صبحي غندور
رغم اختلاف الظروف والقضايا، فـي أرجاء البلاد العربية، فإنّ واقع حال معظمها يسير فـي حقول ألغام تُهدّد من فـيها بالتمزّق إلى أشلاء. هو واقعٌ يدفع حتماً ببعض الناس لليأس والإحباط والسلبية والابتعاد عن أيِّ عملٍ عام، كما أنّه قد يكون مبرّراً للبعض الآخر من أجل القيام بعمليات «انتحارية» واستخدام العنف المسلح ضدّ «الآخر» فـي الوطن الواحد.
وهناك الآن حالة «تكيّف» عربي مع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي وتمزّق بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخّل الأجنبي، بل حتّى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية أو القومية، فقد انتقلت شعارات بعضها من عموميات «الأمّة» إلى خصوصيات «المذاهب»، كما انتقل بعض «التيّار الديني» فـي أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح، وما يجلبه هذا الأسلوب من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.
وتحوّل العنف الداخلي، الجاري الآن فـي بعض البلدان العربية، إلى حروب أهلية عربية سيكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي فقط، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
فالأوضاع السائدة الآن فـي عدّة بلدان عربية، كلّها أزمات تتجاوز وصف الكوابيس، ولن يكون أيٌّ منها محصوراً فـي دائرته المباشرة، بل ستكون المنطقة بأسرها ساحةً لها ولانعكاساتها. وهذه الأزمات- الكوابيس بدأت كلّها فـي أوطان حملت أحلاماً من أجل التغيير والحرية أولاً، ثم تعثّرت بعد ذلك فـي قيود عبودية أوضاع جديدة. وما هو مشتركٌ الآن بين هذه الأوطان أنّها تفتقد للأرض الوطنية الصلبة، وللوحدة الوطنية الشعبية، وللبناء الدستوريّ الصحيح، وللأساليب السليمة فـي الحكم وفـي المعارضة.
«لا يصحّ إلاّ الصحيح»، هو قولٌ مأثور يتناقله العرب، جيلاً بعد جيل. لكن واقع حال العرب لا يسير فـي هذا الاتّجاه، إذ أنّنا نجد، جيلاً بعد جيل، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم على شعوب الأمّة العربية، وعلى أوطانها المبعثرة. فهل يعني ذلك أن لا أمل فـي وصول أوطان العرب إلى أوضاع صحيحة وسليمة؟! أم ربّما ترتبط المسألة فـي كيفـية التفاصيل وليس فـي مبدأ هذا القول المأثور! فإحقاق الحق، وما هو الصحيح، يفترض وجود عناصر لم تتوافر بعدُ كلّها فـي مخاض التغيير الذي تشهده الأمّة العربية. وبعض هذه العناصر هو ذاتي فـي داخل جسم الأمّة، وبعضها الآخر خارجي، حاول ويحاول دائماً منع تقدّم العرب فـي الاتجاه الصحيح.
إنّ الانقسامات والصراعات الداخلية تحوم فـي أكثر من بلدٍ عربي، والمنطقة العربية تُخرَق سيادتها من قبل القوى الأجنبية، بعدما استنزف الأجانب أيضاً لعقود طويلة ثرواتها وخيراتها..
صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة فـي تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟.
ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه فـي أيّ بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدّث باسم «الجماهير العربية»، وعن المفكرين والعلماء والإعلامين الذين يُوجّهون عقول «الشارع العربي»؟!.
فالتداعيات الجارية فـي أكثر من بلد عربي تحمل مخاطر وهواجس أكثر ممّا هي انطلاقة واضحة نحو مستقبل أفضل. ولعلّ أسوأ ما فـي الواقع العربيّ الراهن أنّه لا يحمل فـي سياق سلبياته المتراكمة ما هو مبعث أمل، ولو بعد حين. وخطورة هذا الأمر أنّه يفرز العرب الآن بين تيّارين: تيّار اليأس والإحباط وفقدان الثقة بنتيجة أيّ فكر أو أيّ عمل، وآخر انفعالي يحاول التغيير لكنّه فاقد للبوصلة أو المرجعية الصحيحة التي تُرشده لبناء حياةٍ أفضل!.
