كمال ذبيان – «صدى الوطن»
مع انعدام أفق الحلحلة السياسية بين قوى السلطة في لبنان، فاجأ نائب رئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي، اللبنانيين بتوجيه نداء صريح إلى الجيش لتنفيذ انقلاب عسكري وتعليق العمل بالدستور لإنقاذ البلاد من الانهيار الكامل بعد أن بدأ الانحلال يسيطر على جسم الدولة المتهالك، لاسيما عقب الاشتباك السياسي داخل القضاء مما يهدد بنسف آخر ما تبقى من أسس النظام وهو القضاء الذي إن بقي متماسكاً وسليماً ونظيفاً، يمكن التأسيس عليه، لإعادة بناء الدولة.
نداء الفرزلي
هذا النداء، الذي يأتي من سياسي مخضرم كالنائب إيلي الفرزلي، الذي يصفه البعض بـ«الزئبقي»، نظراً لتقلب مواقفه في كل العهود الرئاسية، التي يكون رجلها في البداية قبل أن ينقلب عليها وفق تبدّل الظروف الداخلية والإقليمية والدولية.
وهناك مَن يتّهم الفرزلي أيضاً بأنه عمل وسيطاً مع الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وكان يزور الحاكم العسكري الإسرائيلي للبقاع الغربي في جب جنين، ويتدخل معه لإطلاق سراح معتقلين كما اعترف الفرزلي بنفسه وإن صنف جهوده تلك بـ«الإنسانية».
كذلك كان السياسي الأورثوذكسي البارز من الزوار الدائمين لعنجر، مركز المخابرات السورية في لبنان، فكان مقرباً من المسؤولين الأمنيين السوريين، وعلى رأسهم اللواء غازي كنعان وخلفه رستم غزالي، اللذين تواليا على صناعة رؤساء الجمهورية والحكومات ومجالس النواب المتعاقبة وصولاً إلى قادة الأجهزة الأمنية والقضائية والمدراء العامين.
وكان الفرزلي من المحظيين لدى النظام الأمني السوري، فأصبح نائباً ثم نائباً لرئاسة مجلس النواب، ووزيراً في إحدى الحكومات، قبل انكفائه عن صناعة القرار مع انسحاب القوات السورية في ربيع 2005 فامتطى تجمعاً أرثوذكسياً سياسياً، سمّاه «اللقاء الأرثوذكسي»، ومن خلاله طرح قانون انتخاب يقضي بأن تصوّت كل طائفة في لبنان، لمرشحيها في مجلس النواب لتعزيز التمثيل الصحيح، وهو اعتبره معارضو المقترح ترسيخاً للطائفية السياسية، فقوبل باعتراض شديد من «تيار المستقبل» الذي يعتبر الحارس الأمين على النظام اللبناني الذي أرساه اتفاق الطائف.
غير أن النداء الذي دعا فيه الفرزلي الجيش إلى التحرّك لمنع سقوط المؤسسات وتجنب الفوضى الأمنية، وجد فيه البعض تصويباً غير بريء على عهد الرئيس ميشال عون، الذي طالبه بالاستقالة وتسليم السلطة إلى الجيش، بعد استقالة مجلس النواب كاملاً، فتنتفي الضرورة لتشكيل حكومة جديدة، طالما سيجري تعليق العمل بالدستور.
رئاسة الجمهورية
لا شك أن معركة رئاسة الجمهورية المرتقبة في العام القادم، لم تخرج من حسابات الفرزلي، الذي وضع المرشحين الموارنة المتنافسين، وأبرزهم جبران باسيل وسمير جعجع وسليمان فرنجية، أمام تحدٍّ واضح بطرح بديل عنهم وهو قائد الجيش جوزف عون.
إذ يرى الفرزلي أن كلاً من المتنافسين الثلاثة، يعمل كل ما بوسعه ليكون هو المرشح الأوحد، بل ذهب النائب الأرثوذكسي إلى حد اتهام باسيل، صهر عون ورئيس تياره السياسي، بأنه يخوض معركة الرئاسة وفق قاعدة «إما أنا أو الفوضى»، وهذا ما يقف عائقاً أمام تشكيل الحكومة التي يريد باسيل –في مقابلها– الحصول على ضمانات تفتح له طريق قصر بعبدا، بحسب الفرزلي.
لكن وفقاً للمراقبين، يعتبر فرنجية هو العائق الأكبر أمام طموحات باسيل الرئاسية، لاسيما وأن الزعيم الزغرتاوي يعتبر المرشح الثاني للرئاسة بعد عون في محور المقاومة، وقد سبق له أيضاً أن حصل على تأييد كتل نيابية أساسية كحركة «أمل» و«المستقبل» و«الاشتراكي»، فضلاً عن تأييد فرنسي، إلا أن وعد «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصرالله، للعماد عون، بالرئاسة، حال دون انتخاب فرنجية قبل أربع سنوات ونيف، لكنه في المقابل حصل على وعد بأنه سيكون الرئيس الطبيعي بعد انتهاء ولاية عون، وهو أمر متوقع في حال حصوله على دعم مَن أيّدوه في الانتخابات الرئاسية السابقة، إضافة إلى موقف أميركي إيجابي تجاهه، في وقت تلوح فيه واشنطن بفرض عقوبات على باسيل. غير أن الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة، يبقى لها التأثير الأكبر في انتخاب الرئيس، كما عهد اللبنانيون منذ نشأة دولتهم.
