لبنان «رهين المحبسَيْن»
هل ثمة أسرار كامنة وراء حفلات التصعيد الإعلامي التي تشهدها الساحة السياسية اللبنانية بين فريقي النزاع الداخلي، مع إقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية؟هذا السؤال يطرح بقوة في ظل تزايد حدّة الإنقسام السياسي الذي بدأ يأخذ شكل التحدي ويصاغ بلغة استفزازية في رسائل متبادلة حول الموضوع الرئاسي تعتمد رفعاً لسقف المواقف إلى أقصى حدوده الممكنة بما يشير ظاهراً أن لبنان على عتبة الدخول في نفق الفوضى الدستورية التي يمكن أن تنجم عن الفراغ الرئاسي، وفي ظل التحذير من «العواقب الخطيرة» لسوء تقدير ردة فعل المعارضة على أي خطوة يقوم بها فريق الأكثرية لإنتخاب رئيس جديد بأكثرية النصف زائداً واحداً، مثلما صرح النائب وليد جنبلاط، أو إنتخاب رئيس «شو ما كان يكون» كما أعلن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع إثر إجتماع مسيحي 14 آذار في ضيافته في بلدة معراب الأسبوع الفائت.غير أن التصعيد الحادّ في المواقف السياسية لا يلغي إحتمال تجاوز محطة الإنتخابات بـ«تسوية ما» ألمح إليها النائب وليد جنبلاط وحذّر حلفاءه في تجمع 41 آذار من «التورط» فيها باعتبراها خيانة «ولأنها تعني نهايتنا». هذه التسوية التي قد تخرج من قبعات «السحرة» الإقليميين والدوليين في اللحظة الأخيرة ستكون كفيلة بإحداث عملية فرز في صفوف كلا الفريقين المتنازعين، فلا نعود نشهد فريقاً سياسياً متماسكاً إسمه 14 آذار، ولا فريقاً مقابلاً متماسكاً إسمه 8 آذار يُحسب عليه تيار المعارضة المسيحية القوي المتمثل بالطامح الرئاسي الأبرز وحليف الركن الأساسي في المعارضة «حزب الله» الجنرال ميشال عون.فالتسوية أو ما يطلق عليها مجازاً إسم «الرئيس التوافقي» سوف تعني إضمحلال حظوظ الجنرال عون في الوصول إلى قصر بعبدا رغم محاولة إستدراج عرض ألمح إليه للأميركيين في سباقه إلى خط النهاية الرئاسي، لأنه (عون) «راغب في الحفاظ على المصالح الأميركية في لبنان» من باب «العمل على تصويب السياسة الأميركية المنحازة إلى فريق ضد آخر» في الأزمة الوطنية القائمة، كما أخبر برنامج «كلام الناس» على محطة «إل بي سي» الأسبوع الماضي.وفي المقابل، لا يبدو أن «التعفف الرئاسي» من شيم الطامحين في الفريق المسيحي المنضوي تحت لواء 41 آذار والذي حاول في إجتماع معراب الأخير الذي ضمّ ثلة غير قليلة من المسترئسين تشديد الطوق حول أي فرصة لوصول أحد «الجنرالين» عون أو سليمان (قائد الجيش) إلى سدة الرئاسة، وذلك عن طريق مباركة الترشيحات في صفوف الفريق المسيحي الموالي كـ «ظاهرة صحية وديمقراطية»، مع إدراك المجتمعين أن أي تسوية للموضوع الرئاسي يحملها البريد المستعجل لأصحاب القرار الحقيقيين خارج الحدود اللبنانية، ستكون كفيلة أيضاً باستبعاد أي مرشح من صفوف هذا الفريق.يدفع الشعور بالهلع لدى الفريقين إلى الإلتقاء حول تفسير مشترك لمعنى التوافق ومؤداه، فيزعم كلاهما أنه لا يعني إستبعاد أي مرشح من الفريقين لأن التوافق على إسم الرئيس ينزع عنه صفة الإرتباط بهذا الفريق أو ذاك. هذا «المشترك» اليتيم بين الأكثرية النيابية والمعارضة لا يصدر، مع ذلك، عن حسن نوايا متبادل بل عن إستراتيجية لإدارة القلق الذي يسيطر عليهما من تبعات الذهاب إلى خيارات لا يريدانها، من نوع «الحكومتين» و«الرئيسين» ليس في مقدور لبنان تحملّها ليوم واحد، خصوصاً مع بداية بروز مؤشرات التراجع الإقتصادي والمالي بسبب تفاقم الخلافات السياسية وغياب أي أفق لإختراق يعيد الطمأنينة إلى الأسواق المالية التي شهدت تراجعاً لافتاً في الرساميل الوافدة يقدر بحوالي 29 بالمئة خلال خمسة أشهر بالمقارنة مع العام 2006، وزيادة حجم التضخم بحوالي 4.6 بالمئة بسبب إرتفاع الأسعار وتراجع القدرات الشرائية للعائلات اللبنانية.