إنّ نقد الواقع ورفض سلبياته هو مدخل صحيح لبناء وضع أفضل، لكنْ حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أفضل بديلة لواقعه، تكون النتيجة الحتمية هي تسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذّر وجود البديل!. وكذلك المشكلة هي كبرى حينما يكون هناك عمل، لكنْ عشوائي فقط أو فـي غير الاتجاه الصحيح.
هناك من يعتقد أنّ العرب لم يصلوا بعدُ إلى قاع المنحدر، وبأنّه ما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية» سيكون هو ذاته، خلال الفترة القادمة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب فـي الفكر والممارسة، فـي الحكم وفـي المعارضة. فقيمة الشئ لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه، والأمّة هي الآن عطشى لما هو بديل الحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة.
هذه ليست مجرّد تمنيّات أو أحلام، بل هي خلاصة تجارب الأمّة العربية نفسها فـي القرون الماضية، وهي أيضاً محصّلة تجارب شعوب أخرى، كالأوروبيين الذين خاضوا فـي النصف الأول من القرن الماضي حربين عالمتين دمّرتا أوروبا وسقط نتيجتهما ضحايا بالملايين، وكانت بين شعوب الدول الأوروبية صراعات قومية وإثنية وطائفـية أكثر بكثير مما تشهده الآن المجتمعات العربية. رغم ذلك، وحينما توفّرت الظروف والقيادات والرؤى السليمة، طوت أوروبا صفحات الماضي المشين بينها واتّجهت نحو التوحّد والتكامل بين شعوبها، متجاوزةً ما بينها من خلافات فـي المصالح والسياسات، واختلافات فـي اللغات والثقافات والأعراق.
نعم هو حاضرٌ عربيٌّ سيّء، لكن ماذا بعد وماذا عن المستقبل؟! وهل الحلُّ فـي السلبية وفـي الإحباط وفـي الابتعاد عن السياسة وعن أيِّ عملٍ عام؟!. وهل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟! وهل سيصلح الإحباطُ واليأس، الأوطانَ والمجتمعات ومستقبل الأجيال القادمة؟!
الحقيقة هي بشكلٍ معاكس، أي أنّ الابتعاد عن السياسة وعن العمل العام سيزيد من تفاقم الأزمات ولن يحلّها، وسيصنع الفراغ لمنتفعين ولمتهوّرين يملأونه بمزيدٍ من السلبيّات، وسيترك الأوطان والمجتمعات فريسةً سهلة للطامعين بها، وسيضع البلدان أمام مخاطر الانشقاق والتمزّق إذا ما انحصر «العمل السياسي» فـيها على أصحاب المفاهيم والأطر والأساليب الانشقاقية.
كذلك، فإنّ الحلّ ليس طبعاً فـي مزيدٍ من التهوّر، ولا هو فـي إشعال الغرائز الإنقسامية والانقياد للعنف المسلح، الذي يُدمّر الأوطان ووحدة الشعوب ويخدم دعاة التقسيم والتدويل لأزمات المنطقة. الحلّ أساسه وقف حال الانهيار الحاصل فـي وحدة المجتمعات وبناء البدائل الوطنية السليمة، على مستوى الحكومات والمعارضات معاً. فشعوبٌ كثيرة مرَّت فـي ظروف مشابهة لكنّها رفضت «الموت السريري» البطيء، فنهضت من جديد وصحّحت أوضاعها وأرست دعائم مستقبل أجيالها.
وبمقدور الأوطان العربية أن تحقّق خطواتٍ على طريق الأمل بمستقبل أفضل لو وضعت باعتبارها التمييز المطلوب فـي العمل السياسي ما بين تغيير الحكومات وبين مخاطر تفكيك الكيانات الوطنية، ثمّ التمييز بين الطائفة أو المذهب، وبين الطائفـية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة فـي أكثر من مجتمع. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَّة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه. كذلك التمييز مطلوب بين الاعتزاز بالوطنية المحليّة، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش فـي عصر العولمة والتكتلات الكبرى. وكما التمييز مطلوبٌ بين الحرص على الولاء الوطني وبين التقوقع الإقليمي، فإنّ من المهم أيضاً التمييز بين الانفتاح على الخارج وبين التبعيّة له.
الأمة العربية بحاجة أيضاً للتمييز بين قدرة العرب على تصحيح انقساماتهم الجغرافـية، وبين انقساماتهم التاريخية فـي الماضي التي ما زال البعض يحملها معه جيلاً بعد جيل، ولا قدرة له أصلاً على تغييرها!
Leave a Reply