بعد صدور قانون الانتخابات النيابية، وتحديد موعدها في 6 أيار (مايو) من العام المقبل، لينتظم عمل المؤسسات الدستورية، وكذلك ليبطل التمديد لمجلس النواب بعد انتخاب رئيس للجمهورية العماد ميشال عون، وتشكيل الحكومة وبدء تحرير جرود السلسلة الشرقية من جبال لبنان، فإن الوضع الاقتصادي تقدم كبند أول في الاهتمام، إذ طرحه رئيس الجمهورية على مجلس الوزراء وحذّر من خطورته، حيث تحدث أن الدين العام يتّجه نحو 110 مليار دولار، وهو الى تزايد، إذا لم تتّخذ الإجراءات المناسبة للحد من الاستدانة، كما في وقف خدمة الدين العام الذي بات يساوي نحو خمسة مليارات دولار، ويمتص ثلث الموازنة العامة، التي يستنزفها أيضاً أكثر من ثلث آخر للرواتب والأجور والتقاعد.
ناقوس الخطر
فالرئيس عون دقّ ناقوس الخطر الاقتصادي، ورفع البطاقة الصفراء التي تقترب من الحمراء، لأن ما يعانيه الاقتصاد من نمو منخفض لم يبلغ بعد 2 بالمئة وهو كان وصل قبل سنوات الى 7 و 8 بالمئة، إلا أن تراجعه له أسباب تتعلق بما يجري في المنطقة من حروب وأزمات داخلية، كان على لبنان أن يستفيد منها بتدفق الاستثمارات إليه، لكن هذا لم يحصل، ثم ما سبق في العالم من أزمة مالية نشأت في العام 2008 في أميركا، لتنعكس على دول أخرى، وتبع ذلك الأزمة في دبي التي غادرها مستثمرون، لتضخ دولة الإمارات المتحدة الدم في شرايين الإمارة التي امتازت بصعودها الإقتصادي.
كل هذه الأزمات أثّرت في الاقتصاد اللبناني، الذي ساهمت في بطء نموه أيضاً، الخلافات السياسية الداخلية، وعدم انتخاب رئيس للجمهورية لمدة عامين ونصف العام، ووجود حكومة تعمل بالوكالة عن رئيس الجمهورية، فدخل عليها الصراع حول الصلاحيات المنوطة بها دستورياً في حال الشغور الرئاسي، حيث أدّى ذلك الى عدم إنتاجية الحكومة، مما شكّل عاملاً سلبياً على الدورة الإقتصادية التي كانت تعمل بأقل بكثير من سرعتها الطبيعية.
تحذير دولي من تدهور الاقتصاد
من هنا طرح رئيس الجمهورية على مجلس الوزراء، ما وصله من تقارير دولية، لاسيما من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حذّرت من حصول انتكاسة اقتصادية في لبنان، مع بلوغ العجز التجاري نحو 19 مليار دولار، والعجز في الموازنة نحو 8 مليارات دولار، وهما مؤشران سلبيان على لبنان، الذي على حكومته، وأجهزته المالية، ومؤسساته الاقتصادية أن تعمد الى تصحيح الخلل في بنية الاقتصاد الذي تغيب عنه الرؤية، كما البرنامج والخطة، وهو ما تلجأ إليه الدول، لمعالجة أزماتها المالية والإقتصادية، إذ لا بدّ من حالة طوارئ اقتصادية يطرحها خبراء اقتصاديون في اقتراحاتهم لمعالجة الأزمة، مثلما في عقد طاولة حوار، أو مؤتمر اقتصادي لطرح الأسباب وتقديم الحلول، فكما تناقش الاستراتيجية الدفاعية لحماية لبنان، وتحديد قرار الحرب فيه، فإن الأخطار الاقتصادية، تتطلب قيام استراتيجية اقتصادية، لمنع الانهيار الإجتماعي والمعيشي.
اليونان نموذجاً
وفي أحد لقاءاته مع زواره، أكّد رئيس الجمهورية أنه يرفض أن تكون اليونان نموذجاً ثانياً في لبنان، بإعلان إفلاسه، وأن الاقتصاد سيكون من أولى اهتماماته، كي لا يقع لبنان في الإفلاس، ولا يوجد مَن يسانده مالياً إذا ما وقع في أزمة، وفق ما أعلن الرئيس عون، الذي قرّر أن يعيد النظر في الضرائب والرسوم التي تضمنها قانون سلسلة الرتب والرواتب والتي قوبلت بالرفض من المجموعات الاقتصادية، سواء المصارف، أو رجال المال والأعمال، الى المدارس الخاصة التي يُطلب منها عدم زيادة الأقساط، في وقت ستتحمل هي رفع رواتب وأجور الأساتذة والعاملين في المدرسة.
ففي اليونان، وتحت ضغط المطالب الشعبية، بزيادة الأجور والرواتب، حصل تضخم في البلاد، دون وجود واردات، مما أدى الى إفلاس الخزينة، وفي لبنان، فإن سلسلة الرتب والرواتب، أمّنوا مواردها من الرسوم، والضرائب، فتمّ إرهاق المواطنين بها، وفي الوقت نفسه، بدأ ارتفاع الأسعار.
