نبيل هيثم
يبدو ان الولايات المتحدة الاميركية قد حسمت قرارها بتشكيل التحالف الاقليمي- الدولي ضد تنظيم «داعش»، وفقاً لما أكده الرئيس باراك اوباما ووزير خارجيته جون كيري، ووزير دفاعه تشاك هايغل، وكبار المسؤولين في الإدارة الأميركية.
انطلاقاً من هذا القرار، يبدو ان كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين الأميركيين قد شرعوا في وضع اللبنات الأولى على الاستراتيجية الضرورية لمحاربة التنظيم المتشدد، الذي راح ضحيته مئات الآلاف، من قتلى وجرحى ومهجرين.
الخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية، التي ما زالت في طور التكوين الجنيني، يمكن استخلاص الجانب العسكري من خطابات أوباما، وكذلك من المؤتمر الصحافي لهايغل ورئيس الأركان مارتن ديمبسي، التي تعكس توجهاً في خوض معركة طويلة الأمد مع «داعش»، لا تقتصر على العراق، فحسب، وانما تشمل سوريا، وهو توجه موضوعي، أقله من الناحية الشكلية، بالنظر إلى ان «الدولة الإسلامية» باتت قائمة بحكم الأمر الواقع على رقعة جغرافية تمتد من حلب غرباً، مروراً بالرقة ودير الزور في سوريا، والأنبار والموصل في العراق، وصولاً إلى أطراف بغداد واربيل، فيما تلامس لبنان، سواء من ناحية عرسال – القلمون، او ربما تشمله، في ظل ما يحكى عن وجود بيئة حاضنة في عكار.
ويبدو ان الركائز الاولية للمقاربة العسكرية التي تشكل صلب الاستراتيجية ضد «داعش» قد اقيمت فعلاً، من خلال الضربات الجوية التي شنتها الطائرات الحربية الأميركية ضد مواقع التنظيم المتشدد على تخوم اقليم كردستان، والتي مكّنت الجيش العراقي وقوات «البشمركة» الكردية من استعادة السيطرة على بعض المناطق في المحافظات العراقية الشمالية.
ومن المؤكد ان هذه الركيزة العسكرية التي ستقوم عليها الاستراتيجية الشاملة ضد «داعش» ستبنى على ما تحقق حتى الآن، فيما تبقى مسائل تقنية أخرى تنتظر الحسم :
– أولى تلك المسائل، تحديد شكل التدخل العسكري المطلوب (هل يتم الاكتفاء بضربات جوية، ام ان المعركة الكبرى تتطلب تدخلاً برياً واسعاً أو ربما عمليات خاصة؟)، وهو امر يفترض انه يستحوذ حالياً على اهتمام كبار القادة والمخططين العسكريين، الذين يعكفون على دراسة الخطط الميدانية، والمخاطر المحتملة لأي من الخيارات المطروحة.
– ثاني تلك المسائل، وهنا بيت القصيد، يتعلق بتحديد سبل التعاون العسكري والاستخباراتي مع الدول المنخرطة في هذا التحالف. وفي هذا الإطار، تبرز عقدتان، وهما سبل التعاون مع النظام السوري، في ظل معارضة أوروبية قوية لهذا الاتجاه، واصرار كبير لدى الإدارة الاميركية على انه «لا يمكن التعاون مع نظام مجرم»، على حد وصف العديد من المسؤولين الأميركيين. ويبدو ان اوباما قد حسم هذا الجدل، حين قال إنه لا توجد حاجة للتعاون مع دمشق، بالنظر إلى ان «داعش» يسيطر على مناطق خرجت اصلاً من سيطرة الجيش السوري – وآخرها مطار الطبقة – فيما تتحدث تقارير اعلامية، نقلاً عن مصادر استخباراتية، بأن ثمة إمكانية لتعاون غير مباشر بين واشنطن ودمشق عبر قنوات عدّة، من بينها روسيا.
