الموفدون الاميركيون الى لبنان نذير شؤم عليه من كيسنجر الى ولش
جنبلاط قلق من سقوط مشروع بوش وحماية «ثورة الارز» فيتجه الى الحوار
بري وجنبلاط خلال لقائهما الأخير |
في كل مرة يأتي موفد اميركي الى لبنان، يتشاءم اللبنانيون من ان تطورات ما ستحصل في بلدهم، ويعود تاريخ ذلك الى منتصف السبعينات من القرن الماضي، مع زيارة وزير الخارجية الاميركية الاسبق هنري كيسنجر، الذي التقى فيها الرئيس الراحل سليمان فرنجية، وابلغه ان مشروعاً لتسوية سلمية للصراع العربي- الاسرائيلي، بدأ الاعداد له، وان مصر انور السادات ستنخرط فيه، مع دول عربية اخرى، ويقوم في احد بنوده على رفض حق العودة للفلسطينيين وتوطينهم حيث هم، وقابل فرنجية العرض برفض قاطع، بعد ان كان مثّل العرب في الامم المتحدة والقى كلمتهم في نهاية العام 1974، ودعا الى قيام دولة فلسطينية وعودة الفلسطينيين اليها، بعد هذا الخطاب من مسيحي ماروني، انفجرت الفتنة بين المنظمات الفلسطينية وحزب الكتائب، ودخل لبنان في حرب اهلية، كان الهدف منها تقسيمه، لتسهيل توطين الفلسطينيين، ووقعت اطراف لبنانية في الفخ الاميركي- الاسرائيلي، تحت عناوين شتى.
ومع اندلاع الاقتتال، جاء الموفد الاميركي دين براون في ربيع 1976 ليقول للمسيحيين، ان البواخر بانتظاركم، لمغادرة لبنان، وكان حضوره اشارة الى المخطط الاسرائيلي لتهجير المسيحيين.
وفي مطلع الثمانينات حضر المبعوث الاميركي فيليب حبيب، وكان قدومه ايذاناً للاجتياح الاسرائيلي في حزيران عام 1982، حيث وصلت قوات الاحتلال الى بيروت، بعد ثلاثة اشهر من بدء العدوان وتدمير المدن والقرى وقتل السكان وتهجيرهم، لا سيما في المخيمات الفلسطينية، وادى الغزو الصهيوني الى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت مع مقاتليها، ووصول حكم تابع للعدو الاسرائيلي برئاسة بشير الجميل الذي اغتيل قبل ان يتسلم الحكم فخلفه شقيقه امين، الذي راهن على الادارة الاميركية برئاسة رونالد ريغان التي اوقعت لبنان في حرب اهلية مدمرة، كانت حرب الجبل اقساها واعنفها قتلاً وتدميراً وتهجيراً.
وهكذا في ذاكرة اللبنانيين، ان مجيء موفد اميركي، يعني بالنسبة لهم، اشعال حرب او اذكاء فتنة، وهم لم ينسوا ايضاً احداث عام 1958 بين اللبنانيين، التي استدعت انزالاً للبحرية الاميركية (المارينز) من الاسطول السادس، لدعم حكم الرئيس كميل شمعون، وهو الانزال نفسه الذي حصل في العام 1982، عندما حضرت القوات الاطلسية الى الشواطىء اللبنانية، ومن بينها البحرية الاميركية لحماية امين الجميل ومنع سقوط حكمه على يد المعارضة انذاك، بعد تصاعد عمليات المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي، ومن ثم ضد القوات الاطلسية.
وفي 2006 حضرت وزير الخارجية الاميركية كونداليزا رايس، الى بيروت، والتقت رئيس الحكومة فؤاد السنيورة والنائبين وليد جنبلاط وسعد الحريري واعتذر منها السنيورة على صبرها لانه لم ينفذ وعده مع حلفائه في الحوار بنزع سلاح المقاومة، تطبيقاً للقرار 1559، وطالبتهم الاسراع في ذلك، والا فان اسرائيل ستقوم هي بالمهمة، وارتفعت في حينه الاصوات من داخل قوى 14 شباط تطالب «حزب الله» بتسليم سلاحه للدولة، وان يقبل بانتشار الجيش في الجنوب، وكان سمير جعجع صريحاً عندما كشف عن ان حوالى 25 الف عنصر من القوات الدولية سيأتون الى لبنان، لتنفيذ القرار الدولي.
