كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لأميركا في لبنان حلفاء، كما لدول أخرى، ويُعرف عنه بأنه نقطة التقاء مصالح دولية متقاطعه قد تحوّله إلى ساحة حرب للآخرين على أرضه، وبدماء اللبنانيين أنفسهم، الذين يهرولون إلى هذه الدولة أو تلك ويطلبون حمايتها. ومن تجارب تاريخ لبنان الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة وتحديداً المسيحيين في جبل لبنان الجنوبي 1840–1860، والتي امتدّت إلى مناطق أخرى، وتدخلت الدول السبع النافذة في ذلك القرن، وقرّرت كل منها حماية طائفة، وكان الهدف هو الدخول إلى أرض السلطنة العثمانية التي كان الضعف ينخرها بعد نحو 400 سنة من حكم بني عثمان.
الحضور الأميركي
حضرت أميركا إلى لبنان مع تقلّص النفوذين الفرنسي والبريطاني عقب الحرب العالمية الثانية. إذ كان لبنان من حصة الفرنسيين في تقسيمة «سايكس–بيكو»، وكان الفرنسيون متحالفين مع «الكتلة الوطنية» برئاسة إميل إدّه، والبريطانيون مع «الكتلة الدستورية» برئاسة بشارة الخوري الذي ساندوه في الاستقلال عن فرنسا عام 1943، وصولاً إلى دفعها للانسحاب الكامل في 1946، ليصبح الإنكليز أصحاب الكلمة الفصل في لبنان، واستمروا كذلك إلى عهد كميل شمعون الذي تحوّل ووقف إلى جانب المشروع الأميركي لمحاربة الشيوعية، فانضمّ إليه وكان يُعرف بـ«مشروع آيزنهاور» الذي أطلقه الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور، ليصبح شمعون حليف أميركا التي حلّت سياسياً مكان فرنسا وبريطانيا بعد أن أتت بأسطولها العسكري لحمايته عقب اندلاع معارضة سياسية ضده تحولت إلى مواجهات عسكرية، فلم يتمكّن من أن يحصل على التمديد لعهده، وخلفه قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الذي أوقف الاضطرابات الأمنية والمعارك العسكرية، بعد أن اتّفق الأميركيون على اسمه رئيساً للجمهورية مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي كان قد أصبح رئيساً للجمهورية العربية المتحدة بعد الوحدة المصرية–السورية، وبات له نفوذ في لبنان يشاركه فيه الأميركيون.
مشاريع ضد لبنان
النفوذ الأميركي في لبنان، بدأ يتبلور في منتصف الخمسينات، وقوبل بمعارضة داخلية من قوى لبنانية سياسية وحزبية رافضة للمشاريع الأميركية في المنطقة، والتي كان هدفها دعم «وجود وأمن إسرائيل»، وإقامة تحالفات تخدم مصالح واشنطن في الشرق الأوسط والعالم، وعلى رأسها منع التمدد الشيوعي وعرقلة أي مشروع قومي وحدوي وإسقاطه، لصالح بقاء الكيان الصهيوني.
وفي كل مشروع أميركي طرح للشرق الأوسط، كان لبنان ساحة أساسية لتنفيذه، فتجر البلاد إلى الاقتتال الداخلي في بحر التناقضات، وهذا ما حصل في العام 1958 مع مشروع آيزنهاور، ثم مع مشروع هنري كيسنجر للسلام في العام 1974، فانفجرت الحرب الأهلية، وحصلت معارك عسكرية بين «الجبهة اللبنانية» التي كانت تضم حزبي «الكتائب» و«الوطنيون الأحرار» وتنظيمات يمينية ومسيحية أخرى بمواجهة قوات «منظمة التحرير الفلسطينية» و«الحركة الوطنية اللبنانية».
ولم يتوقف الصراع الأهلي في لبنان، إلا بعد أن قرّر الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، إنهاء الحرب فيه، ليتفرّغ لحربه على العراق برئاسة صدام حسين، فتحالف مع سوريا وطلب منها إرساء السلام في لبنان، فنعم اللبنانيون بالاستقرار والنمو الاقتصادي حتى العام 2005، عندما وقع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخرج الجيش السوري على أثره بناء على القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 3 أيلول 2004، وبدأ الرئيس الأميركي جورج بوش الابن –وبعد احتلال العراق– دفع مشروعه لإقامة «شرق أوسط جديد»، يلاقي فيه مشروع رئيس الحكومة الإسرائيلية شيمون بيريز الذي سبقه إلى طرحه.
انحاز قسم من اللبنانيين إلى جانب مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي يرسم خارطة للمنطقة يؤمن وجود وأمن إسرائيل وينهي وجود سلاح المقاومة، ويقيم سلاماً وتطبيعاً للعلاقات مع إسرائيل.