أمّا الركيزة الثانية، لهذا التحالف الدولي، فتقوم على تأمين الحشد السياسي للمعركة ضد «الدولة الإسلامية»، من خلال حراك ديبلوماسي يقوده جون كيري وتشاك هايغل على خط بروكسل – الخليج، حيث يسعى الوزيران الاميركيان إلى تقديم إجابات واضحة للحلفاء الأطلسيين من جهة (خصوصاً ان الرؤية الأوروبية تجاه التحالف الجديد لم تنقشع بعد)، ومن ثم تأمين التوافق السياسي بين الأنظمة العربية من جهة (وقد مهّد الخليجيون لذلك فعلاً من خلال لملمة الأزمة السعودية- القطرية خلال الاجتماع الأخيرة لمجلس التعاون)، وبين تلك الأنظمة والجمهورية الإسلامية في إيران، التي بات مؤكداً ان دحر «داعش» (أو تحجيمه وفقاً للرؤية الأوروبية القائمة حالياً) لا يمكن ان يتم من دونها. وفيما يتوقع ان يخوض الوزيران الأميركيان مفاوضات ماراثونية مضنية وشاقة لاحتواء التناقضات السياسية القائمة، في ظل ارتفاع منسوب الصراعات والاصطفافات الاقليمية، يبدو ان كافة الإشكاليات السياسية، وايضاً العسكرية، تلتقي عند عقدة صعبة – لا بل يتوقع البعض ان تكون صعبة ومستعصية – وهي العقدة التركية، خصوصاً مع بدء الولاية الرئاسية لرجب طيب اردوغان، الذي ما زالت مواقفه إزاء ما يجري موضع ارتياب لدى الصديق قبل العدو!
ويستند هذا الارتياب الى منطلقات ايديولوجية تضاعف الشكوك في العلاقة او التقاطع بين «داعش» ونظام «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي، ولعل ابرز من عبر عن ذلك مؤخراً هو القيادي في «حزب السعادة» الإسلامي التركي محمد بكار، حين قال في حوار صحافي، إن «داعش» و«العدالة والتنمية» يتقاسمان ذهنية واحدة، معتبراً انهما لا يختلفان إلا بالأسلوب، سواء في شكل التسلّط، او في طريقة فرض التديّن على المجتمع.
ورب قائل بأن الأيديولوجيا لم تعد المحرّك للسياسات في عصرنا هذا، وبأن البراغماتية باتت اليوم العامل المحدد لسياسات الدول، والركيزة الاساسية لحماية مصالحها وتحقيق مطامحها. لعلّ هذا الرأي يبدو صحيحاً، ولكن إذا ما تم التسليم جدلاً به، فإن نظرة معمّقة للسياسات التركية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تظهر ان ثمة تقاطعاً واضحاً مع «داعش»، في محطات ومفاصل عدّة، منها السياسي والاقتصادي.
قبل نحو عام، كانت وسائل الإعلام التابعة لـ«حزب العمال الكردستاني»، تحفل بأخبار وتقارير عن تعاون ميداني (لوجستي وعسكري) بين تركيا والمتشددين، وقد برز ذلك جلياً خلال معركة رأس العين (سريه كانيه) في شمال شرق سوريا، حين سهلت تركيا لما يعرف للتكفيريين مهاجمة قوات الحماية الكردية في تلك المنطقة، عبر بوابة العبور الحدودية.
ثم راح القياديون الأكراد، داخل تركيا وخارجها، يتحدثون عن معلومات مفصلة في هذا السياق، وابرزها تقرير عرضه رئيس بلدية ماردين النائب الكردي أحمد تورك أمام سفير الاتحاد الأوروبي في تركيا ومجموعة من الصحافيين، وكان موثقاً ومدعوماً بالأدلة الدامغة من صور وأشرطة فيديو عن الدعم الرسمي الذي تقدمه تركيا لتنظيم «داعش»، ومنها تنقل أفراد منه يرتدون البزة العسكرية التركية، ويستقلون الآليات العسكرية
التركية داخل البلاد، ناهيك عن لقاءات بين قياديين من «حزب العدالة والتنمية» مع مقاتلين من «داعش».
