أميركا فـي قلب الأزمة:عندما يتحول الاتحاد جزءاً من «خطاب حالة الاقتصاد» ..بوش يتوسل لكنه لا يستغيث!طلب احد مستشاري الرئيس بوش موعداً عاجلاً منه مساء الثلاثاء الماضي. رد البروتوكول الرئاسي: متى؟ قال طالب الموعد: البلاد في أزمة خطيرة ويجب ان اتحدث الى الرئيس حالاً. ادخل المستشار الى غرفة صغيرة ملاصقة للمكتب البيضاوي.ابلغ البروتوكول الرئيس بوش بوجوده. دخل عليه الرئيس وبادره بالسؤال: ماذا يجري؟ نهض المستشار من مقعده وتقدم نحو الرئيس مصافحاً بوجل وعلامات الارتباك بادية في وجهه ثم قال: السيد الرئيس، البلاد تمر بازمة خطيرة ويجب ان تقرر بسرعة التوجه بخطاب الى الامة لتهدئة الخواطر وتخفيف القلق. عن اي ازمة تتحدث؟ سأله الرئيس. عن ازمة البورصة ومخاطر الانهيار المالي الشامل التي تتهدد اميركا، اجاب المستشار. آه، فهمت! تمتم الرئيس، وهو يرمق ملفاً في يد المستشار. ماذا لديك؟ عاد وسأل الرئيس. انه نص خطاب اقترح ان توجهه غداً مساءً الى الامة الاميركية التي يقلقها عدم ظهورك الاعلامي في الآونة الاخيرة وتتلهف الى سماع رأي الرئيس فيما اصاب البنيان المالي في الاسابيع القليلة الفائتة من هزات واضطرابات. البلاد في حالة هلع والثقة بالنظام المالي تدهورت بسرعة. الناس خائفون، مذعورون، يتساءلون، ماذا فعلتم بالحلم الاميركي. السيد الرئيس الحلم الاميركي يقترب من الكابوس. المطلوب عملية انقاذ سريعة وحاسمة وإلا…وإلا ماذا؟ استوضحه الرئيس وامارات القلق بدأت ترتسم في عينيه.الاقتصاد الاميركي سيدخل خلال فترة وجيزة مرحلة ركود كبير، قاس وطويل، وملايين الاميركيين سيغدون بلا عمل، اجاب المستشار وقد صارت نبرته اقرب الى الغضب منها الى التوسل. إهدأ، قال الرئيس، الامور ستكون تحت السيطرة. لقد طلبنا قبل اسبوع من الكونغرس منحنا شيكاً بسبعماية مليار دولار لاصلاح الخراب الذي اصاب بعض المؤسسات المالية… آمل ان يتعقل اعضاء الكونغرس ولا يصعبوا علينا مهمة الانقاذ التي ننوي القيام بها..حسناً، الامور بين ايديكم، السيد الرئيس، ظهوركم مساء غد على شاشات التلفزة سيخفف بعض الذعر الذي ينتاب ملايين الاميركيين. طابت ليلتك..ما سلف ليس تقريراً واقعياً عما حدث قبل ظهور الرئيس بوش في خطاب طارئ الى الامة الاميركية. انه مجرد سيناريو متخيل لما جرى قبل ان يوجه الرئيس بوش خطابه عبر الشاشات القومية عند التاسعة من مساء يوم الاربعاء الماضي. لكنه سيناريو اقرب الى الواقعية من أي فيلم هوليوودي قد يصار الى انتاجه في اقرب فرصة، اذا اخذ «مفعول الدمينو» المالي مداه واصاب الانهيار مؤسسات مالية جديدة، بعد انهيار «ليمان براذرز» وترنح «اي. اي. جي» و«ميريل لينش» وادخال «فاني ماي» و«فريدي ماك» الى غرفة العناية الفائقة الفدرالية.الرئيس بوش وهو يلقي خطابه الطارئ مصارحاً الاميركيين للمرة الاولى بأن تراكم ارث الاهمال وغياب المراقبة على مدى العقد الفائت وضع الاقتصاد الاميركي في خطر، بدا كزعيم من دول «العالم الثالث» يتحدث بلسان «اشتراكي» وان ظل قلبه يهدس في هوى الديموقراطية الرأسمالية ومحاسنها.اقر الرئيس للمرة الاولى بأن اسس اقتصاد الامة لم تعد سليمة وان امراض الفساد والاهمال المزمنين قد استشترت في جسد النظام المالي الاميركي الذي ينتمي الى ثلاثينات القرن الماضي ولم يطرأ عليه اي تحديث جدي وذي مغزى. «نحن ذاهبون الى ركود كبير، قاس وطويل اذا لم يتحرك اعضاء الكونغرس بأسرع وقت ويمنحوا موافقتهم على خطة الانقاذ المستعجلة التي طرحناها»، قال الرئيس بلهجة تتخطى التوسل ولكنها تقصر عن الاستغاثة.