افتعال خطاب مذهبي أقلق اللبنانيين وأزعج السوريين
لم يكمل رئيس الحكومة سعد الحريري، ما بدأه في حديثه لصحيفة “الشرق الأوسط”، عندما اعترف وبمثابة اعتذار متأخر من سوريا، أن شهود الزور ضللوا التحقيق وخرّبوا العلاقة اللبنانية–السورية، إذ هو توقف عند ما يخص دمشق، دون أن يتطلع الى الداخل اللبناني، الذي تضرّر أيضاً من هؤلاء الشهود، الذين كادوا أن يزجوا لبنان في حرب أهلية، وفتنة مذهبية وطائفية اشتعلت دون أن تتوسع، وتم إخمادها بسبب قوة المعارضة الشعبية، التي فرضت توازناً داخلياً لصالحها، أسقط الانقلاب الذي قاده “ثوار الأرز” بدعم أميركي من إدارة الرئيس جورج بوش، ساعدهم في ذلك اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي تمّ تدبيره من المخابرات الإسرائيلية، كافتراض قدمه بقرائن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله.
وأول ما فعله “الإنقلابيون”، أنهم استفادوا من دم الشهيد الحريري واستغلوه في الانتخابات النيابية للحصول على الأكثرية، وتشكيل حكومة موالية للغرب، ومن غير تأثير الوصاية السورية، وأطلقوا عليها اسم “حكومة الاستقلال الثانية”، والتي قامت، وتحت عنوان اجتثاث “الحقبة السورية” بزج قادة الأجهزة الأمنية وهم الضباط الأربعة: جميل السيد، وعلي الحاج، وريمون عازار ومصطفى حمدان، في السجن، عبر فبركة شهود زور وأبرزهم محمد زهير الصدّيق الذي أفاد بأنه شارك هؤلاء الضباط مع آخرين سوريين كانوا في لبنان وبعضهم في سوريا، بالتخطيط والتحضير وتنفيذ جريمة اغتيال الحريري، وهذا كان البلاغ رقم واحد للإنقلابيين الذين، أخرجوا من السلطة كل مَن هو حليف لسوريا، لاسيما في المراكز الأمنية والقضائية، لإظهار ارتباط لبنان بالمشروع الأميركي “للشرق الأوسط الكبير”، الذي وقفت سوريا معارضة له، منذ أن احتلت القوات الأميركية العراق، الذي اشتعلت المقاومة فيه ضد الاحتلال الذي أُربك قادته، وبدأوا بالضغط على الرئيس السوري بشار الأسد، للسير معهم، ولما مانع وأصرّ على موقفه الداعم للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، كحق في وجه الاحتلال، كان قرار مجلس الأمن الدولي 1559، الذي طالب بخروج الجيش السوري من لبنان، لكي يكون البلد الثاني الذي تضمه إدارة بوش الى مشروعها “الشرق أوسطي”، الذي كلّف اللبنانيين حرباً إسرائيلية مدمّرة، بعد أن استعصى الوطنيون والمقاومون على هذا المشروع التقسيمي والتفتيتي للمنطقة والذي برز في العراق، ويخدم قيام “إسرائيل الكبرى” من ضمن هذا الشرق بالسيطرة السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية عليه.
فالإنقلاب مارسه من أسموا أنفسهم قوى “14 آذار”، وتفاءلوا على أن لبنان أصبح رهينة سلطتهم، وأن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية يقف وراءهم، وأن حمايتهم تأمنت من خلال إنشاء محكمة دولية، توقف الاغتيالات التي بدأت مع الحريري، وقد أوهمهم الأميركيون الذين أنشأوا المحكمة بالتنسيق مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، أنها ستشكّل مظلة دولية، وستمنع المجرمين من تنفيذ عملياتهم، لكن ما حصل هو أن هذه المحكمة التي لم تصدر عن حكومة شرعية، ولم يوقع على اتفاقها كما ينص الدستور رئيس الجمهورية إميل لحود، ولم يوافق عليها مجلس النواب، وضعت تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لتكون سيفاً مسلطاً فوق رقاب اللبنانيين، وتتحرك وفق مشيئة أميركية، في حال كان لبنان في موقع مضاد أو مخالف للمشاريع الأميركية الإسرائيلية، ومن يقف في هذا الموقع سوى المقاومة وحلفائها ومعهما سوريا، فليتم توجيه المحكمة بدءًا من التحقيق الى الادعاء، وفق الاتجاه السياسي الذي يريده من يمسك بالقرار الأميركي، وهو بالتحديد “اللوبي الصهيوني” المتمثل بـ”المحافظين الجدد” وأسماء أخرى من اليهود المتغلغلين في الإدارة الأميركية.