وإذا كان البعض قد شكك بمعلومات الأكراد، بالنظر إلى العداوة القائمة بينهم وبين انقرة، فإنّ الحديث عن الدعم التركي لـ«داعش» بات مدعّماً خلال الفترة الأخيرة، بمجموعة تقارير تحفل بها وسائل الإعلام الغربية، وحتى التركية، من بينها، تحقيق استقصائي لقناة «اي آر دي» الألمانية حول وجود معسكر تدريب لـ«داعش» في مدينة غازي عينتاب التركية، وبأن التنظيم المتشدد يدير عملياته من مكتب في اسطنبول. وكان آخر تلك التقارير ما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» عشية صدور قرار مجلس الامن الدولي بفرض عقوبات على «داعش» و«النصرة»، حيث نقلت عن مسؤول «داعشي» يدعى أبو يوسف أن مقاتلي التنظيم يعالجون في مستشفيات تركيا، وان السلطات التركية تقدم لهم التسهيلات المختلفة.
ولم يعد يخفى على احد مدى استفادة تركيا اقتصادياً من سيطرة «داعش» على الحقول النفطية في سوريا والعراق، فقد باتت تركيا سوقاً سوداء تستورد النفط «الداعشي» بكميات كبيرة، وبأسعار زهيدة، لتعيد بيعها مجدداً بأسعار السوق العالمية.
ولعلّ ذلك يفسر الموقف التركي الملتبس من «غزوة داعش» للعراق، ورد الفعل الفاتر إزاء الضربات الجوية الأميركية، وهو ما سينسحب حكماً على التحالف الدولي المزمع تشكيله.
ولا بد من الإشارة هنا إلى موقف وزير الخارجية التركي (رئيس الوزراء حالياً) احمد داود اوغلو من اجتياح التكفيريين لمناطق واسعة في العراق، حين برر ذلك بالقول إنه «لو لم يستبعد السنة في العراق لما ظهر كل هذا الغضب»، ومؤخراً حديث وزير الدفاع عصمت يلمظ حين قال إن «تركيا لم تقدّم اي دعم للعملية العسكرية الأميركية» في العراق… الخ.
برغم كل ذلك، يبقى انخراط تركيا في التحالف الدولي المرتقب ركناً أساسياً، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، انطلاقاً من الحاجة إلى طرف مسلم سنّي له نفوذه وامتداداته في الداخل العراقي، وهذا ما لا يمكن لدول سنية اخرى في المنطقة ان تقدمه، لاعتبارات جغرافية وسياسية… ومن الطبيعي أن حكومة رجب اردوغان تدرك هذ الواقع تماماً، واذا ما اعتمد الأخير مقاربة براغماتية ازاء التحولات الجارية في المنطقة، وهو امر متوقع حدوثه، فإن الحراك الديبلوماسي الاميركي تجاه انقرة سيكون تحت عنوان «المقايضة»… ولكن ما الثمن الذي سيدفعه الغربيون للسلطان العثماني الجديد؟ من المؤكد أن هذا الثمن سيكون كبيراً!
«داعش» في خدمة تركيا !
ثمة مصالح عدّة تتقاطع عندها تركيا وتنظيم «داعش»، وهي تقوم في الأساس على الطموحات الاقليمية «حزب العدالة والتنمية»، الذي اجرى تبديلاً واضحاً في سياساته منذ اهتزاز مشروع «أخونة» المنطقة العربية بعد «ثورة 30 يونيو» في مصر، وتراجع نفوذ «حركة النهضة» في تونس، والتحولات الميدانية التي شهدتها سوريا خلال الأشهر الماضية.
ويمكن رصد معالم التحوّل في السياسة التركية من خلال تبديل تحالفاتها مع المجموعات المسلحة في سوريا، حيث دعمت بداية «الجيش السوري الحر»، ثم انتقلت إلى دعم «جبهة النصرة»، واليوم «داعش».