وتمكّنت إدارة بوش الابن من حشد حلفائها في لبنان، بدءاً من «لقاء قرنة شهوان» عام 2000 –بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان– والذي انضمّ إليه وليد جنبلاط مفضلاً نموذج هونغ كونغ على نموذج هانوي، مطالباً بتجريد المقاومة من سلاحها، فكان الرد بأن سلاح المقاومة باقٍ حتى تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. كذلك لعب البطريرك الماروني نصرالله صفير دوراً محورياً في تكوين «لقاء قرنة شهوان» الذي كان يلقى دعماً أميركياً، ويرعاه سفير واشنطن في لبنان جيفري فيلتمان الذي جذب جنبلاط إلى هذا المشروع، وشجّعه على إقامة مصالحة في الجبل بين المسيحيين والدروز، يحضرها البطريرك صفير لطي صفحة الحرب، وهذا ما حصل في 2001، حيث بدأ رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» يتناغم مع الدور الأميركي بعد غزو العراق، ورأى أن الفرصة سانحة لإخراج الجيش السوري من لبنان، والذي عندما غادر آخر جندي سوري، أطلق جنبلاط شعاره «سامحت ولم أنسَ»، متهماً النظام السوري باغتيال والده كمال جنبلاط.
قوى «14 آذار»
أثمرت الجهود الأميركية بحشد القوى المناهضة لسوريا في لبنان، فيما كان العماد ميشال عون، يخوض من الخارج معركة سياسية لانسحاب القوات السورية، حيث كان مناصروه يتحركون في لبنان، رفضاً لـ«الاحتلال السوري»، كما كانوا يسمونه، فنجحت الإدارة الأميركية في أن تعزز جبهتها بحشد القوى الرافضة للوجود السوري، وقد انضمت إليها أطراف كانت على خصومة تاريخية مع «القوات اللبنانية» أو «العونيين»، حيث لعبت شخصيات يسارية دوراً في دعم الحراك السياسي المطالب بطرد القوات السورية من لبنان، بمواجهة قوى وطنية أخرى تدعو إلى بقائها والاعتراف بتضحياتها، فانقسم لبنان بين مؤيد ومعارض للوجود السوري، وارتفعت وتيرة التصعيد بعد التمديد للرئيس إميل لحود، الذي وقف ضده جنبلاط، وقبل به رفيق الحريري على مضض قبل اغتياله في 14 شباط 2005.
استغلت الإدارة الأميركية، الجريمة النكراء، وحرّكت حلفاءها للتظاهر والاعتصامات حتى استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي وطرد الرئيس لحود من القصر الجمهوري، لتقابلها جبهة «8 آذار» في ساحة رياض الصلح لشكر سوريا، فكان الرد من التيار «السيادي» في «14 آذار» بتظاهرة حاشدة تدعو لانسحاب الجيش السوري من لبنان، وقد أمّن السفير الأميركي الدعم المالي واللوجستي لقوى «14 آذار»، حيث اعترف فيلتمان في شهادته أمام الكونغرس بدفع 500 مليون دولار لهذه القوى لتشويه صورة «حزب الله» واتهامه مع ضباط «النظام الأمني اللبناني–السوري» بأنهم وراء اغتيال الحريري.
بومبيو: لا حلفاء
وبعد التطورات التي حصلت منذ عام 2005، بانهيار «مشروع الشرق الأوسط الكبير» وهزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب تموز وصولاً إلى اندلاع «الربيع العربي» وفشل محاولات إسقاط النظام في سوريا، تحركت الإدارة الأميركية الحالية برئاسة دونالد ترامب، نحو تصفية الصراع العربي–الإسرائيلي من خلال ما يعرف بـ«صفقة القرن» عبر اعتراف الرئيس الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم بالسيادة الإسرائيلية على الجولان في خطوات تهدف إلى ضرب محور المقاومة الذي يمثله «حزب الله» في لبنان.
وفي هذا السياق، أرادت الإدارة الأميركية مواجهة نفوذ «حزب الله» في لبنان، فكانت زيارات لكل من مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد هيل، ثم نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد ساترفيلد إلى لبنان، والاجتماع إلى حلفائهم فيه، تمهيداً لزيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، الذي كان تلقى تقارير مساعديه، بأنه لن يجد في لبنان حلفاء لأميركا، كما في السابق عندما استطاعت واشنطن تجميعهم ضد الوجود السوري. فهم لا يرغبون بالانتحار للتصدي لـ«حزب الله» فقد حاولوا سابقاً وفشلوا، فنأى جنبلاط بنفسه هذه المرة، بعد درس تعلمه في 7 أيار 2008، وغاب سمير جعجع عن إعلان موقف صريح، حتى أن زوجته ستريدا، فاجأت الجميع بإعلان موقف رافض من القرار الأميركي بشأن الجولان، في وقت أكّد فيه الحريري بأنه لن يدخل بمغامرة ضد «حزب الله» الممثل في الحكومة، وهو ما أعلنه رئيسا الجمهورية ومجلس النواب أيضاً.
عاد بومبيو إلى واشنطن وهو يدرك أنه لا حلفاء يمكنه الاعتماد عليهم في لبنان وقد سمع من حلفاء الأمس أن لا ول لهم ولا حول على إنتاج صراع أهلي جديد لاستهداف المقاومة التي باتت تعد جزءاً أساسياً من نسيج المجتمع اللبناني ومجلس النواب والحكومة والموقف الرسمي اللبناني.
Leave a Reply