البوارج الاميركية حضرت لحماية شمعون نهاية الخمسينات
وامين الجميل مطلع الثمانينات واليوم لمنع سقوط «ثورة الارز»
البيت الابيض يشجع على انتخاب رئيس للجمهورية بالنصف زائدا واحداً تحت الفصل السابع
عندما سمع اللبنانيون بخبر وصول المدمرة الاميركية «يو اس.اس.كول» الى محاذاة مياههم الاقليمية، لم يكترثوا لها، ولم يعطوها الاهمية اللازمة، سوى متابعتهم لاهداف تحركها باتجاه شواطئهم، بعد ان نقلت اليهم وسائل الاعلام، ان مهمتها هي «تأمين الاستقرار الاقليمي»، وهو المفقود بسبب السياسة الاميركية في المنطقة القائمة على منطق «الحروب الاستباقية» التي افتتحها الرئيس الاميركي جورج بوش، في افغانستان والعراق مباشرة تحت مزاعم محاربة «الارهاب»، وفي لبنان عبر العدوان الاسرائيلي في صيف 2006، ضد المقاومة فيه وتحديداً الاسلامية التابعة لـ«حزب لله»، وفي غزة، بضرب حركة «حماس» وفصائل المقاومة الفلسطينية الاخرى.
وفي تاريخ لبنان الحديث، تدخلت اميركا عسكرياً فيه، مرتين، الاولى عام 1958، لمنع اسقاط رئيس الجمهورية كميل شمعون الذي كان يطمح بالتجديد لولاية ثانية، بعد ان ربط حكمه «بحلف بغداد» الذي كان ترعاه اميركا من خلال مشروع رئيسها دوايت ايزنهاور لمواجهة انتشار الشيوعية، وقد تحرك الاسطول السادس في صيف 1958، بعد ان سقطت الملكية في العراق في 14 تموز من ذلك العام، بانقلاب قادة نوري السعيد ضد الملك فيصل، بدعم من الشيوعيين والناصريين والقوميين العرب والبعثيين، فخافت واشنطن من ان يسقط لبنان في يد الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان اعلن الوحدة مع سوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، فهرعت سفنها الى شواطىء لبنان وانزلت قوات «المارينز»، لمنع ما سمي بـ«الثورة» التي كان من اركانها صائب سلام وعبد الله اليافي وصبري حماده وكمال جنبلاط ورشيد كرامي وحميد فرنجية واخرين، من اسقاط الرئيس شمعون، بعد ان اندلعت معارك في بيروت وعدد من المناطق اللبنانية، واضطر الاميركيون الى التفاوض مع عبد الناصر عبر ريتشارد مورفي والاتفاق معه على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وهذا ما حصل.
وبعد 14 عاماً، يتكرر مشهد نزول قوات اميركية على الساحل اللبناني، وهي حضرت بعد اغتيال بشير الجميل في 14 ايلول 1982، والذي لم يكن مر حوالى شهر على انتخابه في ظل الاحتلال الاسرائيلي لاجزاء كبيرة من لبنان، ومن خلال اتفاق اميركي-اسرائيلي على وصول الجميل الى رئاسة الجمهورية الذي اقام علاقات مباشرة مع اسرائيل وشارك مع وزير الدفاع ارييل شارون ورئيس الاركان رافائيل ايتان، في التخطيط للاجتياح الاسرائيلي وقد شكل اغتياله بانفجار المبنى الذي كان فيه مركز لحزب الكتائب في الاشرفية، نكسة للمشروع الاميركي- الاسرائيلي، فاندفعت القوات الاسرائيلية لاحتلال بيروت وتسببت بمجزرة صبرا وشاتيلا على يد «القوات اللبنانية»، وقد جوبهت بمقاومة شديدة، وعمليات ضد جنودها