صبحي غندور
قليلاً ما تخلو تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الإشارة السلبية إلى حقبة الرئيس السابق باراك أوباما، لدرجة أنّ الكثير من المحللين السياسيين يتحدثون عن وجود «عقدة أوباما» لدى ترامب ويُفسّرون الأمر وكأنه عقدة نفسية يعاني منها الرئيس الحالي، أو كأنها مشكلة شخصية بينهما. لكن حسب وجهة نظري فإنّ المسألة لا ترتبط بعقدٍ نفسية بل هي مسألة سياسية محض تندرج في سياق المنهج الذي سار عليه ترامب منذ سعيه للترشح لمنصب الرئاسة الأميركية. ومن المهم معرفة أنّ طموحات ترامب لمنصب الرئاسة تعود لحقبة الثمانينات من القرن الماضي رغم عدم توليه لأي موقع سياسي في العقود الماضية كلّها. وهو سعى في العام 2000 للترشح للرئاسة باسم «حزب الإصلاح» الذي تأسس في مطلع حقبة التسعينات مع ترشح رجل الأعمال الثري روس بيرو، لكن لم يُؤخذ ترشح ترامب جدياً رغم قيامه بحملات انتخابية في بعض الولايات.
اذن، الطموحات السياسية للثري ورجل العقارات دونالد ترامب، التي كانت تتراوح بين منصب حاكمية ولاية نيويورك وبين رئاسة «البيت الأبيض»، عمرها عقود من الزمن، وهي لم تقف على أرضية انتماء فكري أو سياسي لحزب محدد، بل انطبق على ترامب قول ميكيافيلي: «الغاية تبرر الوسيلة»، وهذا ما فعله ترامب عقب فوز باراك أوباما بانتخابات العام 2008 حيث لمس حجم ردة الفعل السلبية التي جرت في أوساط الجماعات المحافظة والعنصرية داخل المجتمع الأميركي، نتيجة فوز أميركي من ذوي البشرة السوداء وابن مهاجر أفريقي مسلم، بأهم موقع سياسي في أميركا والتي مازالت العنصرية متجذرة في أعماق الكثير من ولاياتها الخمسين.
أيضاً، أدرك ترامب ما حصل داخل الحزب الجمهوري في العام 2010 من ظهور وتفوق تيار «حزب الشاي» المحافظ، والذي استطاع الحصول على غالبية أعضاء الكونغرس في الأنتخابات النصفية، اعتماداً على التخويف الذي مارسه هذا التيار من معاني فوز أوباما بالرئاسة الأميركية، وعلى الحملات التي قام بها المرشحون باسم هذا التيار ضد المضامين الاجتماعية الليبرالية لأجندة أوباما وضد المهاجرين عموماً، ومن هم من دول العالم الإسلامي على وجه الخصوص. وحصلت آنذاك ممارسات ومواقف تتصف بالعداء للمسلمين في عدة ولايات أميركية بينها التحريض ضد بناء مسجد في مدينة نيويورك والضجة المفتعلة ضد قضية الشريعة الإسلامية ومحاولات حرق نسخٍ من القرآن الكريم، وهذه الأمور كلّها كانت تتزامن مع توزيع رسائل تمّ نشرها بالملايين عبر وسائل التواصل الإجتماعي تحذر من خطر «أسلمة أميركا» الذي بدأ بفوز باراك حسين أوباما.
وكان ما سبق ذكره كافياً لدونالد ترامب لكي يحسم خياراته الفكرية والسياسية لصالح القوى المنتمية لهذه الجماعات اليمينية المحافظة التي تحركت ضد كل ما كان يرمز له أوباما من أجندة ومن اصول إثنية وعرقية ودينية وسياسية، وبحيث تحولت هذه القوى إلى تيارٍ شعبيٍ بنى عليه ترامب لاحقاً قوة قاعدته الأنتخابية والتي استطاعت تجاوز العديد من المرشحين المعروفين في الحزب الجمهوري وجعلت من ترامب رمزاً لها وتمكنت من إيصاله إلى الرئاسة الأميركية.
لذلك، فحينما يشير ترامب في تصريحاته إلى أوباما فإنّه يفعل ذلك متعمداً لكي يُذكّر قاعدته الشعبية بأنه (أي ترامب) هو الذي أنقذهم من امكانية استمرار حقبة أوباما لو فازت هيلاري كلينتون، وبأن دعم هذه القاعدة الشعبية له هو الذي يضمن عدم تكرار حقبة أوباما، وبأنّ عودة «أميركا العظيمة».. أميركا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانتية، مرهونة باستمرار ترامب في الحكم وبما هو عليه من أجندة داخلية وخارجية.
