كشفت الاتفاقية الأمنية الموقعة بين المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والسفارة الأميركية في بيروت، الأهداف الحقيقية لما يسمى “ثورة الأرز”، التي ابتدعها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ليكون لبنان في إطار مشروعه “للشرق الأوسط الكبير”، ووضعه تحت الوصاية الأميركية، أو ما تدّعيه الإدارة الأميركية السابقة، إدخاله في النظام الديمقراطي العالمي.
فأصحاب شعار “السيادة والاستقلال” أوقعوا لبنان في الوصاية الأميركية بعد أن أعلنوا أنهم حرروه من “الاحتلال السوري” وفق ما يسميه المتطرفون منهم، أو إخراجه من الوصاية السورية، كما في عبارات المعتدلين منهم، وباتوا ينادون بـ”الاستقلال الثاني”، الذي تحقق بانسحاب القوات السورية.
فخروج الجيش السوري من لبنان، كان بقرار من الرئيس بشار الأسد، وبعد اجتماع للمجلس الأعلى اللبناني-السوري في 5 آذار 2005، الذي اتخذ القرار أيضاً، بعد أن ظهرت المؤامرة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومحاولة توريط سوريا في هذه العملية، لإجبارها على تنفيذ ما يعنيها من قرار مجلس الأمن الدولي 1559، الذي يطالبها بسحب قواتها من لبنان، فردّت بقرار فاجأ الجميع، أن وضعت جدولاً زمنياً أنهى الوجود السوري العسكري والأمني في لبنان في 26 نيسان من العام نفسه، مما أربك المخطط الأميركي-الغربي-الإسرائيلي، الذي كان يقوم على الضغط على سوريا في لبنان، ومساومتها ببقاء جيشها فيه، مقابل وقف دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، لكن الرئيس الأسد رفض الانصياع للشروط الأميركية، وفضّل المواجهة معها، وهذا ما حصل.
ومع خروج سوريا من لبنان عسكرياً، بدأ العمل بين إدارة بوش وقوى “14 آذار”، لوضع لبنان تحت الوصاية الأميركية، بعد أن ارتضت هذه القوى أن ترتبط بالمشروع الأميركي في المنطقة الذي سيُسقِط الأنظمة الدكتاتورية، ومنها حسب زعمها نظام الأسد في سوريا، ولإقامة الديمقراطية عبر “ثورة الياسمين” التي بشّر بها موقعو “ربيع دمشق”، الذين كانوا يستمدون قوتهم من أن “ثورة الأرز” تمت في لبنان، وبزغ “ربيع بيروت” كما أسموه، ولا بد أن يصل الى دمشق، حيث فتح أقطاب “السيادة والاستقلال”، أبواب لبنان للمعارضة السورية، لتكون جاهزة وقريبة من سوريا للدخول إليها، كما دخلت المعارضة العراقية الى بغداد، بعد الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط نظام حزب البعث فيه، وانهيار حكم صدام حسين.
بدات عملية بناء “الشرق الأوسط الكبير”، أو الجديد، تتكوّن من لبنان، البلد الثاني بعد العراق، الذي دخل المظلة الأميركية، وكان لا بدّ من البدء من الأجهزة الأمنية للإمساك بها وبالقرار الامني، بعد أن زُج بقادتها السابقين في السجن، لإزالة كل بقايا النظام الأمني اللبناني–السوري المشترك، واجتثاث كل الحقبة السورية التي حكمت لبنان، وتمت فبركة روايات بوليسية بطلها شهود زور على رأسهم محمد زهير الصديق، وجريدة السياسة الكويتية، التي تروّج لتطبيع العلاقة مع العدو الإسرائيلي، وغرفة عمليات سياسية-إعلامية، أدارها سياسيون وأمنيون وإعلاميون معروفون، قامت بالترويج لسيناريوهات حول اغتيال الحريري، اعتمدها المحقق الدولي ديتليف ميليس، وتمّ توقيف الضباط الأربعة: جميل السيد وعلي الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان، تحت حجة أنهم ضالعون في الجريمة، وهم من خططوا وشاركوا فيها، وتبيّن بعد أربع سنوات، عدم صحة ما أُسنِد إليهم، فأطلقت سراحهم المحكمة الدولية، وكان القصد من اعتقالهم، هو استكمال الانقلاب الأميركي في لبنان، بالمجيء بضباط على رأس الأجهزة الأمنية لا سيما قوى الأمن الداخلي، بعد أن استعصى الجيش عليهم في تغيير عقيدته القتالية، أو في قطع الاتصال بينه وبين المقاومة، وزجه بمواجهتها.
كان التركيز الأميركي على قوى الأمن الداخلي، وهو نفسه الذي يحصل على الشرطة الفلسطينية التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس (أبو مازن)، لمواجهة ما تسميه أميركا “الإرهاب”، وهو المقاومة ضد الاحتلال.