ويخشى فريقا السلطة والمعارضة على حدّ سواء الوصول إلى خيارات يجري التلويح بها إعلامياً من باب التهويل أحدهما على الآخر مع إدراكهما وتمنياتهما أن يهبط الفرج على الأزمة عبر توافق إقليمي – دولي يجنبهما حرج الذهاب إلى إتخاذ خطوات تصعيدية سوف تنعكس مزيداً من عدم الإستقرار على الوضع الداخلي الهش وتهدد بدخوله في فوضى سياسية وأمنية سيدفع الطرفان ثمنها وقبلهما كل «الشعوب» اللبناية التي ينطلقان بإسمها ويرفعان لواء «قضاياها». يدرك الفريقان أيضاً أن الدخول في مهلة الإستحقاق الرئاسية والخروج منها دون إنتخاب رئيس جديد للجمهورية سيكون له ترجمة واحدة وخطيرة هو الفراغ السياسي في أعلى هرم السلطة نظراً لرفض الرئيس الحالي إميل لحود تسليم السلطة إلى حكومة يعتبرها مع فريق المعارضة فاقدة للشرعية والدستورية، مما يعني عملياً الإفلاس السياسي للفريقين وإغراق البلاد في المزيد من التدويل لأزماته المتوالدة وما قد يرتبه هذا التدويل من تكريس لـ«لبنان الساحة» التي يجرب فوقها أصحاب المشاريع السياسية والأمنية والعسكرية سيناريوهاتهم التي شهدنا نموذجاً مدمراً عنها في حرب الصيف الماضي.في هذه الأجواء المكفهرة والمعقدة، يبذل الفرنسيون محاولة أخيرة لإستنقاذ الوضع اللبناني الداخلي من براثن الإرتهان المكلف لعملية الإنتظار القاسية التي يعيشها اللبنانيون إلى حين أن تزن كل من واشنطن وطهران خياراتهما الإستراتيجية وأيها سيكون أجدى بالنسبة للأولى لتغطية الإنكفاء العسكري الأميركي من المستنقع العراقي الموحل، هل هو تفاهم مع طهران على تقاسم النفوذ والأدوار يؤدي إلى تعايش تحت ظلال «المصالح المشتركة» التي وجدت تعبيراتها في خلال وبعد غزو أفغانستان ثم العراق، أم إندفاع نحو مواجهة تبدأ بضربة عسكرية أميركية ضد إيران يصعب التنبؤ بحجمها الكارثي على منطقة الخليج والمشرق العربيين برمتها؟لذا قد لا يكون شهر أيلول هو شهر «الحسم» بقدر ما سوف يشهد تبلور إستحقاقاته اللبنانية (الرئاسية) والأميركية الأمنية على ضوء التقرير الذي سيرفعه السفير الأميركي في العراق وقائد القوات الأميركية «بياتريس» أمام الكونغرس لتقييم الأوضاع الأمنية وتقرير الخطوة التالية بناء عليها والتي بات محتملاً بقوة أن تكون إعادة إنتشار واسعة وجذرية لقوات الإحتلال الأميركية على الأرض العراقية وتتضح بعدها إتجاهات الصراع الكبير على المنطقة الذي يهمل طرفا الصراع اللبنانيان خطورته على مستقبل الكيان اللبناني في خضم تلهيهم بانتخابات رئاسية هم أول من يدركون أن مفاتيحها أو كلمة السر التي تتحكم بمجرياتها ونتائجها ستهبط عليهم، إن هبطت، في اللحظة الأخيرة من خارج الحدود وسيعمل الجميع بمقتضاها شاؤوا أم أبوا، لأنهم كانوا ولا يزالون راضين بالإرتهان لإرادة اللاعبين الخارجيين الكبار ومشاريعهم فوق ساحتهم على حساب أي رؤية للمصلحة الحقيقية للشعب اللبناني بكل مكوّناته.فهل تنجح الجهود الفرنسية التي سيتابعها المبعوث كوسران في بيروت هذا الأسبوع في تجنيب لبنان الإنزلاق نحو «الفوضى الخلاقة» أم أن سيف المواجهة المحتملة بين مشروعين متناقضين في المنطقة تحمل لواءيهما كل من واشنطن وطهران قد سبق عذل الفرنسيين وبات لبنان «رهين المحبسين» الأميركي – السعودي والإيراني – السوري؟يُخشى أن إندلاع حرب الكلام بين السوريين والسعوديين مؤشر لاتجاه التطورات اللبنانية نحو مزيد من التعقيد، وأن يكون خريف 2007 أشد حرارة من صيف 2006. لننتظر ونرَ!
Leave a Reply