؟ قلت: لا. قال: إذاً لننتعارف. أنا فلان ناهزت السبعين من عمري، أرمل، زوجتي توفـيت منذ سنوات أعيش وحيداً بعد أن تزوج أولادي جميعاً، كنت أستاذاً جامعياً والآن متقاعداً، أعيش وحدة قاتلة أتردد إلى هنا بين الحين والآخر للمطالعة. فماذا عنك سيدتي؟ أجابته أنا مطلقة ظلمتني الحياة وأصبحت وحيدة (إذاً الحال من بعضه) ضحكنا معاً ودعاني على العشاء فـي مكان هادئ وتكررت اللقاءات بيننا بعد أن جذبني حضوره المميز وأناقته الملفتة، كما شعرت أنه يبادلني نفس الشعور، وما كان منه إلا أن فاتحني بالزواج. نسغ الأمل فـي شراييني وتفتحت براعم الرغبة العطشة. شعرت بنار تلسعني وتضرم ما تبقى لدي من رماد خامد فاستجبت كالمسحورة، كان قراري عقلياً بحثاً أن يكون لي عشيقاً وزوجاً وانا أخطو بخطوات ثابتة نحو الستين. كنت أؤمن بحقوق النفس والجسد وأرفض أمراض الكبت تحت ستار الأخلاق!. هل تعني الأخلاق الاكتئاب والتعاسة أنا أفهم العكس وقد أردت أن أختار الرجل الذي سيكون زوجي كما أختار طعامي وملابسي. لا أريد أن أتزوج من شخص متزوج وأعطي امتيازاً لرجل قد تكون لديه زوجتان. تزوجنا وأحسست بحيوية ومرح منتشية بسعادة غامرة كمن غيرأثاث منزله, وكأني غيرت تسريحة شعري. التجديد ضروري للحياة، وجسدي الذي لم ُيلمس منذ دهر صار يتناغم مع جسد آخر يكتشفه ويحاول سبر مفاتيحه. تفانى فـي تدليلي وأحبني، كنت أومن بأن المحب يجب أن يكون كريما لأن قلب المرأة يكره البخل ويعزف عنه. أغدق عليَّ الهدايا والعواطف من قلبه الطاهر النقي الذي لا يعرف الخداع ولا الغدر ولا التمثيل الزائف. كان عاشقا دائماً يتغزل بي كل لحظة كأنه لم يرَ امرأة غيري فـي هذا الوجود. وكنت له مثال الزوجة المحبة والمخلصة المتفانية فـي اسعاده، عشنا سنوات عشراً شعرنا خلالها كأننا لم نتزوج من قبل، خيم الحب والسعادة على زواجنا، لم يعكَر صفونا أحداً لأننا كنا نعيش الحياة التي نريدها نحن، ليس ما يريده لنا الغير، كنا جسدين بروح واحدة تسير الحياة على هوانا. لكن المرض أفسد علينا هذه السعادة واقتحم جسده الطاهر وأنهكه، جلست إلى جانبه، احتشدت فـي رأسي جمهرة من الذكريات، وخنقتني، أمسكت يده وأشبعتها ُقبلاً، حاولت اضحاكه، لكنه كان يعلم أن أيامه معدودة فـي الحياة، نظر نحوي وعيناه ترشحان بدموع الفراق، أدركت عندها عمق خسارتي له عندما خانه النطق وأغمض عينيه للأبد. مضى على وفاته سنة وما انقطعت عن زيارة هذا المكان أستعيد هنا ذكرياتنا الجميلة.
عصفت بها نوبة بكاء حادة يبدو أنها لا تزال عاجزة عن السيطرة على أعصابها، جرحها لم يندمل بعد ومازال ينزف. تركتني أمسح دموعها وهي تنظر نحوي حائرة…من هذه الغريبة التي خرقت سور عزلتي؟.أدركت أن قبول الأمر الواقع قاسياً وصعباً، طبعت قبلة على جبينها وحييتها لإخلاصها لزوجها الراحل. لكن فـي المقابل لو لم يكن هذا الزوج وفـياً وحاضناً لها لما كانت حزينة بهذا القدر ومفتقدة لغيابه.
Leave a Reply