كان إنشاء المحكمة في اليوم الذي اغتيل فيه جبران تويني في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2005، وكانت كلما تصاعدت الأسئلة من المعارضة حول أهدافها، كان يقع اغتيال في لبنان، ليصدر مجلس الأمن قراراً يصعّد فيه ضد سوريا وحلفائها، وقد بدأ يظهر تأثير أميركي على المحكمة، وهو ما أقرّ به مؤخراً الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، بأن قرار المحكمة هو بيد الولايات المتحدة الأميركية، وهذا اعتراف علني وصريح من حليف لواشنطن، من أن المحكمة هي أداة أميركية، كما هي إسرائيلية من خلال إعلان رئيس الأركان في جيش العدو غابي أشكينازي، ما سيتضمنه القرار الاتهامي من وقائع تدين “حزب الله” بأنه يقف وراء اغتيال الحريري، وهو ما كانت أوردته مجلة “دير شبيغل” الألمانية، ويتطابق مع ما قاله أشكينازي، ومع ما يتداوله قياديون في “14 آذار”، مما يعني أن إسرائيل على علم بالقرار، وهو ما ترك المتوجسين من تسييس المحكمة، بوصفها أنها إسرائيلية، وقد استندوا في ذلك الى فبركة شهود زور، تبيّن أنهم ضللوا التحقيق ووجهوه ضد سوريا في المرحلة الأولى، لمنع اتهام إسرائيل، حتى أن أطرافاً كثيرة في “14 آذار”، كانت ترفض الفرضية الإسرائيلية، حنى أنها تمنع التداول بها، وكان كل من يذكرها يتهم بأنه يتكلّم بلغة “خشبية”، وأن إسرائيل بريئة من هذه الاغتيالات، وكأن ليس في تاريخها هذا السجل الإجرامي ومسلسل المجازر، التي ارتكبتها في لبنان وفلسطين.
واللجوء الى التحقيق الدولي ومنه الى المحكمة الدولية، كان تحت ذريعة أن القضاء اللبناني يخضع للسياسة، ولا بدّ من قضاء نزيه ومحايد، فكانت الاستعانة بالأمم المتحدة التي شكلت محكمة على غرار ما فعلت بدول أخرى كانت تسير ضد السياسة الأميركية، وهي لم تنشئ محكمة لمحاكمة إسرائيل على جرائمها ومجازرها في لبنان، ومن أبرزها مجزرة قانا الأولى والثانية، كما لم تقم العدالة الدولية بملاحقة إسرائيل في جرائمها في جنين وغزة وغيرها من الأعمال الإرهابية.
من هنا فإن القضاء الدولي، مسيس بامتياز، ومنحاز الى جانب الدول الاستعمارية، ولم يكن في تاريخه الى جانب الشعوب المستعبدة والمستضعفة، لذلك لم يرحب المعارضون في لبنان بالمحكمة الدولية إذا كانت مسيسة وقد ظهرت أنها تسير في هذا الاتجاه، مع تأكيدهم وترحيبهم بمعرفة الحقيقة والوقوف الى جانب العدالة في كشف جريمة اغتيال الحريري التي كانت زلزالاً، وهزت الاستقرار في لبنان الذي حاولت أن تنقلته من موقع سياسي الى آخر، كما أراد المخططون الأميركيون أن يكون ساحة لمشاريعهم ضد سوريا والمقاومة، لكنهم فشلوا في ذلك، وبدأت تسقط الواحدة تلو الأخرى، وكان السقوط الأبرز في حرب تموز الإسرائيلية وفي انتفاضة 7 أيار 2008 وتحقيق مشروعهم السياسي في انتخاب رئيس للجمهورية يسير في سياستهم، كما في تحجيم حضورهم وتأثيرهم في الحكومات وقراراتها، ومنع استئثارهم في الحكم، واستخدام السلطة لتحقيق مآربهم السياسية والفئوية.
