كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لبنان الذي أنشأته فرنسا فـي العام 1920، بإعلان مفوضها السامي الجنرال غورو «دولة لبنان الكبير»، فقد أهميته الإستراتيجية عندها، كبوابة عبور الى العالم العربي، وأحد دول «الفرنكوفونية»، الناطقة بالفرنسية التي تقدمت عليها اللغة الإنكليزية.
الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند زار بيروت، دون أن يكون فـي استقباله رئيس للجمهورية، مضى عامان على شغور منصبه، الذي أُعطي للموارنة من قبل «الأم الحنون» -بحسب توصيف القيادات السياسية والروحية للطائفة المارونية التي يقيم بطريركها قداساً سنوياً عن راحة فرنسا.
باريس التي لم يعد يعنيها سياسياً واقتصادياً هذا الموقع فـي تركيبة السلطة اللبنانية، بعد أن أصبح رئيس الحكومة هو مَن يمثل السلطة التنفـيذية، وأن التجربة مع الرئيس رفـيق الحريري، أكّدت ذلك، ومع غيره من رؤساء حكومات، بعد أن بات مجلس الوزراء هو صاحب القرار، لذلك تشجع هولاند على المجيء الى لبنان، دون أن يزور القصر الجمهوري الشاغرة كرسي الرئاسة فـيه، وهي المرة الأولى التي يحضر فـيها الى لبنان رئيس للجمهورية ولا يستقبله نظيره على أرض المطار أو فـي قصر الرئاسة الأولى.
ولقد حاول الرئيس هولاند متابعة ملف رئاسة الجمهورية والإمساك به برضى أميركي، فكلّف مدير دائرة الشرق الأوسط وأفريقيا فـي الخارجية الفرنسية فرنسوا جيرو، ليتابعه، مع بدء الإستحقاق الرئاسي، فزار دول القرار المعنية بالوضع اللبناني السعودية وإيران، دون أن يتوصل مع المسؤولين فـيهما الى قرار أو تفاهم بين الدولتين على مرشح، إذ أكّدت طهران أن «حزب الله» هو المعني فقط بالإنتخابات الرئاسية، وأنه سمى العماد ميشال عون، فـي حين وضعت السعودية «فـيتو» على عون، بعد جولات من الحوار بينه وبين الرئيس سعد الحريري أو مَن يمثلهما، لكنهما لم يتوصلا الى نتيجة، الى أن رشح الحريري النائب سليمان فرنجية برضى سعودي، فاعتبر الرئيس الفرنسي، أن تقدماً حصل فـي ملف رئاسة الجمهورية، عندما يرشح أحد أقطاب «14 آذار» أحد رموز «8 آذار»، وهو حليف وصديق للرئيس السوري بشار الأسد، فمعنى ذلك أن التوافق حصل، ولن يمانع «حزب الله» بتأييد حليفه فرنجية، واستغلّ الرئيس هولاند هذه الأجواء الإيجابية، واتصل بالنائب فرنجية وباركه، لكن الرياح لم تمشِ كما اشتهت سفن هولاند الذي أوكل إليه أميركياً الملف الرئاسي اللبناني، وسانده الفاتيكان الذي حاول جيرو إستخدام موقع البابا الروحي والمعنوي للتأثير على الموارنة فـي لبنان ليتّفقوا على رئيس للجمهورية منهم، وقد إلتقى الأقطاب الموارنة الأربعة على أن يكون المرشح منهم، فتمّ الأخذ بهذا الخيار الذي أدّى الى ترشيح الحريري لفرنجية، وردة فعل عند «القوات اللبنانية» التي رشّحت ميشال عون، مما خلط الأوراق وتأخر حصول الإنتخابات الرئاسية التي دخلت عامها الثالث.
فشل
ولما كانت صناعة رئيس الجمهورية منذ الاستقلال خارجية، فإن هولاند تنكب لهذه المهمة لكنه فشل فـيها، وحضر الى لبنان ليحمّل المسؤولية الى مجلس النواب، ويدعوهم الى إنتخاب رئيس دون أن يدخل فـي الأسماء، فأعلن أن مرشحه هو لبناني، وهو بذلك لبنن الاستحقاق الرئاسي، ورمى الكرة فـي ملعب اللبنانيين مؤكداً لهم، إذا لم ينتخبوا رئيسهم فقد يطول الشغور الى أشهر مديدة وربما سنوات، وهذا ما تخوف منه البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي الذي نقل للرئيس الفرنسي قلق المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً من خسارة رئاسة الجمهورية، بعد أن فقدوا وزنها وحجمها، وهي المساحة اللبنانية التي مازال للوجود المسيحي عليها من دور ورسالة، فـي ظل الإنحسار الذي تشهده بعض الدول العربية للمسيحيين وهجرتهم منها، فتقلص عددهم فـي العراق الى نسبة تصل الى 2 بالمئة من عدد سكانه، وكاد أن ينقرض فـي فلسطين المحتلة، وهو الى النقصان فـي سوريا، والتراجع المستمر فـي لبنان حيث يصل عدد المسيحيين فـيه الى حوالي المليون وربع مليون من عدد السكان.
لذلك لم تكن رئاسة الجمهورية أولوية فـي زيارة الرئيس الفرنسي، بل كانت واحدة من النقاط على جدول أعماله، حيث تصدر بند النزوح السوري الأهمية، والذي بات مرتبطاً بظاهرة الإرهاب التي نالت فرنسا النصيب الأكبر منه، ليتدحرج نحو بلجيكا، بعد أن كان مرّ على بريطانيا وإسبانيا، ويهدد دولاً أخرى، فجاء هولاند يبحث فـي لبنان، وقف اللجوء السوري الى أوروبا، وهو لمس ما يعانيه اللبنانيون من وجود مليون ونصف مليون سوري يشكلون ثلث عدد سكانه، ويكبدون الإقتصاد اللبناني أعباء وصلت الى حوالي 13 مليار دولار، عدا عن الخسائر فـي البنى التحتية، وحدوث بطالة فـي صفوف الفئات اللبنانية من عمال وأصحاب مهن.
