التسوية السياسية من البوابة الاقتصادية
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«خطة السلام مؤجلة حتى إشعار آخر…» تصريح جاريد كوشنر، مهندس «صفقة القرن» وصهر دونالد ترامب، جاء انعكاساً لإرباك يواجه الإدارة الأميركية في هذا الملف، شأن الكثير من الملفات الأخرى المتصلة بالسياسة الخارجية في عهد دونالد ترامب، خصوصاً أن «التسوية» المطروحة تمّ التسويق لها بشكل يثير النفور، ليس على المستوى الفلسطيني فحسب، بل أيضاً على مستوى عالمي، في ظل رفض روسي قاطع وفتور أوروبي واضح.
مع ذلك، فإنّ ما قاله صهر الرئيس الأميركي ليس سوى محاولة للالتفاف على حقيقة أن ترامب لا يملك من أوراق انتخابية، يقدّمها كأوراق اعتماد جديدة للوبي اليهودي في الولايات المتحدة قبل عام ونيّف من السباق الكبير إلى البيت الأبيض، سوى خطوات متلاحقة لتصفية القضية الفلسطينية، تحت شعار التسوية الشاملة، التي تستجيب بشكل كامل للشروط الإسرائيلية، خصوصاً في تفاصيلها التي تتماهى مع طروحات صقور الصهاينة، ليس في عهد بنيامين نتنياهو فحسب، بل منذ قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ ما صرّح به كوشنير لا يشكل تراجعاً عن «الصفقة» بقدر ما يندرج في إطار التكتيك التسويقي، الذي يتحيّن اللحظة المناسبة للإعلان عن الخطة، وفرضها باعتبارها أمراً واقعاً، ومن هنا كان حرصه على استخدام عبارة «حتى إشعار آخر»، بكل ما تحمله من التباسات، تجعل اللحظة المواتية لتكريس «صفقة القرن» ممكنة في أي توقيت محتمل، الأكثر ترجيحاً فيه هو مؤتمر المنامة، الذي تبارت دول الخليج على التسويق له أكثر من عرّاب «الصفقة» نفسه.
خنق اقتصادي
يدرك الأميركيون جيداً مكامن الضعف لدى الفلسطينيين، أو بعبارة أدق لدى السلطة الفلسطينية، وهو العامل الاقتصادي، الذي يبدع ترامب وصهره في فهم مكامنه، انطلاقاً من خبرتهما التجارية السابقة لوصولهما إلى البيت الأبيض، تماماً كما يدركه الإسرائيليون، الذين خنقوا الاقتصاد الفلسطيني لسنوات طويلة، بإجراءات متعددة، باتت أهدافها واضحة.
وانطلاقاً من «صفقة القرن» نفسها يمكن فهم حقيقة تلك الأهداف، فالولايات المتحدة وإسرائيل عمدتا، بشكل غير مسبوق خلال الأشهر الماضية، إلى فرض ضغوط مالية على السلطة الفلسطينية التي لا تزال المعارضة قوية في صفوفها لـ«خطة السلام» الأميركية.
من هنا، فإن التخفيضات الحادة في المساعدات الأميركية للفلسطينيين في العام الأخير، على سبيل المثال، لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها محاولة نحو دفعهم للرضوخ لـ«صفقة القرن» التي تعد الولايات المتحدة بأنها ستحمل فوائد اقتصادية كبيرة لهم.
هذا التوجه يتماهى مع توجهات حكومة بنيامين نتنياهو، ففي حملة الدعاية خلال الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، فرضت حكومة تل أبيب عقوبات دفعت بالسلطة الفلسطينية إلى الأزمة المالية، وقد ترافق ذلك مع إعلان إسرائيلي عن خفض بنسبة خمسة بالمئة من عائدات الضرائب البالغة 190 مليون دولار تقريباً التي تحولها للسلطة الفلسطينية شهرياً عن واردات تصل عن طريق المنافذ الإسرائيلية إلى الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.
وعلى هذا الأساس، يقول البنك الدولي إنه ما لم تتم تسوية هذه المشكلة فإن العجز التمويلي لدى الفلسطينيين قد يتجاوز مليار دولار في 2019 الأمر الذي يفرض المزيد من الضغوط على اقتصاد يعاني من معدل بطالة يبلغ 52 بالمئة.
الأردن
على نحو موازٍ، تشير تقديرات قدمها الجيش الإسرائيلي إلى القيادة السياسية الإسرائيلية مؤخراً، إلى أن السلطة الفلسطينية ستبدأ بالانهيار الاقتصادي بعد شهرين أو ثلاثة أشهر.
سلاح الاقتصاد المُشهر أميركياً وإسرائيلياً لا يستخدم ضد الفلسطينيين وحدهم، بل يشمل كل الدول العربية المعنية بالقضية الفلسطينية مباشرة، بما فيها الأردن، المستاء جداً لعدم إحاطته علماً بتفاصيل «صفقة القرن»، وفق الصحافة الأميركية.