رمى الرئيس كرة النار المالية الملتهبة في ملعب الكونغرس الاميركي واردف بدعوة المرشحين اوباما وماكين وزعماء الكونغرس الى اجتماع طارئ في اليوم التالي للخطاب من اجل توحيد الجهود لانقاذ النظام الاميركي برمته من لجّة التخبط وإلقاء «طوق النجاة» لما تبقى من مؤسسات مالية بدت عليها اعراض شحوب الثقة وتلمح الى امكانية لجوئها الى «مستشفيات» طوارئ الافلاس لطلب الحماية من الدائنين الذين بدورهم، اهتزت ثقتهم بالامن المالي الاميركي بعدما وجدوا في اميركا على مرّ العقود، واحة آمنة لاستثماراتهم، لكنها استحالت بين ليلة وضحاها الى قفر موحش بات المستثمرون يترددون في ولوجه.كان على الكونغرس ان يلتقط كرة النار التي رماها الرئيس بين حضينه الجمهوري والديموقراطي على السواء، فالمشرعون هم «ام الصبي» التي ترفض «قسمته» خوفاً على حياته وقد ينتهون قريباً جداً من مداولاتهم بمنح الرئيس وناظر خزينته كيس المال الضخم لافتداء اقتصاد البلاد ومنعه من السقوط في براثن الركود.ادلى الرئيس باعترافات اقتصادية خطيرة ترقى الى حجم خطورة الوضعين المالي والاقتصادي، على هامش كلامه عن ايمانه الذي لا يتزحزح بالمبادرة الحرة واقتصاد السوق وعن معارضته «الغريزية» للتدخل الحكومي فيه.إلا ان الرئيس كان قد وجد نفسه يتصرف بغريزة بقاء لا علاقة لها البتة بايمانه عندما اقدم على «تأميم» عملاقي القروض العقارية «فاني ماي» و«فريدي ماك» وعندما القى بخمسة وثمانين مليار دولار في احضان عملاقة التأمين واحدى درر التاج الاقتصادي الاميركي «اي. اي. جي» ومبادرته العاجلة الى طلب فتح «بيت المال الاميركي» على مصراعيه لاجل شراء المشاكل المالية المستعصية لمجموعة اخرى من المؤسسات المالية المترنحة تحت وطأة الديون الضخمة بعدما فقدت بريق اصولها وارصدتها في اسواق اهتزت اركانها بفعل زلزال «ليمان براذرز» واصيبت بتصدعات وتشققات خطيرة باتت تهدد البنيان المالي الاميركي والعالمي بانهيارات وكوارث تشيب لهولها الولدان.«اقتصادنا يواجه لحظة تحد عظيم» ختم الرئيس، بوجه مكفهر يعكس عمق المأزق ويستشرف الكارثة المحققة اذا لم يغادر المشرعون ترف السجال حول جدوى خطة الانقاذ المطروحة على بساط المؤسسة الديموقراطية الام اليوم قبل الغد. والمشرعون هؤلاء، سيكون أمامهم أيام قليلة لإطفاء كرة النار الرئاسية، الى حزب الرئيس انتموا، ام الى الحزب الآخر الذي يتهيب مرشحه الواعد باراك اوباما جلال الازمة الا انه يرفض تأجيل المناظرة الرئاسية بطلب من خصمه الجمهوري الذي اعلن «الحداد الانتخابي» واوقف كل انشطته «لاستجلاء الموقف».الرئيس لم يشأ ان يغادر الشاشة مساء الاربعاء بلا ومضة امل في سماء الازمة الملبدة بغيوم سوداء: «تجاوزنا تحديات قاسية في تاريخنا وسوف نتخطى هذا التحدي»، اقفل الرئيس خطابه على امل ان تنفتح مجدداً شرايين المال في جسد الاقتصاد وان لا يكون مبلغ الـ700 مليار دولار مجرد حبة اسبرين غير قادرة على فتح انسدادات مزمنة في شرايين النظام المالي الذي اصيب بـ«جلطة الخامس عشر من ايلول» ولا يزال منذ تلك اللحظة يرقد في غرفة العناية الفائقة الفدرالية.كان الاقتصاد، على الدوام جزءاً من خطاب حالة الاتحاد. صار الاتحاد جزءاً من الخطاب الطارئ عن حالة الاقتصاد!من يبقى قادراً على اسكات هوغو تشافيز واحمدي نجاد في هكذا ازمة؟!يا لها من مفارقة تاريخية، تغري بالتوقع ان اميركا على ابواب «ثورة اشتراكية»!
Leave a Reply