وضباطها، مما اجبرها على الانسحاب من العاصمة بعد اقل من اسبوعين على دخولها، واضطر امين الجميل الذي انتخب بعد شقيقه بشير للاستعانة بالقوات الاميركية، التي جاءت مع قوات فرنسية وايطالية تحت اسم «قوات متعددة الجنسيات» لحماية حكمه ومساعدته على قيام المؤسسات لا سيما الجيش لفرض الامن، وقد بدأ عهده بقمع القوى الوطنية، بعد ان استأثر بالحكم، وفرض سلطة كتائبية وفئوية، فاستعجل بذلك قيام معارضة وطنية ضده، واكبتها عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي، والقوات الاميركية والفرنسية، فتدخلت المدمرة «نيوجرسي» وقصفت الجبل والضاحية ومراكز للجيش السوري، الا ان انفجار سيارات مفخخة في مقر السفارة الاميركية في بيروت، ومواقع القوات الاميركية قرب المطار والقوات الفرنسية قرب المدينة الرياضية، سرّع في الخروج العسكري الاميركي والفرنسي والايطالي، وبات حكم امين الجميل دون حماية دولية، بعد ان وعده الرئيس رونالد ريغان انه سيحمي عهده من السقوط وشجعه على شن حرب على سوريا، وتوعدها من واشنطن بقصفها، لكنه بعد سنة من حكمه المضطرب، وجد نفسه يذهب الى دمشق يطلب من الرئيس حافظ الاسد مساعدته للمحافظة على حكمه وتأمين الاستقرار في لبنان، بعد ان تراجع عن الاستئثار بالسلطة، وقبل مشاركة المعارضة في القرار، كما وافق على الغاء الاتفاق مع اسرائيل بما سمي اتفاق 17 ايار ، وولدت حكومة وحدة وطنية برئاسة رشيد كرامي دخل اليها وليد جنبلاط ونبيه بري والدكتور عبدالله الراسي ممثلاً الرئيس سليمان فرنجية، والرئيس عادل عسيران.
فلم ينفع الاحتلال الاسرائيلي والتدخل العسكري الاميركي في ان ينفرد حزب الكتائب بالحكم عبر امين الجميل، الذي واجهته انتفاضات من «القوات اللبنانية» ضد سلطته واعتبرته سرق رئاسة الجمهورية منها، وابعدها عن السلطة، وهذا ما اضعف حكمه في الساحة المسيحية، بعد ان فقد كل رصيده لدى المسلمين بعد اجتياح بيروت بالنار وقصف الجبل وتدمير الضاحية، فنتج عن ذلك انقسام الجيش وانفراط وحدته، وبات الجميل محاصراً في القصر الجمهوري.
ومع مرور ربع قرن تحاول الولايات المتحدة الاميركية من جديد، احضار بوارجها لحماية نظام سياسي في لبنان تابع لها، ويعتبره الرئيس بوش، انه نتاج الديمقراطية التي جاء بها الى «الشرق الاوسط الكبير»، ويخشى ان يسقط من جديد تحت «النفوذ السوري والايراني»، كما اعلن اكثر من مرة، هو وحلفائه في لبنان والمنطقة، وقد تم تعطيل المبادرة العربية واخرى الفرنسية، من قبل الادارة الاميركية، لانه كان هناك اتجاه لاعطاء المعارضة الثلث الضامن في حكومة وحدة وطنية، للمشاركة في القرار، فكان رفض اميركي تم التعبير عنه من خلال مواقف ديفيد وولش وديفيد ساترفيلد، وكذلك من قبل الفريق الحاكم في لبنان، الذي اعتبر ان الثلث الضامن هو «انتحار سياسي» كما قال سعد الحريري وان القبول به هو «حياة او موت»، كما اعلن سمير جعجع، وان هذا الموضوع هو «يا قاتل او مقتول» كما اشار وليد جنبلاط.