لذلك بدأ صرف الأموال الأميركية، تحت عنوان مساعدات وهبات، وبرامج تدريب لمكافحة الإرهاب، حيث أقيمت دورات في أميركا والأردن ودول أخرى، لتدريب ضباط وعناصر قوى الأمن على ذلك، حيث بدا توجيه الأجهزة الأمنية، باتجاه رصد ومراقبة المقاومة أولاً، والأحزاب الحليفة لسوريا، بعد أن تمّ تسريب معلومات، عن تورطها بـ”أعمال إرهابية” وأنها تقف وراء عمليات الاغتيال والتفجير.
كان الهدف من وراء تدريب وتجهيز قوى الأمن الداخلي، هو استخدامها بمواجهة من تسميهم أميركا وفق قاموسها السياسي “الإرهابيين”، وهذا ما سبب حذراً من الدور المنوط بقوى الأمن، وقد شنّت المعارضة السابقة حملة عليها، لا سيما شعبة المعلومات والتشكيك بدورها، إذ تمّ رصد مبلغ خمسين مليون دولار، وأعطيت ما طلبته من عناصر، وجرى تحييد مخابرات الجيش، لأن واشنطن ومعها تل أبيب لا يثقون بها، لأنها تنسق مع المقاومة، ومازالت على علاقات مع القيادة العسكرية السورية، التي تربطها بلبنان، اتفاقية أمنية، من ضمن معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين البلدين، حيث لم تنفع المحاولات الأميركية، لإلغاء هذه المعاهدة، التي شنت حملة عليها من قبل قوى “14 آذار”، وعلى المجلس الأعلى اللبناني-السوري.
فمع الرعاية الأميركية الكاملة لتدريب قوى الأمن، والحضور الدائم للسفير الأميركي لدورات تخريج ضباط وعناصر من هذا الجهاز الأمني، بدأت الأنظار تتجه نحو ما تدبره واشنطن للبنان، والدور الذي تحضّره للقوى الأمنية، إذ صدرت إشارات عن دور ما قام به جهاز أمني أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وهو ما أثاره قادة من “حزب الله” ومنهم الأمين العام السيد حسن نصر الله، وطرحوا تساؤلات حول أداء بعض القوى الأمنية أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان.
وتركت هذه التساؤلات التي صدرت عن قادة المقاومة، أن تستبشر أميركا بالخير من إعداد قوى الأمن الداخلي، وهي تريد لها أن تصطدم بالمقاومة، فتمّ توقيع اتفاقية أمنية أميركية-لبنانية مطلع العام 2007، أي بعد خمسة أشهر من العدوان الإسرائيلي، وفي أثناء تحرك المعارضة واعتصامها في ساحة رياض الصلح، التي كانت تطالب بالمشاركة في الحكومة على قاعدة الثلث الضامن، وبدأ التوتر يتصاعد بين المعارضة وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تلقت كل الدعم الأميركي، وزجت إدارة بوش الذي كان يهاتف السنيورة يومياً ، بكل إمكاناتها لحمايته من السقوط، وأمّنت له غطاء عربياً بدعم سعودي مباشر مادي ومعنوي، واتصل به الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتكلّم معه ومع الوزراء المتواجدين معه في السراي، ومثله فعل الرئيس المصري حسني مبارك، وحضرت المدمرة الأميركية كول ومعها بوارج أخرى الى قرابة الشاطئ اللبناني، كما تمّ تحريك النعرات المذهبية في الداخل، وجرت اشتباكات بسببها في أكثر من منطقة.
فالاتفاقية الأمنية الأميركية مع لبنان، وهي شبيهة في بعض جوانبها لاتفاق 17 أيار، كانت رسالة دعم لقوى “14 آذار”، وتمّ تمريرها في أثناء حكومة “اللون السياسي الواحد”، بعد استقالة وزراء حركة “أمل” و”حزب الله” والوزير يعقوب الصراف منها، وبات السنيورة الآمر الناهي، بعد أن رفض رئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود، ترؤس جلسات لحكومة تناقض العيش المشترك الذي ينص عليه الدستور واعتبرها غير شرعية، كما أقفلت أبواب مجلس النواب بوجهها إذا لم تصحح الخلل داخلها، وتعيد التوازن الطائفي إليها..
ففي غمرة الصراع السياسي والدستوري، مرّت الاتفاقية، التي لم تعبر المؤسسات الدستورية، وتمّ توصيفها من قبل السنيورة وفريقه على أنها هبة، في حين نظر إليها المعارضون على أنها اتفاقية بين الدول يجب أن تحظى بتوقيع رئيس الجمهورية الذي يبرم المعاهدات والاتفاقيات ويصادق عليها مجلس النواب.