ولا شك في أن من أبرز الاستحقاقات التي قد تحدد معالم معركة الرئاسة، هي الانتخابات النيابية المقبلة التي ستقام أيضاً في العام 2021، والتي يُتهم باسيل بأنه يحاول تأجيلها، لأنه قد لا يفوز بكتلة نيابية وازنة مسيحياً كما هو الحال الآن. فمن غير المعروف حالياً لمَن ستكون الأكثرية النيابية المسيحية، في ظل التغيرات التي شهدها المجتمع اللبناني خلال السنتين الأخيرتين، لاسيما بعد الحراك في الشارع وانهيار الليرة. إذ تعول «القوات اللبنانية» على قلب الكفة المسيحية لصالحها على حساب «التيار الوطني الحر» عبر حصد أكبر عدد ممكن من النواب، مما سيفسح المجال أمام تقدم زعيمها، سمير جعجع، لرئاسة الجمهورية كمرشح طبيعي وفق الشعار الذي اعتمده «التيار البرتقالي» نفسه، وهو «الرئاسة للأقوى في طائفته، لكن يبقى الحاجز الإسلامي عائقاً لا يمكن لجعجع تجاوزه بسهولة، وهو الذي سعى إلى ذلك في الانتخابات الرئاسية السابقة غير أنه فشل حتى في الحصول على تأييد حلفائه المسلمين في «14 آذار»، الذين سايروه في الدورة الأولى، وامتنعوا عن دعمه في الدورة الثانية، فانسحب من المنافسة، ليبقى المرشح الوحيد ميشال عون.
قائد الجيش
ويرى المراقبون أن الاقتراح الذي تقدّم به الفرزلي لتولي الجيش السلطة، ليس إلا «سيناريو» أو «بروڤة» تمهيدية لترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، وهو أمر بات معتاداً في لبنان، مع وصول أربعة قادة للجيش إلى سدة الرئاسة، أولهم اللواء فؤاد شهاب بعد أحداث 1958، ثم في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية واتفاق الطائف، انتخب ثلاثة من قادة الجيش بالتتابع لرئاسة الجمهورية، هم: إميل لحود وميشال سليمان وميشال عون الذي احتاج ما يقرب من ثلاثة عقود للانتقال من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية، على عكس سلَفَيه اللذين انتقلا تلقائياً إلى قصر بعبدا.
انقلابات
في الواقع، لا توجد أي مؤشرات على اعتزام الجيش، قيادة وضباطاً، اللجوء إلى انقلاب عسكري. فشعار «الجيش هو الحل»، لا يمكن تسويقه في لبنان المتعدد الطوائف والمذاهب، كما الأحزاب والتيارات السياسية.
ولم يحصل قط أن وقع انقلاب عسكري ناجح في لبنان، رغم محاولات محدودة قام بها ضباط من الجيش، كان أبرزها انقلاب نُفّذ في نهاية العام 1961، من قبل ثلاثة ضباط ينتمون إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، هم: فؤاد عوض وشوقي خيرالله وعلي الحاج حسن، لكن المحاولة فشلت وزجّت قيادة الحزب برئاسة الدكتور عبدالله سعادة، في السجن، ومعه حزبيون ومناصرون، قتل منهم حوالي 30 شخصاً تحت التعذيب.
وكان الحزب القومي أيضاً قد قام –في أيام مؤسسه أنطون سعادة– بثورة ضد النظام السياسي، في العام 1949، لكنها لم تنجح، فأعدم سعادة على أثرها بعد محاكمة صورية لم تستغرق أكثر من 24 ساعة.
وباستثناء ثورة سعادة والانقلاب العسكري المدعوم من الحزب القومي، لم يحصل أي تحرك عسكري ضد السلطة الحاكمة، سوى ما حصل في أثناء الحرب الأهلية، التي تشرذم فيها الجيش ألوية طائفية، وولاءات سياسية، وانتماءات حزبية، فكانت ظاهرة الملازم أول أحمد الخطيب الذي ساند الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، ثم حركة اللواء عزيز الأحدب التي وُلدت ميتة، وكذلك تمرّد 6 شباط 1984 ضد عهد الرئيس أمين الجميّل، الذي أدى إلى انقسام الجيش وتشرذمه تحت لواء الميليشيات إلى أن أعاد توحيده العماد لحود، عقب انتهاء الحرب الأهلية، وحل الميليشيات وتسليم أسلحتها.
ومن الواضح، اليوم، أن قيادة الجيش التي يحثّها البعض على استلام السلطة، لا تبدي أية نية للمضي قدماً في هذا الطريق، بالرغم من الرسائل النارية التي وجهها العماد عون إلى العسكريين وعبرهم إلى السياسيين، معبراً عن الاستياء والغضب مما وصلت إليه أوضاع لبنان من فقر وجوع يهدد معظم اللبنانيين، بمن فيهم أبناء المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية، في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، وتدني القدرة الشرائية للمواطنين.
لكن مع المناخ السياسي المتأزم، وعدم جدية قوى السلطة في إخراج لبنان من أزماته الخانقة، تزداد المخاوف من اندلاع فوضى اجتماعية–أمنية، ويزداد معها التطلّع إلى الجيش بوصفه المخلص الوحيد للبنانيين بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم، وهو ما سيضع السياسيين تحت أمر واقع جديد، مفاده أن الجيش هو الحل، خاصة بعد فشل الرهانات الخارجية، كما الداخلية، على المجتمع المدني لفرض التغيير، فهل يفعل الجيش ذلك؟
Leave a Reply