فأميركا التي قامت على أساسٍ دستوري سليم واتحادٍ قوي بين الولايات، هي أيضاً تأسست كمجتمع على ما يُعرف اختصاراً بأحرف: WASP والتي تعني «الرجال البيض الأنغلوسكسون البروتستانت». والدستور الأميركي العظيم الذي جرى إعداده منذ حوالي 230 سنة، كان معنياً به أولاً وأخيراً هؤلاء المهاجرون القادمون من أوروبا، والذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضدّ الإنسان الأسود البشرة، إلى حين تحريرهم قانونياً من العبودية على أيدي الرئيس ابراهم لنكولن، بعد حربٍ أهلية طاحنة مع ديمقراطيي الولايات الجنوبية الذين رفضوا إلغاء العبودية في أميركا.
لكن أميركا الحديثة هي غير ذلك تماماً، فالهجرة الكبيرة المتزايدة إلى الولايات المتحدة، في العقود الخمسة الماضية، من مختلف بقاع العالم، وبشكلٍ خاص من أميركا اللاتينية، بدأت تُغيّر معالم المجتمع الأميركي ثقافياً ودينياً واجتماعياً وسياسياً، واحتضن «الحزب الديمقراطي» هذه الفئات الجديدة، بينما راح «الحزب الجمهوري» باتجاهٍ محافظ ولّد فيما بعد ظاهرة «حزب الشاي»، في مقابل نموّ وتصاعد «التيار الليبرالي» اليساري في «الحزب الديمقراطي»، والذي عبّر عنه في انتخابات الرئاسة الأخيرة المرشح بيرني ساندرز، وبعض من فازوا في الانتخابات النصفية مؤخراً.
هذه المتغيّرات تحصل في الحياة السياسية الأميركية منذ مطلع القرن الجديد، وبعد تداعيات 11 سبتمبر 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الداخلي الأميركي بحروب كبيرة في العراق وأفغانستان، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين وبالأقليات الدينية والعرقية في أميركا، إضافةً للدور الخطير الذي قام به من عُرِفوا باسم «المحافظين الجدد» في صنع القرار الأميركي، وفي تغذية مشاعر الخوف لدى عموم الأميركيين، ممّا دعم أيضاً الاتّجاه الديني المحافظ في عدّة ولاياتٍ أميركية، خاصّةً بعد فوز باراك أوباما بمنصب الرئاسة في العام 2008 وما سبّبه ذلك من عودة مشاعر العنصرية لدى بعض الأميركيين، وخوفهم على نهاية عصر «أميركا البيضاء البروتستانت الأنغلوسكسون».
إنّ الإنقلاب الثقافي الذي حدث في العام 2008 بانتخاب مرشّح للرئاسة الأميركية هو ابن مهاجر إفريقي مسلم أسود اللون، ولا ينحدر من سلالة العائلات البيضاء اللون، الأوروبية الأصل، والتي تتوارث عادةً مواقع النفوذ والثروة، كان لا يمكن القبول باستمراره أو جعله مقدّمة لتغيير كامل في مجتمع أميركي قام أصلاً على العنصرية ضدّ كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما في العام 2008. فهي عنصريةٌ عميقة ضدّ الأميركيين ذوي البشرة السوداء، وشاهدنا في السنوات الأخيرة ممارساتٍ عنصرية كثيرة حدثت ضد أميركيين أفارقة. وهي عنصريةٌ متجدّدة ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية خاصة القادمين من أميركا اللاتينية، وهي عنصرية نامية ضدّ الأقليات ذات الأصول الدينية الإسلامية، حيث حفل العديد من تصريحات ترامب وخطبه بهاتين المسألتين.
فوجود ترامب في «البيت الأبيض»، بالنسبة للجمهوريين المحافظين، هو أشبه بانقلابٍ نجح في القضاء على «الانقلاب» الثقافي والاجتماعي الذي حدث في العام 2008، حينما انتُخب باراك، ابن المهاجر الإفريقي حسين أوباما، كرئيسٍ للولايات المتحدة. وترامب يحرص باستمرار على التذكير بذلك ضمناً حينما يشير في تصريحاته إلى حقبة أوباما.
Leave a Reply