تمّ تهريب الاتفاقية قبل ثلاث سنوات، ولم يطلع أحد عليها، حتى بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، إثر اتفاق الدوحة، إلى أن تمّ نشر ما تضمنته في إحدى الصحف المحلية، حيث أبرزت بنودها تدخلاً فاضحاً من قبل الإدارة الأميركية، بالشؤون اللبنانية، واعتداء على السيادة اللبنانية، وربط لبنان أمنياً بمكتب مكافحة الإرهاب في واشنطن، واستدعى ذلك تدخلاً من لجنة الإعلام والاتصالات النيابية التي عقدت اجتماعات لها، ليتبين في تقريرها، أن هناك تدخل أميركي مباشر، وأن الاتفاقية أعطت الحق للأجهزة الأمنية والدوائر الرسمية الأميركية طلب معلومات، تتعلّق بالأشخاص واتصالاتهم الهاتفية والحسابات المصرفية الخاصة، كما يسمح بمراقبة الحدود والداخلين عبرها، والاطلاع على أسمائهم.
كل هذه التفاصيل، تعني شيئاً واحداً، هي جمع المعلومات عن المقاومة، وكيف يمكن الوصول إليها، مما ترك المراقبين ينظرون الى الاتفاقية الأمنية، من منظار تجسسي على المقاومة أكثر منه، مساعدة القوى الأمنية وتجهيزها وتدريبها، بالرغم من أن فرع المعلومات نجح في الوصول الى الشبكات الإسرائيلية، واعتقال عدد لابأس به منها، والتنسيق مع المقاومة في هذا المجال، والتي نظرت الى هذا العمل الأمني على أنه إنجاز يحسب لفرع المعلومات ورئيسه العقيد وسام الحسن، والذي لم يلقَ الرضى عند إسرائيل وأميركا، إلاّ أن تفكيك الشبكات التجسسية الإسرائيلية، وهو عمل وطني، لا يلغي أن الاتفاقية الأمنية تثير الشكوك، ولا بدّ من مراجعة بنودها وإلغاء كل ما يمت بعلاقة إعطاء معلومات عن المقاومة وغيرها والعمل لصالح جهاز أمني خارجي، حيث كان مريباً أن يتجول وفد أمني أميركي من مكتب مكافحة الإرهاب، عند الحدود اللبنانية– السورية، والدخول الى مراكز الأمن العام والجمارك، واستيضاح بعض المعلومات ، حيث جاءت الجولة المشبوهة بعد افتعال أميركا وإسرائيل لوصول صواريخ “سكود” الى “حزب الله” ولتعيد طرح موضوع الاتفاقية الأمنية، التي دعا النائب وليد جنبلاط الى إلغائها، أو دراستها بهدوء، حيث سبقه الى ذلك رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي اكّد أنه لا يقبل وجود اتفاقية تمس بالمقاومة، كما أن رئيس مجلس النواب نبيه بري اتفق مع الرئيس سليمان على أن يدرسها مجلس الوزراء من جديد.
فهذه الاتفاقية التي هلّل لها بعض من تبقى من “14 آذار”، ودافعوا عنها من منظار أنها مساعدة أميركية، تشير الى ارتباط هؤلاء ومازالوا بالمشروع الأميركي، ومراهنة البعض عليه، لا سيما “القوات اللبنانية” التي يلتقي رئيسها سمير جعجع بشكل دائم السفيرة الأميركية ميشال سيسون، وهو ما يطرح السؤال الدائم في الأوساط السياسية، عن سر هذه العلاقة الأميركية-القواتية، وهل من دور تحضره أميركا للقوات للداخل اللبناني، في ظل الدعم الكبير الذي تلقاه من أنظمة عربية موالية للغرب، واستمرار الحملة القواتية اليومية على المقاومة وسلاحها، وإصرار جعجع أن لا يبحث على طاولة الحوار سوى بند نزع سلاح المقاومة، الذي لا يجوز حسب زعمه أن يبقى الى جانب سلاح الجيش والشرعية، وهو ما يطالب به القرار 1559، الذي أصدر تقريراً عنه تيري رود لارسن مؤخراً ويصر فيه على نزع السلاح وهو مطلب أميركي–إسرائيلي، حيث تسبب صدور هذا القرار بفتنة داخلية، وحرب إسرائيلية مدمرة على لبنان، ووصفه جنبلاط مؤخراً بأنه سينهي وجود لبنان، ويجب العمل على إلغائه من قبل مجلس الأمن، لا سيما وأن بنوده طبقت، ولم يعد من لزوم لوجوده، وإن بقاءه يعني إبقاء الحرب على لبنان قائمة داخلياً وخارجياً.
Leave a Reply