لذلك فان ابحار البوارج الاميركية باتجاه الشواطىء اللبنانية، هو لتأمين بقاء «ثورة الارز» واعطائها جرعات من الدعم، بعد ان بدأت تفقد حضورها السياسي والشعبي، وتراجعت كثيراً عن اهدافها بالاستيلاء الكامل على السلطة، فهي لم تستطع انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها، وقبلت مرغمة بقائد الجيش العماد ميشال سليمان مرشحاً توافقياً، بعد ان لاقت صعوبة في اجراء انتخابات رئاسية بالنصف زائداً واحداً، بالرغم من التأييد الاميركي لهذا الاتجاه، الا ان اطرافاً في السلطة خافوا من ان يؤدي ذلك الى وقوع حرب اهلية، فرضخوا لوصول العماد سليمان على ان يتشددوا في تشكيل الحكومة، وهذا ما حصل، حيث لم تنجح مساعي الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، في تذليل هذه العقدة بطرح العديد من الصيغ والضمانات، وهذا ما منع حصول انتخابات رئاسة الجمهورية في موعدها، وتأجيلها كلما لم يتم التوصل الى اتفاق سياسي بين الموالاة والمعارضة.
ومع رفض اميركا سقوط لبنان منها، فهي تمانع في التوصل الى توافق لبناني-لبناني كاد ان يحصل اكثر من مرة، لكن جرى تفشيله من قبلها، لانها تريد ان تأخذ مقابل ان تعطي في لبنان، وهي تعتبره ساحة للمقايضة والتفاوض مع ايران وسوريا، بالرغم من نفيها ذلك، لكن المعلومات تشير الى ان الادارة الاميركية التي لم تربح في العراق، وسقط في يد خصومها الايرانيين والسوريين،وهي لا تريد ان تخسر ايضاً في لبنان، عبر رئاسة الجمهورية والحكومة، وهذا ما عبّر عنه صراحة وليد جنبلاط، الذي دعا حلفائه الى ان يفتخروا بقدوم البوارج الاميركية، وان لا يخجلوا من مساعدة واشنطن لهم، التي كان لها الفضل في قيام «ثورة الارز»، واصدار القرار 1559 الذي فرض على سوريا سحب قواتها من لبنان.
وقد افصح جنبلاط عن الهدف من الوجود العسكري الاميركي في البحر الابيض المتوسط، وهو للحفاظ عليه سياسيا مع حلفائه في لبنان وقد ارتبطوا بالمشروع الاميركي ، واعطائهم جرعة دعم، ليصمدوا حتى الصيف المقبل، لان ثمة تحولات ستحصل، وستسقط المعارضة وتنتهي المقاومة، وهذا الدعم للفريق الحاكم، نقله آليوت ابرامز مساعد رئيس مجلس الامن القومي الاميركي، اثناء زيارته مع ولش الى لبنان قبل نهاية العام الماضي، وبعد ان اصبحت الموالاة في موقع القبول بمطالب المعارضة، بإنتخاب العماد سليمان وتشكيل حكومة وفق نسب الكتل النيابية في مجلس النواب، وقد رعى هذا الاتفاق بين الطرفين وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير بمساعدة سوريا، وكادت الازمة اللبنانية ان تنتهي لولا التدخل الاميركي الذي اسقط الحل، وابلغ المسؤولون الاميركيون حلفاءهم في لبنان، ان ينتظروا ولا يقدموا التنازلات.