واستمهل الفريق الحاكم رايس مزيداً من الوقت ريثما تنتهي طاولة الحوار في مجلس النواب، الى قرار حول سلاح المقاومة، لكن فترة السماح كانت بدأت تنفذ، وما ان قامت المقاومة بعملية اسر الجنديين الاسرائيلين، حتى نفذت اسرائيل القرار الاميركي بضرب مواقع المقاومة ومقراتها وتدمير المدن والقرى في الجنوب وصولاً الى الضاحية الجنوبية، وقطع كل الطرقات والجسور بتدميرها تحت حجة منع وصول السلاح الى المقاومة، لكن هذا العدوان فشل بعد ان اخبرت رايس حلفائها في لبنان عنه، واكدت لهم، انه سيكون منطلقاً لتغيير خارطة الشرق الاوسط، بانهاء المقاومة في لبنان، فيضطر النظام السوري الى تغيير سلوكه ويفك ارتباطه بايران التي ستضغف مع فقدان حلفاء لها يشكلون جبهات متقدمة لها في مواجهة اسرائيل، سواء في لبنان او فلسطين او سوريا، اضافة الى النفوذ الايراني في العراق، وحضوره داخل الحكم فيه.
الصيف الساخن الذي بشرت به رايس قبل وقوع العداون الاسرائيلي، هو ما عاد نائبها لشوؤن الشرق الادنى ديفيد ولش، الى ابلاغ اللبنانيين انه ينتظرهم من جديد، ولن يكون عندهم موسم سياحة، وقد المح الى ذلك من التقاهم من حلفائه في قوى 14 شباط اثناء زيارته الى لبنان للاحتفال بالذكرى 25 لتدمير السفارة الاميركية في بيروت بعملية انتحارية عام 1983، ان عليهم ان يصمدوا شهرين بانتظار تطورات عسكرية وامنية ستحصل، ستضعف المعارضة، وتحديداً «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» الذي وحسب الدبلوماسي الاميركي قسّم المسيحيين، وعطّل الانتخابات الرئاسية، ولا بدّ ان يدفع الثمن، كما دفعه في العام 1990، عندما تصدى لاتفاق الطائف ورفض ترك قصر بعبدا، لرئيس الجمهورية الياس الهراوي وقبله الرئيس رينه معوض، ومنع انتخابهما في مجلس النواب في بيروت، فانتخب معوض في القليعات شمال طرابلس، لكنه اغتيل بعد حوالى شهر، فجرى انتخاب الهراوي في شتورا قرب زحلة.
فالصيف الساخن الذي تحدث عنه ولش، وحاولت السفارة الاميركية التخفيف منه،واعطائه تبريرا وتفسيرا اخر له، يعكس حقيقة الموقف الاميركي من الازمة اللبنانية، التي ترفض الادارة الاميركية تسهيل حلها، وتعطيل كل المبادرات العربية والاجنبية، حيث كانت رايس صريحة وواضحة بابلاغ مسوؤلين اميركيين ان الوضع في لبنان سيبقى مجمداً وهو الان في حال «الستاتيكو»، فلا انتخابات رئاسية، وربما لا انتخابات نيابية في العام 2009، لان الوضع الحالي مع حكومة فؤاد السنيورة لا يزعج الوزيرة الاميركية، لان الانتخابات الرئاسية ستطيح بالسنيورة وحكومته، وهو بالنسبة للبيت الابيض من ضمن المشروع الاميركي والامن القومي الاميركي، ولا يمكن التفريط به، وكذلك مجلس النواب الحالي، حيث الاكثرية فيه تدين بالولاء لهذا المشروع، وان اي حل للازمة وفق المبادرة العربية، سيطيح بالحكومة وان اجراء الانتخابات على اساس قانون 1960، سيعطي المعارضة الاغلبية، ويمكنها عندها تشكيل الحكومة برئاسة شخص من المعارضة.
