تنبئ عملية إغتيال القائد العسكري الأبرز في «حزب الله» عماد مغنية في العاصمة السورية دمشق بمرحلة جديدة من الصراع عنوانها الحروب البديلة الصغيرة والمتنقلة بين إسرائيل وقوى الممانعة العربية والإسلامية ممثلة بسوريا وإيران وحلفائها في لبنان وفلسطين، بعد إنسداد آخر الجبهات العربية المفتوحة مع إسرائيل في الجنوب اللبناني بفعل القرار الدولي 1701 التي أعقب حرب تموز العام 2006 وتعذر إستمرار المواجهة على هذه الجبهة العربية الضيقة بفعل التواجد العسكري الدولي ممثلاً بقوات «اليونيفيل» والجيش اللبناني وبفعل الحصار الخانق الذي يعيشه قطاع غزة المهدد باجتياح واسع تهيء له إسرائيل في ظل إنقسام السلطة الفلسطينية الذي أعقب سيطرة حركة «حماس» على القطاع، والإنقسامات العربية – العربية الحادة.
فحزب الله الذي تلقى ضربة قاسية بمقتل مغنية لن يسكت على هذا الإختراق الإستخباراتي الكبير الذي نجح في إصطياد أحد أكبر قيادييه المؤسسين وأحد أهم عقوله العسكرية والتنظيمية ويتوقع أن يرد على هذا الإغتيال في أمكنة خارج «الأرض الطبيعية للمعركة» كما أعلن أمينه العام السيد حسن نصر الله صراحة في خطاب تشييع مغنية «تريدونها حرباً مفتوحة فلتكن حرباً مفتوحة» لكن هذه المرة ليست حرب الصواريخ بل حرب الإغتيالات والعمليات الأمنية في الخارج.
المواجهة الجديدة التي بدأت معالمها بالإرتسام لحظة سقوط مغنية في العاصمة السورية ستعيد التذكير بحقبة الثمانينات والسنوات الأولى من تسعينات القرن الماضي وهي مواجهة قد تفتح «حرباً عالمية جديدة على الإرهاب» بنسخته «الإيرانية – الشيعية» بعد ضمور نشاط القاعدة في العراق ونجاح الإحتلال الأميركي في إحدث شرخ بين التنظيم السلفي السني وقاعدته الشعبية العراقية. ويمكن التكهن أن مواجهة من هذا النوع خارج حدود «الأرض الطبيعية للمعركة» وفي مواجهة عدوّ لا يزال يحتل جزءاً من هذه الأرض (مزارع شبعا) سوف تنال من الصورة المشرقة للمقاومة التي خاضها حزب الله ضد الإحتلال الإسرائيلي وأدت إلى دحره عن الأرض اللبنانية في العام 2000 في سابقة لم يشهدها الصراع العربي – الإسرائيلي منذ إندلاعه قبل 60 عاماً.
وإذا كان «حزب الله» قد نجح إلى حد كبير في محو صورة الثمانينات بإرثها الثقيل عن نفسه وثبت في أذهان الرأي العام اللبناني والعربي والعالمي الى حد كبير صورة مغايرة تماماً، كحركة تحرر وطني ضد الإحتلال فإن إستدراجه بالمكر الإسرائيلي إلى الصورة القديمة إذا نجحت إسرائيل في إستدراجه إلى هذه المواجهة البعيدة عن الجبهة الأساسية للصراع سوف يضع الحزب اللبناني المقاوم في مواجهة ليس فقط مع إسرائيل، بل مع جميع الدول التي قد تجري أية عمليات أمنية فوق أرضها، وتعزز حجة تلك الدول المطالبة بنزع سلاحه وتجعل من سعيه إلى تحقيق «شراكة سياسية» حقيقية في الداخل اللبناني للطائفة التي يمثلها عملية محفوفة بالمزيد من المصاعب، خصوصاً في ظل الإنقسام الداخلي الحاد وتضعضع الكيان اللبناني الذي وفر ولا يزال يوفر لـ«حزب الله» مظلة لوجوده وشرعية لا غنى عنها لمقاومته حتى تحرير آخر شبر من الأرض اللبنانية المحتلة.
