علي منصور – صدى الوطن
في بلدٍ تتنازعه ثنائية حزبية متجذّرة منذ أكثر من قرنين، يبدو اختراق النظام السياسي الأميركي مغامرة محفوفة بالمخاطر، محفورة بالحذر، وربما محكومة بالفشل. كثيرون حاولوا قبله، لكنهم سقطوا أمام جدران الحزبين الكبيرين: الجمهوري والديمقراطي. من روس بيرو في التسعينيات، إلى هوارد شولتز في 2020، وصولًا إلى الليبرتاريين والخضر وسائر التجارب المستقلة التي بقيت ظواهر انتخابية عابرة، سرعان ما تلاشت أمام صلابة المؤسسة السياسية الأميركية العميقة.
لكن إيلون ماسك ليس كغيره. فهو لا يأتي من هامش المال أو الإعلام، بل من قمّتيهما. يحمل بين يديه مزيجًا نادرًا من الثروة الهائلة، والنفوذ الرقمي، والقدرة على التأثير المباشر في الرأي العام عبر منصّة إعلامية يملكها بنفسه. وهو، بخلاف سابقيه، لا يستند إلى خطاب أيديولوجي جامد، بل يطرح نفسه كمحرّر للناخب الأميركي من أسر التكرار السياسي والبيروقراطية العقيمة.
من خلال إعلانه مؤخرًا تأسيس “حزب أميركا”، يسعى ماسك إلى تقديم بديل سياسي – لا أيديولوجي – يستهدف الغالبية الواسعة من الكتلة الأميركية اللاحزبية، تلك التي لا تشعر بانتماء عميق لأيٍّ من الحزبين الرئيسين: الجمهوري والديمقراطي.
فهل يملك ماسك الأدوات اللازمة لكسر القاعدة، وتأسيس تيار سياسي ثالث قادر على البقاء؟ أم أن النظام السياسي الأميركي أقوى من أي محاولة فردية، مهما كانت مدعومة بالمال والتكنولوجيا؟ سؤال نطرحه على ضوء التجارب السابقة، وتحديات اللحظة الأميركية الراهنة .
جذور الفشل عند الآخرين
أبرز من حاولوا اقتحام النظام السياسي الأميركي من خارج الثنائية الحزبية:
⁃روس بيرو (1992): حصل على نحو 19% من الأصوات الشعبية، لكنه فشل في تحويل زخمه إلى حركة سياسية مؤسساتية مستدامة.
⁃هوارد شولتز (2020): واجه هجومًا مبكرًا من الإعلام والنخب السياسية، فتراجع قبل أن تبدأ المعركة.
أما الأحزاب الأخرى ، كحزبي الليبرتاريين والخضر، فعجزت – رغم وجودها التاريخي – عن تجاوز العتبة الانتخابية الضرورية. ويُعزى ذلك إلى مزيج من القوانين المعرقلة، والانقسام الحاد في القواعد الشعبية، وهيمنة المال الحزبي، ونظام انتخابي “أكثري” لا يرحم اللاعبين الصغار.
بين بيرو وماسك: المال السياسي بين التحدي والتجربة
حين دخل روس بيرو السباق الرئاسي عام 1992، بدا كمن يشبه إيلون ماسك في جوانب كثيرة . فهو ملياردير خارج المؤسسة السياسية، يتقن لغة الأرقام، ويتحدث بصراحة عن العجز والبيروقراطية وفساد النخب. نال بيرو قرابة 20% من الأصوات، وهو رقم غير مسبوق لأي مرشح مستقل منذ أكثر من قرن.
لكن تجربته انتهت إلى ما يشبه “النجاح المنقوص”. إذ لم يحصل على أي صوت في المجمع الانتخابي العام ، وفشل في تحويل زخمه إلى تنظيم سياسي دائم. انسحابه المفاجئ ثم عودته لاحقًا أفقداه المصداقية، فيما تآكل حزبه “الإصلاح” سريعًا بسبب الصراعات الداخلية وغياب البنية المؤسسية.