لهذه الاسباب عملت وما زالت الادارة الاميركية على تفشيل الحوار بين اللبنانيين والتوافق فيما بينهم، ووضعهم في مواجهة بعضهم وتحريضهم على بعضهم حتى لو ادى ذلك الى اقتتالهم ، وقد حضر ولش في كانون الاول من نهاية العام الماضي وافشل اتفاقاً كان توصل اليه وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير بين المعارضة ممثلة بالرئيس بري والموالاة ممثلة بسعد الحريري، ويقضي ان ينتخب العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية وتشكل حكومة على اساس النسب للكتل النيابية التي تتمثل فيها كل منهما، واقرار قانون للانتخاب.
وطلب ولش من فريقه اللبناني الانتظار قليلاً، وعدم التنازل امام المعارضة، مما يعني عودة النفوذ السوري والايراني الى لبنان، وقد وعدهم في حينه ان المحكمة الدولية باغتيال الحريري قادمة، وتم تأمين تمويلها، وهي ستطال سوريا وحلفائها في لبنان، وعندها لستم بحاجة لمشاركة المعارضة في الحكومة، لان قادتها سيكونون امام المحكمة الدولية، وتم في ذلك الوقت تسريب اسماء من قد تستدعيهم المحكمة وهم الرئيس عمر كرامي والوزراء السابقون سليمان فرنجية، ايلي الفرزلي، عبد الرحيم مراد، وئام وهاب، اضافة الى النائب السابق ناصر قنديل، مع عديد من شخصيات سياسية وحزبية وامنية.
اما الوعد الجديد الذي طرحه المبعوث الاميركي على حلفائه، فهو الصيف الحار او الساخن الذي سينهي المعارضة سواء من خلال ضرب اركانها، وخلق صدامات معها وقد بدأت بحرب الغاء سياسية وشعبية ضد «التيارالوطني الحر» الذي يرأسه العماد ميشال عون، بحملة سياسية واعلامية وتحريض شعبي، برزت في الموقف الذي اتخذه النائب ميشال المر واعلان انفصاله عن «تكتل التغيير والاصلاح»، والقيام بتعبئة شعبية للضغط على نواب هذا التكتل لانتخاب العماد سليمان، واظهار عون انه هو من يشجع على ابقاء موقع رئاسة الجمهورية شاغراً، وتحميله المسوؤلية امام الموارنة انه يفرط به، بالرغم من انه تنازل عن ترشيحه هو للرئاسة التي له حق فيها، لانه يمثل اكبر كتلة مسيحية وله تحالفات مع كتل اخرى، اضافة الى ان تياره الاقوى شعبياً في الساحة المسيحية، ومع ذلك اعلن انه مع ترشيح سليمان.
لكن ما طرحه الموفد الاميركي على حلفائه وهو الصمود، تبين لبعض منهم، ان الادارة الاميركية تستخدمهم من اجل اهداف لها علاقة بها وبمصالحها في المنطقة ووجودها في العراق وفلسطين، واصبحوا رهينة لادارة فشلت في اكثر من منطقة، وهي على شفير الرحيل، وقد لا تقدم لهم شيئاً، وقد استكشف ذلك النائب جنبلاط، الذي تجاوب مع دعوة بري الى الحوار، بعد ان اعلن الاخير ان المعارضة ليست متمسكة بشروطها للحكومة، بل هي تريد «اعلان نوايا» حول قانون الانتخاب على اساس قانون 1960، وهو مطلب مسيحي، كان يطرحه البطريرك نصرالله صفير، وكان يوافقه عليه الرئيس رفيق الحريري، الذي اكد سعد الحريري انه ابلغ صفير انه يوافق عليه ايضا، كما ان جنبلاط لا يعارضه، وقد اخرجه للعمل به الوزير سليمان فرنجية قبل ثلاث سنوات عندما كان وزيراً للداخلية في حكومة عمر كرامي، وعاد الى طرحه ولا يعترض عليه العماد عون، وقبل به بري كمخرج للحل، ويطرحه كبند على طاولة الحوار، للاتفاق عليه، كمدخل لانتخابات رئاسة الجمهورية، بحيث لا تصبح الحكومة عقبة، لانها ستكون حكومة تشرف على انتخابات، ويترك لرئيس الجمهورية الجديد امر تشكيلها، كحكومة حيادية.
