«The mass of men worry themselves into nameless graves
while here and there a great unselfish soul forgets himself into immortality.
Ralph Waldo Emerson
«السواد الأعظم من الناس يفنون أنفسهم ليستقرّوا فـي قبور بلا أسماء،
بينما هنا وهناك يوجد شخص عظيم النفس يتخلى عن أنانيته لينسى نفسه في الخلود».
رالف والدو إيمرسون
في لحظة تجلٍ كنت قد قررت أن أبتعد في مقالاتي عن السّياسة وهمومها، وأن أصرف جهدي فيما قد يكون ذا منفعة للمجتمع الذي أنتمي إليه. لكن الحديث عن شجون المجتمع ثقافياً وإجتماعياً وعلمياً وحتى إقتصادياً يمكن أن يتم من خلال إعطاء أمثلة عن أشخاص وجماعات تاريخية ومعاصرة نستفيد من تجربتها ونتعلم من نجاحاتها وإخفاقاتها.
في ضوء وفاة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز في 5 آذار (مارس) الجاري، لا بأس بإطلالة على سيرة هذا الرجل وأخذ العبر.
تشافيز المولود لأسرة فقيرة يوم 28 تموز 1954 في إحدى قرى فنزويلا النائية يقول حين سُئل عن طفولته: «فقر… لكن قمّة السّعادة». عاش برعاية جدته مع أحد إخوته بعدما عجز والداه الكادحان عن إعالة جميع أولادهم السبعة.
في بلد غنيّ بالنفط والموارد الطبيعية، مثقل بغياب التّعليم والطّبابة وفقر الجل الأكبر من سكانه الـ28 مليون، لم يجد تشافيز الشّاب الطَّموح أمامه سوى الإنضمام لصفوف الجيش لتحقيق تطلعاته. وبالفعل كان تشافيز من الأوائل بدفعته في الكلية العسكرية في كاراكاس عاصمة فنزويلا.
منذ أولى سنين خدمته العسكرية عام 1975 كان تشافيز يراقب عن كثب تعاظم الهوة بين الفقراء والأغنياء، وراح يصقل آراءه السياسة ويُعمِّق قراءته لتاريخ فنزويلا وأميركا الجنوبية ليجد نفسه ملتزماً أكثر فأكثر برغبته في تحقيق العدالة الإجتماعية في بلده.
تأثر كثيرا بسيمون بوليفار -ونضاله ضدّ التّاج الإسباني– وقرأ كتب ماركس ولينين وماو تسي تونغ في فترة كانت فنزويلا تحارب الشيوعية. وراح يتجه نحو اليسار أكثر بعد أن سمع خطابات فيدل كاسترو وتشي غيفارا وحتى عبد الناصر كما سبق أن صرّح. كانت جدة تشافيز تخبره عن نضال جده مع إزيكويل زامورا (1817-1860) وهو فيلسوف وثائر فنزويلي حارب من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية بعد سيمون بوليفار. قراءة تشافيز لكتابات زامورا دفعته لتنفيذ محاولة إنقلاب فاشلة (اطلق عليها اسم عملية زامورا) على الرئيس كارلوس بيريز عام 1992، ليسجن بعدها حتى 1994.
بعد خروجه من السجن بعفو رئاسي ومنعه من العودة الى الجيش توجه تشافيز نحو السّياسة مفتتحاً مسيرته برحلة المئة يوم حول جميع أرجاء فنزويلا مبشراً بعقيدته حول «الثورة البوليفارية» كما أسماها.
بقي تشافيز مقتنعاً أن شعب فنزويلا الغنية يستحق حياة أفضل، وفي ظل الإنكماش الإقتصادي في التسعينات راح يحصد شعبية واسعة في أوساط الفقراء والمهمشين وخاصة في ظل توجه عام في أميركا اللاتينية لمناهضة هيمنة الولايات المتحدة على «حديقتها الخلفية». حيث استطاع فيما بعد ان يُنشئ تحالفات قوية مع اليساريين من رؤساء دول أميركا اللاتينية في بوليفيا وكوبا والإكوادور ونيكاراغوا والبرازيل وغيرها.