الحلول للأزمة الاقتصادية
أما الحلول للأزمة الاقتصادية، فهي كثيرة ومتعددة، وتقدّم عدد لابأس به من الخبراء، بدراسات تدعو أول ما تدعو، الى رفض الخطاب الشعبوي في موضوع المطالب التي يتقدم بها طرفا الإنتاج والعمل ولابدّ من أن يحصل توازن بين المدخول والمصروف، وهو ما تتجاهله الدولة التي حذّر وزير المال علي حسن خليل، بأن الوضع الاقتصادي وصل الى الخط الأحمر، الذي يضع خزينة الدولة أمام عدم وجود المال ليملأها، ولابدّ من قرار سياسي، حول تحقيق إصلاحات إدارية ومالية، وقد ورد بعضها في سلسلة الرتب والرواتب، مثل وقف التوظيف في مؤسسات الدولة، إلا ما هو مطلوب، إذ يلعب التوظيف السياسي دوره في تحميل المؤسسات فائضاً لا لزوم له، وهو ما حصل في وزارات عدة، كان أبرزها وزارة الإعلام، حيث انكشف الفائض الذي فيها، فلو التزم الوزراء، بإجراء مباراة لوظيفة ما عبر مجلس الخدمة المدنية، لما حصل ما يحصل، بل إنه تمّ التحايل على آلية التوظيف القانونية، باللجوء الى التعاقد، أو ما يسمى بـ “العامل الموسمي”، أو من خلال العمل بأجر يومي (مياوم)، وهذا ما أضعف المؤسسات ودخل إليها الفساد، بسبب “المحميات السياسية” في إدارات الدولة.
وجرت محاولات عدة للإصلاح الإداري والمالي، لكنها باءت كلها بالفشل، أو متابعة القرارات التي تصدر حولها، وهذا يعود الى عقود، مما أفقد الأمل بانتقال لبنان الى دولة خالية من الفساد الذي مَن ينعشه ويبقيه حياً ودائماً، هي الطبقة السياسية التي قائم وجودها، على المنافع التي تجنيها من حساب خزينة الدولة، سواء في التوظيف، أو الالتزامات والصفقات.
رئيس الجمهورية… الأمر لي
لذلك قرّر رئيس الجمهورية، أن يتولى هو، كونه رأس الدولة، وضع يده على الوضع الإقتصادي، ويبدأ بإصلاحه، فكلّف فريقاً من الخبراء بوضع خطة اقتصادية إنقاذية، وهو ما ترك وزير المال علي حسن خليل، يبدي اعتراضه ليس على ما يطرحه الرئيس عون، بل على محاولة تجاهل دور وزارة المال، التي يعمل الوزير فيها على تجنب الانزلاق نحو الهاوية المالية التي كان أول مَن نبّه من الوقوع فيها، فقام بضبط موارد الدولة من رسوم، وضرائب، في الجمارك والدوائر العقارية، وتعقّب المتهربين من الضريبة، حيث كشف رئيس الجمهورية في إحدى مقابلاته التلفزيونية، من أن واردات الخزينة تحسّنت، وهو ما أعاد ترطيب الأجواء مع وزير المال، الذي أكّد أنه مع أي إصلاح مالي، ولا يعارض موقف رئيس الجمهورية الذي دعا الى ضبط النفقات ووقف الهدر، واعتماد سياسة تقشف مالية.
تعزيز قطاعات الإنتاج
فالوضع الإقتصادي يتقدم عند الرئيس عون الذي يدعو في إطار خطته الى تكبير حجم الاقتصاد، باعتماد سياسة تقوم على تشجيع القطاعات الإنتاجية، من صناعية وزراعية وسياحية، دون إهمال قطاع التجارة والخدمات الذين قام عليهما لبنان، إلا أنه ثبت بأنه ليس ناجحاً، ولابدّ من تنويع الحركة الاقتصادية، لتأمين فرص عمل في ظل بطالة وصلت نسبتها الى نحو 30 بالمئة، وأكثرها بين صفوف الشباب والمتخرجين من الجامعات والذين يزداد عددهم سنوياً بحيث بلغوا نحو ما بين 30 و35 ألف سنوياً، لا تتأمن وظائف إلا لنحو 10 بالمئة منهم.
فالخطر الاقتصادي يوازي الأخطار الأخرى التي تهدد وجود الدولة والكيان، وجاء صدور قانون سلسلة الرتب والرواتب، ليفتح النقاش حوله، إذ لاقى احتجاج جمعية المصارف لزيادة الضرائب على الفوائد من 5 الى 7 بالمئة، مما يدفع بأصحاب المدخرات المالية الى الهروب من لبنان، وعدم إيداع أموالهم في المصارف اللبنانية، إضافة الى أن الاعتراضات عليها، ظهرت أيضاً من السلك القضائي الذي توقف قضاته العدليون عن العمل، وفي الوقت نفسه يرفض العسكريون المتقاعدون تقسيط مستحقاتهم، بعد أن جرت محاولة لعدم تضمينها السلسلة، التي حرّكت المدارس الخاصة لزيادة أقساطها، في وقت بدأت زيادة الأسعار الاستهلاكية تلتهم الرواتب والأجور، قبل أن يقبضها مستحقوها، والتي لن تطال موظفي القطاع الخاص الذي يشكو من الجمود في الدورة الاقتصادية، ويلجأ الى تسريح العاملين فيه، في وقت تطالب دراسات برفع الحد الأدنى للأجور من 650 ألف ليرة شهرياً، الى مليون و200 ألف ليرة، أي بزيادة حوالي 90 بالمئة، وهو ما ليس بقدرة الاقتصاد اللبناني على تلبيته وينوء بالعجز على تحمله، وهو الخطر بعينه على لبنان.
Leave a Reply