ولعل التقاطعات المنطقية بين تركيا و«داعش» تتلخص في نقاط سبع هي:
– النقطة الاولى، حليف اسلامي: بعد سقوط نظام «الإخوان المسلمين» في مصر، بما مثله ذلك من تصدّع للركيزة الثانية التي يستند إليها مشروع اردوغان، باتت تركيا تبحث عن طرف يمكن التعويل عليه، خصوصاً بعدما باتت في حال من العزلة الاقليمية، وكان من الطبيعي ان تلجأ الى طرف اسلامي قوي على الأرض، تمثل بداية في «جبهة النصرة»، ثم في «داعش» الذي بات الأقوى مقارنة بالتنظيمات الاسلامية الاخرى ذات الارتباط الوثيق بأنظمة اخرى (خليجية).
– النقطة الثانية، الصراع ضد الاكراد: قبل سقوط نظام «الإخوان» في مصر كانت المؤشرات تدل على ان الدعم التركي للإسلاميين يستهدف بشكل خاص قطع الطريق امام قيام شكل من اشكال الإدارة الذاية للأكراد على الحدود التركية – السورية، وهو ما دفع بأنقرة الى تسهل هجمات الإسلاميين على المناطق الكردية… اليوم بات يمكن لتركيا أن تستفيد من الخطر «الداعشي» للضغط على الأكراد على امتداد مناطق كردستان العراق وكردستان الغربية (شمال سوريا).
– النقطة الثالثة، اسقاط النظام في سوريا: لم يعد يخفى على احد أن اردوغان، ومنذ العام 2011، قد وضع نصب عينيه ازاحة طرف اقليمي قوي، لتمكين مشروع «اخونة» المنطقة العربية، فجعل اسقاط نظام الرئيس بشار الأسد معركته الاساسية، وهو ما تبدّى في الدعم الذي قدمه منذ بداية الأزمة السورية للمجموعات المسحلة، ناهيك عن المواقف النارية ضد دمشق في اكثر من مناسبة.
– النقطة الرابعة، العدو الشيعي المشترك: برغم الانفتاح الديبلوماسي بين ايران وتركيا منذ وصول الرئيس الايراني حسن روحاني الى الحكم، إلا ان الرؤية التركية للصراع في المنطقة لم تتحرر من الثنائية السنية-الشيعية، فمن أفضل من تنظيم تكفيري متشدد مثل «داعش» يخوض نيابة عن تركيا (السنية) يصارع مصالح إيران (الشيعية) في العراق وسوريا؟ وهل ثمة خيار أفضل من اقامة دولة سنية في الانبار ونينوى تقطع اوصال «الهلال الشيعي»؟!
– النقطة الخامسة، منطقة نفوذ في العراق: لم تخف تركيا رغبتها في اسقاط حكومة نوري المالكي، لا بل عملت مباشرة على ترتيب انقلاب في بغداد عبر نائب الرئيس السابق طارق الهاشمي. وكان واضحاً منذ فشل هذه المحاولة الانقلابية ان انقرة راحت تبحدث عن بدائل لذلك. وليس مصادفة ان المالكي كان اول الضحايا السياسيين لـ«غزوة داعش» للموصل.
– النقطة السادسة، الأطماع التاريخية: من اهم نتائج الاتفاقية البريطانية – العراقية للعام 1926 هي خروج محافظة الموصل عن السيطرة التركية. هذه الواقعة ما زالت ماثلة في الوعي التركي، وهو ما عكسه الرئيس السابق عبد الله غول حين قال في العام 2007: «لقد أعطينا الموصل في العام 1926 إلى عراق موحد، ونحن الآن نريد عراقاً موحداً». اما وأن غزوة «داعش» تنذر بتقسيم العراق، فإن ذلك يعيد الاطماع التركية ازاء هذه المنطقة العراقية الى الواجهة.
– النقطة السابعة، المساومة مع الغرب: يبدو منطقياً القول ان دعم تركيا قوة مثل «داعش»، بغرض تضخيمه ليصبح مصدر تهديد مباشر على المستويين الاقليمي والدولي، يمثل استثماراً سياسياً ناجحاً يمكن لتركيا ان تستغله لتأمين مكاسب هائلة في إطار اي ترتيبات اميركية تستهدف درء هذا الخطر المتنامي.
Leave a Reply