إستطاع تشافيز الفوز بالرئاسة عام 1998 بنسبة فاقت الـ56 بالمئة ليبدأ مسيرته بالإصلاح في فنزويلا وليُبرز وجهاً جديداً في السياسة الخارجية من خلال مناهضته لهيمنة الولايات المتحدة وليقف موقفاً مشرفاً من القضية الفلسطينية ضد سياسات إسرائيل العدوانية. وقد عجزت الولايات المتحدة عن منعه من الفوز بولاية رئاسية ثانية وثالثة، وكذلك فشل الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة عام 2002 من الإطاحة به بسبب تمسك الشعب به ومحبته له.
لم يكتف تشافيز بالشّعارات في فنزويلا بل عكف –بعد تعديل الدّستور لمصلحة الفئات المُستضعفة من الشّعب– على إجراء إصلاحات واسعة بدءاً من تأمين عدالة إجتماعية وتوزيع عادل للثورة. ومن نجاحاته إعادة توزيع الأراضي الزّراعية في فنزويلا على الفقراء، تأمين الغذاء بأسعار زهيدة كي لا يجوع أحد، الحد من الرّشوة والفساد وإقرار قوانين الشّفافية، بناء منازل ومساكن لبعض سكان أحزمة البؤس في كاراكاس.
وفي أمرٍ مُلفت أجرى تشافيز إتفاقاً مع حليفته كوبا يزودها من خلاله بـ90 ألف برميل نفط يومياً بسعر مخفض مقابل أن ترسل سنوياً 40 ألف طبيب وممرض ومعلم ليوفّروا التّعليم والطبابة المجانية للفنزوليين. تُرى أليس ذلك خير استثمار للنفط بدلاً من كنز أمواله في البنوك ومراكمة الأرقام كي تختفي كما اختفت أموال العرب في الأزمة الإقتصادية الأخيرة؟ أليس الإستثمار في الشّعب وتأمين رخاءه أبقى وأثمن من بناء الأبراج وناطحات السّحاب وشراء الجُزُر وأندية كرة القدم الأوروبية، بينما يترك الشعب العربي ليحصد الريح؟
لكن تفوّق هذا الرّجل النبيل في انجازاته لم يقف عند هذا الحد. ففي سنوات حكمه (1998-2013) إتخذ هذا القائد في محطات مختلفة مواقف مشرفة ومتقدمة من القضية الفلسطينية المُحِقة والغطرسة الإسرائيلية، وربّما فاقت مواقفه في قوّتها ما أطلقه العرب في 60 عاماً من الصراع مع إسرائيل.
بل إنه قرَّع الرئيس الأميركي والمسؤولين الأميركيين أكثر من مرّة بسبب سياستهم الدّاعمة لإسرائيل والمعادية للعرب والمسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان وحتى في ليبيا وسوريا مؤخراً، ناهيك عن علاقته فوق العادية بإيران ودعمه لها في وجه الغطرسة الصهيونية وتهديداتها والعنجهية الأميركية تجاهها. واستطاع ان يشكل حالة شعبية رافضة للهيمنة الاميركية، مؤمنة بقدراتها وقدرات بلدانها في العديد من دول أميركا اللاتينية وغيرها من دول العالم.
هوغو تشافيز ختم بموته سيرة قائد وُلد من بين المُستضعفين ولم ينس هؤلاء عندما وصل الى السّلطة. بل كرّس كل طاقته وحياته حتى الرمق الأخير من اجل أن يبقى وفيا لمن وضع ثقته به، ولكي ينهض بشعبه. استثمر تشافيز الرجل في مجتمعه العمل الجاد والإخلاص. والناس في كل مكان -وإن كانوا بسطاء- يعرفون المخلص من المدعي الساعي وراء بريق المال والمنصب، فيمحضون الأول الحب ويمنحونه الخلود ويترحمون عليه، بينما يندثر الثاني بلا أثر في قبر يمحي التاريخ معالمه. هذا الامر ينطبق على كل منّا في أي موقع كنا وليس حكرا على الرؤساء والسياسين فقط، بل كل واحد منا مخيّر بين أن يبقى الأثر الطيب بعده وبين أن يفنى ذكره. وفي التاريخ شواهد فهل نعتبر؟
Leave a Reply