إيلون ماسك يقف اليوم أمام نسخة رقمية محدثة من تلك المعادلة، لكنه يمتلك أدوات أكثر قوة: منصة إعلامية (X)، وجمهور شاب متنوع، وثروة تفوق 400 مليار دولار. ومع ذلك، يواجه التحدي ذاته: كيف يحوّل شخصيته “المتمردة ” إلى مشروع سياسي منظم؟
فالنجاح لا يُقاس بعدد الأصوات فقط، بل بقدرة المشروع على التمدد، والاستمرارية، وبناء قاعدة وطنية ذات هوية واضحة ومؤسسات قوية. فشل بيرو يضع ماسك أمام اختبار مصيري: هل يعيد التاريخ نفسه بنسخة سيليكون فالي؟ أم تنجح أخيرًا التجربة التي خذلت أصحابها مرارًا؟
لماذا قد يكون ماسك مختلفًا ؟
1- امتلاكه لمنصة إعلامية مستقلة: X (تويتر سابقًا) تمنحه قدرة استثنائية على التأثير في الخطاب العام، بعيدًا عن قبضة الإعلام التقليدي.
2- ثروة طائلة بلا قيود حزبية: بميزانية شخصية تفوق ميزانيات دول وأحزاب بأكملها، يمكنه تمويل مرشحين وتغطية تكاليف الحملات والمواجهات القانونية في الولايات الخمسين.
3- هويته غير المؤدلجة: ماسك لا يعرّف نفسه كديمقراطي أو جمهوري، بل كـ”محايد متمرد”، يدعو للحريات الفردية، واقتصاد السوق، وتقليص الإنفاق الحكومي، والانفتاح التكنولوجي.
سيناريو النجاح الوحيد: التحالف مع الليبرتاريين
في خطوة مبكرة، وجّه رئيس حزب الليبرتاريين، ستيفن نيخيلا، دعوة علنية لماسك للانضمام إلى حزبه بدل تأسيس حزب جديد، مؤكدًا استعداد الحزب للتحالف ضمن رؤية مشتركة لكسر احتكار الحزبين التقليديين.
التحالف مع الليبرتاريين يبدو الخيار الأكثر واقعية، لا سيما أن قواعد الحزبين يتقاطعان في مفاهيم رئيسية كخفض العجز، تقليص الإنفاق الحكومي، ودعم الحريات الفردية. كما أن البنية التنظيمية الجاهزة لحزب الليبرتاريين، المنتشرة عبر الولايات، قد تختصر على ماسك سنوات من المعارك القانونية والإدارية لتسجيل حزبه في كل ولاية على حدة.
هذا التحالف، إن تم، قد ينتج عنه ولادة “بلوك سياسي ثالث” يتمكّن من حصد عدد محدود لكن مؤثر من المقاعد في الكونغرس. وإذا لعب هذا التيار دور “القوة المرجِّحة”، فسيكون له تأثير حقيقي على التشريعات الفدرالية، لا سيما في القضايا الاقتصادية والتكنولوجية. وقد يهز شِباك الحزبين في انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2028.
ماذا لو اختار الطريق الأصعب؟
إذا أصرّ ماسك على المضيّ منفردًا، فسيواجه عراقيل كبرى، أبرزها:
-تعقيدات تسجيل الحزب في 50 ولاية.
-غياب البنية الحزبية والقواعد الحيوية .
-المعركة غير المتكافئة مع الحزبين التقليديين.
-العقبات التي قد يضعها دونالد ترامب أمامه،
سواء عبر حملات إعلامية أو نفوذ سياسي وقانوني.
وفي هذا السيناريو، قد لا يتمكن ماسك من خوض انتخابات 2026 كحزب رسمي، لكنه يستطيع التأثير غير المباشر من خلال تمويل مرشحين مستقلين، واستثمار نفوذه الرقمي لزعزعة بعض المعارك الانتخابية الحساسة.
على أعتاب الفرصة أو الفخ؟
ما بين الطموح الشخصي، والسطوة الرقمية، والرغبة في الانتقام من سياسات ترامب الاقتصادية، يقف إيلون ماسك اليوم أمام فرصة نادرة لإعادة تشكيل مشهد السياسة الأميركية.
لكنه أيضًا يقف في مواجهة نظام مؤسساتي عريق، وانتخابي مقاوم للتغيير، وخصوم لا يرحمون… في مقدمتهم دونالد ترامب.
فهل نعيش لحظة ولادة تيار ثالث حقيقي؟
أم نشهد مجرّد فصل جديد من معركة “سيليكون فالي” ضد واشنطن؟
الأشهر القادمة وحدها تحمل الجواب.
Leave a Reply