ليس لدى «حزب الله» أية أوهام بأن إستمرارية الكيان اللبناني هي ضرورة حتمية لبقائه وإستمراره وكلام أمينه العام السيد حسن نصر الله عن رفض كل أشكال التقسيم والفدرلة في رده على كلام النائب وليد جنبلاط عن «الطلاق الحبّي» ودعوته له إذا أراد هذا الطلاق إلى الإلتحاق «بأسياده الأميركيين والغربيين» هو إقرار بأن نهائية الكيان اللبناني بتنوعه وعودة إستقراره يشكل الضمانة الوحيدة لوجوده وليس بمقدور أية قوة حليفة أن توفرها له وللطائفة الأساسية التي يمثلها وتمثل بدورها ركناً أساسياً في قيام واستمرار هذا الكيان. يقود هذا الكلام إلى إستنتاج حتمي أن مشروع الدولة اللبنانية الجامعة والراعية لكل أطياف شعبها ومكوناتها هو البديل الأوحد المتاح ليس فقط أمام «حزب الله» بل أمام كل المجموعات اللبنانية التي تتعرض لإمتحان الوجود وتغرق يوماً بعد يوم في لعبة إستدراج التدخلات الإقليمية والدولية إلى ساحاتها، التي سوف لن تنتج إلا حرباً أهلية جديدة يكون الكل فيها خاسراً، وما حرب الخمسة عشر عاماً التي انتهت باتفاق الطائف سوى شاهد حي من التاريخ القريب على هذا الإستنتاج.
إن الرد على عملية إغتيال القائد العسكري البارز في «حزب الله» عماد مغنية والذي توخت منه إسرائيل جرّ الحزب اللبناني المقاوم إلى المسلسل القديم من حروب الإغتيالات والتفجيرات وإنكارها المسؤولية عن عملية الإغتيال يكون أولاً وقبل أي شيء بتحصين الجبهة الداخلية اللبنانية وإعادة بعض المناعة التي فقدتها منذ عملية إغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 وهنالك فرصة تاريخية متاحة أمام كل اللبنانيين للخروج من هذا المأزق التاريخي أيضاً، باستعادة صيغة التعايش اللبناني التي تتطلب تنازلات من كل أطراف الصراع السياسي لحساب لبنان الدولة والوطن، عبر الإسراع في إنتخاب رئيس للجمهورية متوافق على وقوفه على مسافة واحدة من كل اللبنانيين ومحل إجماعهم وهو ما يتجلى بقائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان. ولتكن الضمانة في المشاركة السياسية لبنانية هذه المرة، بعدما جرب اللبنانيون كل أنواع «الضمانات» الخارجية فلم تجلب لهم سوى حروب المصالح التي دفعوا أثمانها غالياً طيلة عقود ثلاثة من التخلي عن إراداتهم الوطنية لحساب الإرادات الإقليمية والدولية التي لا يضيرها إعادة تحويل لبنان إلى ساحة مفتوحة لصراعاتها وزج أهله في أتون الحرب الأهلية التي ستأتي على اليابس وما تبقى من الأخضر القليل.
ولمّا كان صحيحاً أن إسرائيل قد منيت بهزيمة عسكرية في حرب تموز وتعمل على تدارك تداعياتها فإن «سقوط إسرائيل» الذي تحدث عنه المؤسس الصهيوني بن غوريون والذي استشهد الأمين العام لـ«حزب الله» بكلامه فإن الصحيح أيضاً أن إستكمال هذه الهزيمة وتعزيزها يكمن ليس فقط بالقوة العسكرية التي يمتلكها «حزب الله» والتي يمكن لها أن تكون في اسباب ضعفه الداخلي في غياب المناعة الوطنية، بل في ترسيخ الصيغة الحضارية اللبنانية التي تناقض الصيغة العنصرية لدولة إسرائيل والتي إذا نجحت إسرائيل في هدمها تثبت للعالم أن نظريتها حول يهودية دولتها نظرية «صائبة» في منطقة لا تحتمل تعايشاً بين الأديان والحضارات.
فهل ينفذ الأمين العام لحزب الله وعيده لإسرائيل بـ«حرب مفتوحة» في خارج بقعة الصراع الأساسية في فلسطين ولبنان أم أن جلال المناسبة التي كان يتحدث فيها ومقتضيات توازن الرعب النفسي رداً على إغتيال أحد قادته البارزين فرضت لهجة هذا الخطاب؟
الأيام والأسابيع المقبلة قد تحمل الإجابة الشافية على هذا التساؤل. غير أن المؤمل بأن «حزب الله» سوف يرد على المكر الإسرائيلي بمكر أشدّ. هكذا عوّدنا فلننتظر ونرَ!
Leave a Reply