فكل ما قدمه هولاند هو استقدام ألف عائلة سورية الى فرنسا خلال العام الحالي، دون أن يتحدث عن مساعدات وقد رأى فـي زيارته لأحد مخيمات النازحين فـي البقاع عمق المأساة التي يعيشونها، إذ ثمة نقص فـي استيعاب المدارس الرسمية لهم، والتي إحتضنت حوالي 200 ألف منهم، وبقي خارجها العدد نفسه تقريباً.
تراجع فرنسي
الزيارة التي لم تعطِ صفة دولة، ولم يكن لها طابع زيارة العمل، أرادها الرئيس الفرنسي رافعةً لرصيده السياسي المتدهور وهو يعاني من أدنى شعبية يصل إليها رئيس فـي فرنسا، إذ بلغ التأييد له نسبة 17 بالمئة وأدنى، وهو يقارب نهاية عهده ومغادرته قصر الإليزيه، الذي لم يعلن أنه سيترشح لدورة رئاسية ثانية، مع الإخفاق الذي حققه فـي تنفـيذ أي بند من بنود برنامجه السياسي والإقتصادي والإجتماعي، فرأى فـي جولة له فـي المنطقة تبدأ من لبنان وتصل الى مصر والأردن، بأن يستعيد بعضاً من حضور فرنسا فـي منطقة لم تعد مصالحها كبيرة فـيها، مع الدخول الروسي إليها، والحضور الصيني، وتقدم إيران إقليمياً، التي حاولت فرنسا مخاصمتها لكسب ود دول الخليج وتحديداً السعودية، فـي أثناء مفاوضات البرنامج النووي الإيراني بين الجمهورية الإسلامية والدول الست، لكنها أخفقت، وكانت أول الوفود التي زارت طهران للإستثمار فـيها، بعد رفع العقوبات، هو الوفد الفرنسي برئاسة وزير الخارجية لوران فابيوس، الذي كان من أكثر المتشددين ضد الإتفاق النووي، ودفع ثمناً لموقفه، أنه خرج من «الكي دورسية» ولتقبض فرنسا ثمناً، هو شراء إيران لـ115 طائرة «إيرباص»، وإعادة تشغيل مصنع سيارات «البيجو»، واستثمارات أخرى، وهو ما فتح الباب لأن يطلب هولاند لقاء وفد من «حزب الله» أثناء زيارته لبيروت، ليسمع منه موقفه من رئاسة الجمهورية، وقد أبلغه الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني أثناء اجتماعه فـي باريس قبل شهرين، أن الإستحقاق الرئاسي فـي لبنان، هو عند اللبنانيين، وما يقرره «حزب الله» بالنسبة لإيران، حيث كاد اللقاء أن يحصل بين هولاند ورئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، مثل اللقاءات التي أجراها هولاند مع قيادات لبنانية أخرى سياسية وروحية، لكن ألغي اللقاء، لأن مواقف صدرت عن هولاند بإتهام «حزب الله» أنه وراء تعطيل إنتخابات رئاسة الجمهورية، الى موقفه أيضاً من الحرب التي تشن على سوريا وتشارك فرنسا بدور أساسي فـيها، إضافة الى ما تمّ تناقله، بأن هولاند إمتثل لطلب سعودي أن لا يلتقي «حزب الله» المصنف إرهابياً من دول الخليج، وأن لا مصلحة له فـي ذلك.
أُلغي لقاء هولاند و«حزب الله»، ولم يكن لصالح الرئيس الفرنسي الذي لبلاده قوات تعمل فـي إطار قوات الطوارئ الدولية، ويجب أن تبقى العلاقة جيدة مع «حزب الله» كمكوّن أساسي فـي الجنوب وضمن المجتمع اللبناني، وأن اللقاءات متواصلة بين نواب «كتلة الوفاء للمقاومة» ووزرائها مع السفـير الفرنسي وموفدين فرنسيين، وقد دُعي وفد من «حزب الله» الى مؤتمر «سان كلو» للحوار بين القوى السياسية اللبنانية قبل سنوات.
فما إنتهت إليه زيارة هولاند الى لبنان، هو التأكيد على استقراره، من ضمن القرار الدولي بالحفاظ عليه، وتجنيبه حروب الآخرين على أرضه، كما حصل فـي أثناء الحرب الأهلية التي إندلعت فـي العام 1975، وتعزيز الجيش الذي حُرم من هبة 3 مليارات دولار التي أعطتها السعودية لفرنسا لتصنّع أسلحة للجيش، وأوقفتها بسبب الحرب التي تشنّها على «حزب الله» سياسياً وإعلامياً واقتصادياً، وإدّعاء أن الجيش خسر الهبة بسبب سيطرة «حزب الله» عليه ومصادرة قرار الحكومة، وامتداد النفوذ الإيراني الى لبنان، والإنخراط بمشروعه فـي المنطقة. وسعى الرئيس نبيه برّي إلى أن يستعيد مع هولاند الهبة السعودية عبر إتصالات يقوم بها الرئيس الفرنسي مع المملكة، لأن الجيش الذي يحارب الإرهاب، لا يمكن أن يُمنع من التسليح.
إن هولاند قرر تسجيل زيارة بروتوكولية، فلم تفده فرنسياً، ولم ينتفغ منها لبنان، الذي لم تعد فرنسا أمه الحنون، ولا هو ابنها المدلّل.
Leave a Reply