واشنطن – تقاعدت الصحفية المخضرمة المتخصصة في شؤون البيت الابيض هيلين توماس التي قامت بتغطية أخبار كل رئيس اميركي منذ جون كنيدي بشكل مفاجئ يوم الاثنين الماضي وسط عاصفة من الانتقادات بسبب تصريحاتها بشأن اسرائيل.
كل رؤساء أميركا منذ جون كينيدي إلى اليوم يعرفون هيلين توماس (89 عاما) بأسئلتها الصعبة والصريحة التي تربك الناطقين الرسميين باسم البيت الأبيض، وتجعل زملاءها من الصحفيين يشعرون بالخوف. ولكن لسان الصحفية العربية الأميركية توماس أبى إلا أن ينطق ما كان يضمره وجدانها أمام ما تراه من تواطؤ أميركي صريح لصالح إسرائيل.
ولكن جرأة توماس اضطرتها إلى الاستقالة يوم الاثنين الماضي بعد الضجة التي أثارها قولها إن “على اليهود أن يخرجوا من فلسطين المحتلة”، و”عليهم أن يذهبوا إلى بولندا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة أو أي مكان آخر أتوا منه”.
وبعد موجة جنون ضدها أصدرت الصحفية المخضرمة اعتذاراً على موقعها الإلكتروني قالت فيه “أبدي أسفي الشديد على تعليقاتي التي أدليت بها عن إسرائيل والفلسطينيين”. وأضافت أن تلك التعليقات. “لا تعبر عن حقيقة اعتقادي بأن السلام سيحل في الشرق الأوسط فقط عندما تدرك كافة الأطراف الحاجة إلى الاحترام المتبادل والتسامح، وآمل أن يأتي ذلك اليوم سريعاً”.
وقد وردت تصريحات توماس الأخيرة بشأن إسرائيل في ٢٧ أيار (مايو) في شريط فيديو صوره المدون ديفد نيسنوف حاخام لونغ آيلند الذي كان يزور البيت الأبيض في حدث يتعلق بمؤسسة “التراث اليهودي”، وصادف توماس في حديقة البيت الأبيض.
يقول الحاخام نيسنوف إنه لما صادف توماس في الحديقة عرفها وفكر أن الأمر سيكون مهما وسألها عن اليهود، وأضاف “لم أصدق ما ورد على لسانها.. لقد صدمت وجرحت”.
وأدى تصاعد الغضب الجنوني من كلامها إلى أن ألغت دعوتها جامعة في ضواحي واشنطن كان مقررا أن تلقي فيها كلمة التخرج، بل إن زملاءها من الصحفيين هددوا برفع اسمها عن المقعد المخصص لها في الصف الأمامي بقاعة المؤتمرات في البيت الأبيض.
ودعا آري فليشر الناطق الرسمي السابق للرئيس جورج بوش الابن توماس بعد تصريحاتها الأخيرة حول اليهود إلى الاستقالة، وقال إنها كانت تعامل هي وحدها خارج القواعد. وأضاف أن توماس كان يجب أن تستقيل منذ زمن، ولكنها كانت تحظى بمعاملة خاصة، “لم أكن أميل إليها.. لقد جلبت على نفسها -وبصورة محزنة- ما جلبته”.
وأعلنت مجموعة “هيرست نيوز سيرفس” -التي تعمل لديها توماس كاتبة عمود- أن تقاعدها بدأ سريانه بشكل فوري، مضيفة أن قرارها جاء بعدما سُجلت لها تصريحات مثيرة للجدل بشأن إسرائيل والفلسطينيين، وبثت على نطاق واسع على الإنترنت.
وانتقد المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس توماس ووصف تصريحاتها بأنها “عدائية وغير مسؤولة، وتستدعي التوبيخ”. كما وصفت رابطة مراسلي البيت الأبيض تصريحاتها بأنها “لا يمكن الدفاع عنها”.