فبعد أكثر من خمس سنوات يطل الحريري ليقول، أن شهود الزور ضللوه، وهو ما كان يطالبه اللواء جميل السيد، الذي ومن الأيام الأولى لاعتقاله اكتشف هؤلاء الشهود، وبدأ يراسل التحقيق الدولي والقضاء اللبناني ويسرّب الى الإعلام عبر محاميه، أن هناك أشخاصاً يقومون بعملية طمس الحقيقة في اغتيال الحريري يجب كشفهم، لكن سعد الحريري لم يكن يستجيب لأقوال السيد، وكان يقول للمدعي العام سعيد ميرزا، حذار إخراج الضباط الأربعة من السجن، فتمّ وصف اعتقالهم بالسياسي من قبل المعارضة الى أن خرج هؤلاء، بقرار من المحكمة الدولية، التي لم تر في ملفاتهم ما يوجب توقيفهم بعد حوالي أربع سنوات، وأن أقوال الشهود بحقهم غير صادقة.
وبعد نصف ساعة من إطلاق سراحه من سجنه السياسي، ناشد السيد، نجل الحريري، أن يخرج والده من السجن، إذا كان يريد الحقيقة في مقتله، وأن شهود الزور، هم الذين يبقونه سجيناً خامساً في سجن روميه، لكن الحريري لم يعر اهتماماً لكلام السيد، الذي وفي كل إطلالاته الإعلامية، كان يحمّل الحريري مسؤولية اغتيال والده إذا لم يكشف عن من يقف وراء شهود الزور، الذين يعرفهم جيداً، وهم من المحيطين به حسب السيد الذي تقدم بدعاوى ضدهم في سوريا وفرنسا وألمانيا، لكن وليّ الدم لم يقم بأي خطوة باتجاه مفبركي الشهود، لأن كل المنظومة السياسية والأمنية والقضائية والإعلامية، التي ستظهر ستكون من معاونيه ومستشاريه ونوابه وحلفائه وإعلامييه، وهو أمر لا يستطيع تحمله، لأنه سيؤدي الى انهيار كل سلطته، وسيزج بهؤلاء في السجن، وسيقوم تياره وأنصاره ضده، وهو ما لمسه بعد إعلانه عن وجود شهود الزور، مما خلق إرباكاً وغضباً لدى محازبيه وقوى “14 آذار”، من أن التعبئة والتحريض ضد سوريا، خلال السنوات الخمس وما سبقها، كانت مزاعم وأكاذيب وأضاليل، وأن البلد الذي وصل الى حد الانقسام والحرب الأهلية، وتعرض لعدوان إسرائيلي ولمقتل وجرح الآلاف من أبنائه، وتدمير اقتصاده وبناه التحتية، وتوتير العلاقة مع سوريا، كل ذلك من أجل شهادات زور، من أشخاص تمّ استحضارهم من أماكن عامة، وهم من أصحاب السوابق وأعمال الاحتيال والاتجار بالمخدرات والإدمان عليها، ويحملون الجنسية السورية، من أجل إلصاق التهمة بسوريا وضباطها ومن كانوا يشكلون معهم في لبنان النظام الأمني المشترك تحت عنوان، إن من يدلون بشهاداتهم هم من المخابرات السورية، وعلى اطلاع على أعمالها ومخططاتها، وهكذا تمّ تدبير مسرحية شهود الزور، وقد أعدّ السيناريو أشخاص معروفون تحدث عنهم اللواء السيد واشتكى عليهم، وكان ينتظر أن يلاقيه الحريري بعد اعترافه بوجودهم وما ارتكبوه الى القضاء من أجل توقيفهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم، لكنه لم يفعل، ولم يقرن أقواله بالأفعال، كما طالبه نواب وقيادت وشخصيات من المعارضة السابقة، لأنه إذا ما أقدم على ذلك، فسيصل الى رؤوس كبيرة، أكثرهم من حلقته الضيقة، وهذا ما سيشكّل له إحراجاً كبيراً، أنه ساهم في التعمية على الحقيقة، وهو ما دفع باللواء السيد الى تحذيره من أنه سينال حقه بيده إذا لم يأخذه من القضاء ويعطيه إياه، وقد فسّره البعض في “تيار المستقبل” لاسيما من المتورطين بشهود الزور، على أنه تهديد للحريري، ولم يكن أمامهم لطمس موضوع الشهود، إلا استغلال كلام السيد واعتباره تهديداً، ليس لرئيس الحكومة بل لزعيم السنّة في لبنان، وخرجت مواقف من نواب كتلة المستقبل تؤجج الصراع المذهبي، لأنه الوحيد الذي يخرج أبطال تركيب شهود الزور من مأزقهم وانكشاف خداعهم للرأي العام.