هذا الاقتراح لرئيس مجلس النواب، لقي معارضة من جعجع وصمت من الحريري، حيث سيحاول جنبلاط اقناعهما القبول بالحوار وكذلك بقانون الانتخاب، لانه حل معقول كتسوية، لان البديل هو استمرار الفراغ في كل السلطات، مما سينعكس سلباً على الواقع الدستوري والسياسي، وتدخل البلاد في المجهول، حيث بدا جنبلاط قلقاً من ان المشروع الاميركي الذي يتهاوى في المنطقة، قد يطيح بـ«ثورة الارز» اذا ما فقدت حليفها الاميركي، ولا بدّ من الخروج من الازمة، بأقل الخسائر الممكنة، وان الفريق الحاكم عليه ان يقبل بالحل وتقديم التنازلات، بعد ان تراجعت المعارضة عن مطالبها للحكومة، وعلى الموالاة ان تقابلها بقانون انتخاب على اساس قانون 1960، وهو كان مطلبها.
وهذا التحول في موقف جنبلاط والمرونة التي يبديها، هي نتيجة لعدة عوامل منها: بقاء النظام السوري، وعدم سقوط الرئيس بشار الاسد كما كان يخبره عبدالحليم خدام وبعض اطراف المعارضة السورية، ولم تنجح عملية عزله ومحاصرته، وانعقدت القمة العربية في دمشق بنجاح كبير، والتي تزورها شخصيات عالمية واقليمية وعربية تعترف بوزنها ودورها في العالم العربي ، في الوقت الذي تسجل قوى المقاومة والممانعة انتصارات من لبنان الى فلسطين والعراق، وصعود التأثير السوري في المعادلة العربية، وتأكيد دور ايران الاقليمي.
ويقال ان زيارة ولش الى لبنان، كانت بهدف اقناع جنبلاط التراجع عن تأييد الحوار، لكنه لم ينجح كما في المرة السابقة، اذ طرح عليه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، سؤالاً حول ماذا تستطيع اميركا ان تقدم لحلفائها وهي تدعوهم الى الصمود، في الوقت الذي كان ولش يحدثهم عن ان المعارضة قوية وكذلك المقاومة، حيث تبين ان المبعوث الاميركي يريد تقطيع الوقت لمعرفة نتائج اجتماعات دول جوار العراق، وما ستقدمه سوريا وايران لأميركا في بلاد الرافدين، حيث تصاعدت عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال الاميركي، وارتفعت خسائرها الى ما بعد اربعة الاف قتيل.
ولم يتمكن «الوصي الاميركي» من تقديم اي شيئ جديد لحلفائه، وهو ما ترك السنيورة يقول، لم نحصل على اي اختراق لحل الأزمة، ولكن «الستاتيكو» الذي تحدثت عنه رايس انه مستمر، هو لا يزعج رئيس الحكومة.
لذلك فان اصرار الرئيس بري على الحوار والاتفاق السياسي قبل الانتخابات الرئاسية، قد يسلك طريقه، بعد ان اعلن ان موعد الجلسة الجديدة لانتخابات الرئاسة مرتبط بالحوار الذي لا خيار امام اللبنانيين غيره، وانه كما قدمت المعارضة التنازل عن مرشحها ميشال عون وفعلت ايضاً الموالاة بالتخلي عن مرشحيها نسيب لحود وبطرس حرب، فان الصيغة الجديدة التي يتوقع بري ان تسلك طريقها، هي مقايضة انتخابات الرئاسة بقانون الانتخاب، وترك الحكومة للعهد الجديد.
لكن ما يخشاه بري هو منع «لبننة الحل»، حيث عاد التدويل يتقدم، بعد اسقاط واشنطن للتعريب، وللولوج الى تدويل الازمة، حصل في الكويت على هامش مؤتمر دول الجوار في اثناء ما سمي اجتماع اصدقاء لبنان اقصيت عنه سوريا وايران، والذي كان بناء لاقتراح من تيري رود لارسن المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559، والذي طالب بعقد مؤتمر دولي حول لبنان ووضعه تحت الوصاية الدولية بعد ان بدأ الانهيار والفراغ يضرب سلطاته ومؤساسته وقد يكون عبر تسخين الوضع اللبناني بتفجيره داخلياً، او بشن عدوان اسرائيلي جديد، لتعديل القرار 1701، بإتجاه الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة، تحت عنوان منع استمرار تدفق السلاح للمقاومة، وهو ما ذكره رود لارسن في تقريره الى الامين العام للامم المتحدة حول تطبيق القرار 1559.
Leave a Reply