توماس.. تاريخ حافل بالمواقف
توماس التي انهت الأسبوع الماضي مسيرة خمسين عاماً في البيت الأبيض توالى عليها عشرة رؤساء مهدت طريق الصحافة لعدد كبير من النساء، حتى أصبحت “عميدة صحفيي البيت الأبيض”. ولم يحصل إلا قلة من المراسلين في البيت الأبيض على المستوى الرفيع التي حظيت بها لدى الرؤساء والصحفيين، حتى إن مقعدها في قاعة المؤتمرات بالبيت الأبيض كان يحمل لوحة صغيرة باسمها، وهو المقعد الوحيد الذي يحمل اسم شخص. كل ذلك يظهر مدى الاحترام الذي ظلت هذه الصحفية تتمتع به رغم أن كثيرين في واشنطن يصفون أسئلتها بالعدائية في السنوات الأخيرة.
وأصبحت توماس في السنوات الأخيرة أكثر ميلا إلى التعبير عن آرائها بعدما انتقلت من العمل مراسلة صحفية إلى العمل كاتبة عمود، وذلك ما جعل رابطة مراسلي البيت الأبيض تقول إنها الآن تعيد النظر في السماح لكتاب الرأي بدخول قاعة المؤتمرات. ومع أن توماس تكتب عمودا لمجموعة “هيرست” منذ عشر سنوات، فإن شهرتها ارتبطت بحضورها في المؤتمرات الصحفية بالبيت الأبيض أكثر من كتاباتها. وقد أبدت توماس انتقادا كبيرا للحرب على العراق، ونبهت مرارا إلى أن الغزو الذي قادته الولايات المتحدة هناك كلف أرواحا كثيرة بين المدنيين، حتى انها قالت ذات مرة عندما أبدى لها أحد المتحدثين الرسميين أسف الإدارة على موت المدنيين إن “الأسف لا يعيد الميتين إلى الحياة”. وقد قال الرئيس جون كينيدي عنها ذات يوم “إنها فتاة جيدة لو ابتعدت عن الورقة والقلم”، كما قال عنها وزير الخارجية السابق كولن باول مازحا “أليست هناك حرب في مكان ما حتى نرسلها إليها؟”.
ويذكر أن توماس، المولودة في 4 أغسطس (اب) 1920 في كنتاكي لأبوين مهاجرين من طرابلس، لبنان، بدأت عملها مراسلة في البيت الأبيض قبل ولادة غيبس، الناطق باسمه الآن، بما لا يقل عن 11 سنة، وغطت أحداث البيت الأبيض في ولايات عشرة من الرؤساء.
لكن توماس أقامت شهرتها العالمية على توجيه نيران النقد الى البيت الأبيض وسادته. وإذا كان رئيسها المفضل هو جون كنيدي الذي اعترفت بأنها بكت وهي تنقل خبر مقتله الى وكالة “يو بي آي” من هاتف بالبيت الأبيض، فقد أعلنت أن جورج بوش هو “أسوأ الرؤساء الأميركيين على مر التاريخ”.
وقد جرها هذا التصريح لحرمانها من مقعدها في الصف الأول في صالة المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض ومن توجيه أسئلة الى بوش أيضا. لكن هذا الأخير تراجع لاحقا وأعادها الى ذلك المقعد بعد احتجاجاتها النارية واتهامه بالخوف منها. لكن أول أسئلتها له حال عودتها الى الصف الأول خلا من أي شيء يشير الى تصالحها معه، فقالت له : “بأي منطق تبرر حرب العراق بحق السماء”؟
والأرجح أن تصريحات توماس التي أجبرتها على الاستقالة جاءت ثمرة لغضبها على إدارة الرئيس اوباما في تقاعسها عن أي تحرك إيجابي بمواجهة الهجوم الإسرائيلي على أسطول السلام الى غزة. والأرجح أيضا أنه جاء ردة فعل إزاء ما تعتبره تقاعسا من جانب الإعلام الأميركي في نقل الصورة الحقيقية للهجوم وأبعاده. وهذا ليس موقفا جديدا. فعندما سئلت العام الماضي عن رأيها في زملائها المراسلين من البيت الأبيض، ردت قائلة: “أتمنى أن ينهضوا من غيبوبتهم الجماعية العميقة هذه يوما ما”.
والجدير بالذكر أن توماس ترعرعت في ديترويت وتخرجت من جامعة “وين ستايت” التي صوتت ليل الخميس الماضي على إبقاء “جائزة التنوع” الصحفية باسمها رغم حملة واسعة مطالبة بتغيير اسم الجائزة التي تقدمها الجامعة سنويا والتي نالها ناشر “صدى الوطن” أسامة السبلاني الشهر الماضي.
Leave a Reply