أذكر أنه في حيّنا القديم، يوم كنت صغيراً، كان لأبي، رحمه الله، جلسات مع بعض الأصدقاء في صحن دارنا، أيام الصيف، حول البحرة، صاحبة النافورة، التي يصدر عن صوت قطرات الماء النازلة منها للحوض، لحن وكأنه يعزف على أوتار عود، يعطي خلفية جميلة للأحاديث التي تدور بين الذين لن يتكرر وجود أمثالهم بيننا.
كان بين الجالسين رجل، مازالت صورته عالقة في مخيلتي، فكثيرا ما كنت أراه يتمشى في الحي. لم يكن مثل بقية الرجال، لا يلبس شروالا، بل بنطلون له شيّالات مطاطية، وقميصا وجاكيت، بدل الصدرية والقمباز. كانوا ينادونه “أبو سلمو المهاجر”. وأذكر أنه حكى كيف تغرّب، وماذا رأى في البلاد البعيدة. قال إنه حين رست الباخرة التي أوصلته لأميركا، صار يسأل الناس عن العنوان المكتوب معه على ورقة، وأذكر أن الحلاق “أبو عجاج” قاطعه سائلا: ليش كنت بتعرف تحكي متل الأمريكان؟
لم يجب أبو سلمو وتابع سرد الحكاية: وصلت إلى المدينة يللي فيها عرب كتير، مدينة يوم فيها مطر وتلج، ويوم شوب وصيف، وقابلت فيها ناس من يللي سبقوني، وقالولي إنه منهم رجال عاملين شغلات فظيعة وغير شكل. في واحد منهم كان راجع من سهرة بالليل، وفجأة طلع بوجهه دب كبير، حجمه قد أربع رجال وهجم على “مايك”. تدخل “أبو عجاج” قائلا: إسم الرجال مايك.. يعني مو عربي، فأجابه أبو سلمو: معك حق، بس بهديك البلاد في عرب ببدلو أساميهن. المهم أنه مايك لا خاف ولا هرب وقلو للدب: إجيت والله جابك.
يتدخل “أبو عجاج” من جديد: ليش الدب بهديك البلاد بيحكي؟ أبو سلمو يتابع وكأنه ما سمع: وبلمح البصر، حط الدب تحته ونزل فيه ضرب.. ضرب.. وبعدين دبحه وسلخه وأخد جلده وعمل منه كبوّت لمرتو.
فصاح أبي والبقية.. الله أكبر.. شو هالرجال القبضاي!
يتابع أبو سلمو: وفي واحد من جماعتنا كمان، كان عم يسبح بنهر، وإذ فجأة قرب منه تمساح طوله من هون لهنيك. وأشار إلى أرض الديار. من هون لهنيك في بهو دارنا تعادل ثلاثة أمتار تقريبا. وكان التمساح فاتح تمو وهاجم على “ستيف”. أبو عجاج يسأل: كمان هاد مغير اسمه؟ يتدخل أبي: بكفّي “أبو عجاج”.. خليه يحكي شو صار.
وتابع أبو سلمو: لما هجم التمساح عليه، ضحك “ستيف” وقلو: إجيت والله جابك. وبلمح البصر مسكه من تمو المفتوح وشقو نصين وسلخه وعمل من جلده كندرة وجزدان لمرتو. مرة ثانية صاح الجميع وأبي معهم.. الله أكبر.. الله أكبر.. حتى أن أمي ظنت أنه حان موعد صلاة العشاء.
وتابع أبو سلمو: أما العجب العجاب فهو الذي صار مع الأخ “دوك”. وتدخل “أبو عجاج” كالعادة.. وهادا كمان عربي ومغير اسمه؟
فقال أبي: اللهم اجعله خير.. شو صار مع “دوك” يا أبو سلمو؟
وأكمل أبو سلمو: حسب ما حكولي أنه في ليلة من الليالي قام “دوك” من النوم بنص الليل وصار يصرخ.. آه بطني.. دخيل الله.. في شي عم يتحرك ببطني.. واستيقظت مرتو مفزوعة وقالت له: خير يا رب.. صارلك كم يوم مو طبيعي.. ساعة بتشتهي الحصرم.. وساعة بدك مخلل، وبتضل فايت طالع عالحمام؟
لكن “دوك” ظل يصرخ متألما وصار يقول: كاك.. كاك.. كاك. وسكت فجأة وذهب في سابع نومة، فنظرت مرتو تحته فوجدت أنه باض!!
حينها صاح أبو عجاج وأبي وبقية الجماعة: سبحانك يا رب.. والله شغله بتحط العقل بالكف.. شلون باض الرجال؟ وتابع أبو سلمو وهو يقسم بأغلظ الأيمان إنه هيك صار، وأن أولاد المستر “دوك” طلعو مثله بيّاضين..
ظلت هذه الحكاية بذاكرتي كغيرها من حكايات أبو سلمو، وحين بلغت سن الرشد، كنت أضحك كلما تذكرتها، وأقول كم كان أبو سلمو يبالغ إلى أن أوصلتني الأقدار إلى نفس المدينة، وشاهدت بأم عيني أن لمستر “دوك” أحفاد تفوقوا عليه، فهو كان يبيض في البيت، أما هم فيبيضون أمام الناس وفي الأماكن العامة والخاصة!! وللحكاية بقية!
ونلتقي..
Leave a Reply