الأمر يبدو مثيراً للعجب، خصوصاً أن الأردن يعد تاريخياً من أقرب حلفاء الأميركيين حين يتعلق الأمر بالتسويات والتنازلات في القضية الفلسطينية، ما يقود إلى استنتاج جوهري، مفاده أن شروط «صفقة القرن» تبدو أكبر بكثير من قدرة الأردن نفسه على القبول بها، خصوصاً حين يتعلق الأمر بوضع القدس، باعتباره آخر ما يحفظ ماء وجه المملكة الهاشمية «المؤتمنة» على بيت المقدس، ومع ذلك، فإنّ مهندس «صفقة القرن» ربما يمسك الملك عبدالله الثاني من اليد التي تؤلمه للقبول بالصيغة المطروحة دون أي تعديل، فالأردن، الذي يستضيف نحو مليوني لاجئ فلسطيني، يتعرّض لضغوط اقتصادية كبيرة للقبول بالصفقة، وهامش المناورة عند الملك الأردني ضيّق، فاقتصاده مترنح (تُقدّر قيمة الدين العام بـ39.9 مليار دولار، ونسبة البطالة بنحو 20 بالمئة)، ناهيك عن أزمة المياه التي تواجهها البلاد، والتي وصفها بعض المحللين بأنها بين الأسوأ عالمياً.
من هنا، يمكن لجاريد كوشنير أن يقدّم للأردن مغريات كبرى للقبول بصفقة القرن، ليس من جيب الأميركيين بالطبع، وإنما من جيوب الآخرين: السعودية، والإمارات التي بدأت بالفعل في تقديم الدعم للاقتصاد الأردني منذ موجة الاحتجاجات الأخيرة، حيث ثمة من يعتقد أن هذه المساعدات المالية تنطوي على شروط سياسية؛ ومشروع ضخ مياه البحر الأحمر إلى البحر الميت، بواقع 300 مليون متر مكعب، يفترض أن تكون من حصة الفلسطينيين، وذلك عبر محطات تحلية تدفع تكاليفها لإسرائيل.
مصر .. ولبنان
الأمر نفسه ينسحب على مصر، التي تواجه منذ سنوات أزمات اقتصادية متلاحقة، لم تخفف من وطأتها الإجراءات المؤلمة التي اتخذها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالوصفات المعروفة لصندوق النقد الدولي، خصوصاً أن تلك الإجراءات ساهمت في زيادة الدين العام الخارجي، وهو كما بات معروفاً منذ سنوات، دين سياسي، يمكن المساومة عليه، على غرار ما فعل حسني مبارك حين اتخذ قرار المشاركة في حرب الخليج الأولى عام 1991.
وبالنسبة إلى السيسي، ثمة مغريات سياسية أخرى، وتتمثل بالاستمرار في «غض الطرف» عن الانتهاكات الداخلية لحقوق الانسان، والتي طالت ناشطين معارضين من شتى الاتجاهات، علاوة على ورقة «الإخوان المسلمين» حيث بامكان الرئيس المصري أن يطلب تشديداً على نشاطات التنظيم الدولي من خلال أنظمة العقوبات ولوائح الارهاب الأميركية.
أما في لبنان، فالحال ليس أفضل، فإغراق البلد بالأزمات الاقتصادية والمالية، ناهيك عن تشديد العقوبات على «حزب الله» يعدان أيضاً أداةً لفرض حلول كارثية للقضية الفلسطينية، سواء في ما يخص توطين اللاجئين الفلسطيينيين، وربما جزء من السوريين لتحقيق التوازن الطائفي المطلوب، في مقابل إغراءات مالية، تجنّب البلاد الإفلاس والانهيار الكامل الذي يحوم شبحه في سماء بيروت.
مؤتمر المنامة
من هنا، يمكن توقع أن «صفقة القرن» ستبدأ في الاقتصاد قبل السياسة، والمؤتمر الذي ستستضيفه العاصمة البحرينية، المنامة، في 25 و26 حزيران (يونيو) المقبل، والذي سيجمع عدداً من وزراء المالية ومجموعة من الاقتصاديين البارزين في المنطقة العربية (مع تداول معلومات بشأن مشاركة وزير الاقتصاد الإسرائيلي موشيه كحلون) سيشكل نقطة البداية لتنفيذ «صفقة القرن»، وربما يتزامن مع الإعلان الصريح عن الخطة المقترحة.
شعار المؤتمر، وهو «السلام من أجل الازدهار»، يشي بذلك أيضاً، والإعلان الرسمي عنه يلامس شعار «صفقة القرن»، فهو «فرصة محورية لاجتماع قادة الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني وقطاع الأعمال لتبادل الأفكار والرؤى ومناقشة الاستراتيجيات لتحفيز الاستثمارات والمبادرات الاقتصادية الممكنة مع تحقيق السلام… وتبادل الآراء والأفكار من خلال طرح مستفيض لرؤى طموحة وأطر عمل تنفيذية من أجل مستقبل مزدهر للشعب الفلسطيني وللمنطقة».
وإذا ما اقترن الاقتصاد بالسياسة، وهذا الاقتران هو من البديهيات، فإن المؤتمر الذي يسعى ضمن أهدافه لتحفيز الاستثمار في فلسطين، يبقى من دون معنى إذا تجاهل خلق بيئة استثمارية، وهذه البيئة الاستثمارية، لن تنشأ من دون حل سياسي من خلال «صفقة القرن»!
Leave a Reply