وهكذا تحوّل الصراع من سياسي الى مذهبي، وأراد “تيار المستقبل” توريط “حزب الله” فيه الذي دعا الى اعتبار مذكرة استحضار السيد التي صدرت عن ميرزا بأنها سياسية، وجاء الرد عليه مذهبياً من النائب عمار حوري تبعه النائب محمد كبارة الذي ذهب بعيداً في خطابه المذهبي، وأسقط وجود المقاومة في معادلة الدفاع عن لبنان، وكل ذلك أن حزب الشيعة وإيران يؤمن الحماية الى رجل شيعي يتوعّد الحريري، وبدأت عملية إعلامية وسياسية مبرمجة كي تنسي اللبنانيين قضية شهود الزور، وتضعهم أمام انفجار أمني واقتتال داخلي، حيث كان “تيار المستقبل” بحاجة الى شد عصب أعضائه وأنصاره، بعد أن أصابهم الإحباط واليأس، من الخداع الذي لحق بهم طيلة خمس سنوات، فكان التحريض المذهبي رافعة لهم، لكن مفعوله لم يكن قوياً، إذ لم يتجاوب أهل السنّة مع هذا الخطاب الذي أوصلهم الى اقتتال اللبنانيين، وقد فوجئ قادة المستقبل، بأن الشارع لم يتحرك معهم، سوى قلة من طرابلس وبعض قرى عكار، ممن يعملون مع أجهزة أمنية ونواب في المنطقة.
ولقد وقع الاستياء عند اللبنانيين من لغة فتنوية لم تجلب عليهم سوى الدمار والخراب والقتل، لذلك ابتعدوا عنها، لأنها تذكرهم بحروب سئموها.
لكن هذه المحاولة التحريضية، التي لاقت رفضاً لبنانياً، تركت استياءً سورياً لدى المسؤولين في دمشق، الذين لم يتفقوا مع الحريري على أن يستعيد مرحلة ما بعد 2005، وانتظروا منه تغييراً في السلوك، فلم يفعل سوى الاعتراف بشهود الزور، ولم يحسّن علاقته بالمقاومة ويبعد عنها شبح اتهامها باغتيال والده من قبل مدعٍ عام اسمه دانيال بلمار، تدور شكوك حوله وحول المحكمة من قبل “حزب الله” وحلفائه، وأن لا يلعب على الوقت بانتظار القرار الظني المسيّس، والذي حذره منه العاهل السعودي الملك عبد الله، الذي أمّن مع الرئيس السوري بشار الأسد رعاية ومظلة للسلم الأهلي، مازالت سارية المفعول، إلا إذا حصل تطور في العراق يشوّش عليها، في تركيب الحكومة، ووحجم تمثيل السنّة فيها، التي تحرص سوريا على أن تؤلف من كل الشرائح العراقية، بما يضمن الوحدة بين العراقيين ويبعد عنهم شبح الفتنة المتنقلة، التي يخاف اللبنانيون أن تولد عندهم من جديد.
Leave a Reply