وانتظار الفريق الحاكم لن يطول كثيراً، وفق ما يعلن اقطابه، الذين ومنذ 14 شباط وفي الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأوا يتحدثون بنبرة عالية، والتلويح بإنتخاب رئيس للجمهورية بالنصف زائداً واحداً، وربطوا انعقاد القمة العربية بحضور الرئيس اللبناني المنتخب، لكن انتخاب رئيس قبل القمة يبدو صعباً اذا لم يحصل توافق لبناني، وان القمة ستعقد من دونه، وهذا ما دفع بسمير جعجع الى القول، ان الانتخاب سيحصل بعد القمة العربية، دون ان يحدد الوسيلة، لكنه يكشف في مجالسه، عن ان هذا الانتخاب سيحصل برعاية دولية، بعد نقل الملف الرئاسي الى مجلس الامن الدولي، الذي سيكلف قوات دولية للاشراف على الانتخاب وتأمين الامن، وان حضور البوارج الاميركية يدخل في هذا الاطار، لإرسال رسالة الى المعارضة وسوريا، انهما لا تستطيعان تعطيل الانتخابات التي قد تحصل تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، لان وجود رئيس للجمهورية اصبح ضروريا مع مؤسسات اخرى لتتعامل مع المحكمة الدولية التي ابلغ ابرامز حلفاء بلاده، انها ستبدأ العمل ما بين ايار وحزيران، وان قراراً اتهامياً سيصدر بأسماء المتهمين، وان وجود قوات دولية، هو لتأمين تنفيذ قرار مجلس الامن 1757 الذي وضع انشاء المحكمة الدولية تحت الفصل السابع.
وهذا الربط بين البوارج الاميركية والانتخابات الرئاسية، والمحكمة الدولية، هو لضمان بقاء الفريق الحاكم في السلطة، من دون وجود شركاء له، اذ يتوعد هذا الفريق المعارضة، بأن قياداتها سيساقون الى السجون في الاشهر القادمة، كما اعلن جعجع وجنبلاط، وقد ردت قيادات المعارضة عليهما، بأنها ترفض تسييس المحكمة، وكيف يمكنهما تنصيب انفسهما قضاة فيها، في الوقت الذي لم يتوصل التحقيق الدولي حتى الآن الى تقرير نهائي حول المتهمين في اغتيال الحريري، سوى وضع الاحتمالات والتأكيد ان انتحارياً فجر نفسه بموكبه، وهذا يعني في القاموس القضائي، ان لا مثول امام المحكمة اذا لم يصدر قرار اتهامي موثق ومثبت بأدلة وشهود، بعد ان تبين ان الشهود مزورون.
هذه التطورات التي حركت البوارج الاميركية، رافقها ايضاً اغتيال احد قادة «المقاومة الاسلامية» عماد مغنية، الذي هدد الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله بالثأر له من اسرائيل التي اتهمها انها تقف وراء الجريمة، وتوعد بعد ان اقسم على ضريح مغنية، ان الرد سيزلزل اسرائيل ويكون بداية نهايتها، وقد دفع هذا التهديد الولايات المتحدة كما اسرائيل ان تأخذه على محمل الجدية، لمواجهة اي احتمال قد يحصل، اذ ثمة تخوف لدى الادارة الاميركية ان يحصل انتقام من سفارتها على غرار ماحصل عام 1983، او اي عمل آخر، كما ان القلق الاميركي على حلفائها في لبنان يزداد، وقد اعلنت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، ان الوجود العسكري الاميركي هو لحماية حكومة السنيورة التي هي من ضمن «الامن القومي الاميركي» والاستراتيجية الاميركية في المنطقة، كما قال بوش الذي طالب حلفاءه العرب بدعمها، وهو ما يتأكد يومياً من مواقف السعودية ومصر والاردن، التي تؤكد على احتضانها للموالاة ودعمها للسنيورة وحكومته، ووضع هذه الدول كطرف بوجه المعارضة.
الا ان الاخطر هو ما تتناقله اوساط دبلوماسية، من ان حضور البوارج الاميركية، هو لملاقاة عدوان اسرائيلي على لبنان والمقاومة فيه في الاشهر القادمة، بعد الانتهاء من تصفية حركة «حماس» في غزة، للانتهاء من فصيلين مقاومين يعرقلان مشاريع بوش لتصفية المسألة الفلسطينية واقامة شرق اوسط جديد وحماية امن اسرائيل.
Leave a Reply