نبيل هيثم – «صدى الوطن»
الصراع الأميركي–الروسي يتجاوز الميدان السوري. هذا ما اظهرته سلسلة المواقف والتصريحات الصادرة من واشنطن وموسكو، بعد إجهاض اتفاق الهدنة الذي توصل اليه وزيرا خارجية البلدين، سيرغي لافروف وجون كيري، بتدخل واضح من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
سيرغي لافروف وجون كيري(رويترز) |
الاجراءات المتبادلة التي اتخذتها كل من القيادتين السياسية والعسكرية في روسيا والولايات المتحدة، بما يشمل قطع الاتصالات العسكرية والسياسية من جهة، ووقف العمل بالعديد من الاتفاقات الثنائية التي شكلت إحدى علامات انتهاء الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، اظهرت أن ثمة حرباً باردة جديدة لا تدور رحاها في الميدان السوري فحسب، وانما على «رقعة الشطرنج الكبرى» في أوراسيا.
الحرب الباردة الجديدة ليست وليدة الصراع السوري، وإن كان هذا الصراع في صلبها، فهي بدأت منذ نجحت روسيا في استعادة حضورها الفعال على الحلبة السياسية الدولية، مع بعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين الى الحكم مطلع الألفية، وما استتبع ذلك من طي لفترة الانكفاء الذي عرفته السياسة الخارجية الروسية أيام الرئيس بوريس يلتسين.
رقعة الصراع
هذا الصراع المتجدد، والمرشح لمزيد من التصاعد، باتت ميادينه واضحة، بدءاً بأفغانستان وآسيا الوسطى، مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى أوروبا وتحديداً أوكرانيا، وفيه صراع على السيطرة الجيوستراتيجية، ومساع لاجتذاب هذا الحليف أو ذاك، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتبدى ذلك على وجه الخصوص في التجاذب الكبير بين روسيا والولايات المتحدة على كل من إيران وتركيا.
ولعل نظرة شاملة لخريطة توزيع النفوذ الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة، وبدرجة أقل النفوذ الاقليمي لهذا الطرف أو ذاك، تظهر طبيعة الصراع الدائر في سوريا، وما حققته الحملة العسكرية الروسية خلال العام الماضي، في السياق الجيوستراتيجي نفسه.
ولا شك أن محور أهداف «اللعبة الكبرى»، هي أوروبا، التي سعت الولايات المتحدة الى السيطرة عليها بالكامل منذ انهيار حلف وارسو، غير أن روسيا الجديدة -بقيادة بوتين- تمكنت عبر السنوات الماضية من الحفاظ على نفوذها في القارة العجوز اعتماداً على سلاح النفط والغاز الذي لا غنى لأوروبا عنه مع غياب البدائل. وفي هذا السياق يمكن فهم الصراع الأميركي-الروسي في منطقتي الشرق الأوسط وبحر قزوين، اللتين تعدّان أكبر مصدر للطاقة في العالم.
أما سوريا والعراق، فتعدّان ممراً أساسياً لإمدادات الطاقة البديلة التي حاول الأميركيون توفيرها لأوروبا من دول الخليج وحوض بحر قزوين، وتكمن أهمية هذين البلدين اللذين يعانيان منذ سنوات من القتل والدمار في كونهما أقصر الطرق لتصدير النفط والغاز الطبيعي من إيران والسعودية وقطر نحو تركيا، ومنها إلى أوروبا، مما كان سيجرد النفط والغاز الروسي من قوة الردع الاستراتيجي ويحولهما الى مجرد سلعة بالنسبة الى أوروبا مع توفر البدائل.
معادلة الطاقة هذه تفسّر أسباب الصراع الدولي القائم حالياً، والهادف في الأساس للسيطرة على خطوط النفط والغاز، وتقويض قدرة روسيا على الإمساك بسوق الطاقة في أوروبا.
وانطلاقاً من ذلك، كان سعي الولايات المتحدة للسيطرة على العراق وسوريا، والذي كان يستهدف بالأساس ضرب الاقتصاد الروسي. وانطلاقاً من هنا ايضاً، يأتي التدخل الروسي في سوريا لضرب هذا المخطط الأميركي.
العقدة السورية
ويبدو أن موسكو قد باتت مدركة أن واشنطن وضعت نصب اعينها تقويض القدرة الاقتصادية الدولية لروسيا، وبطبيعة الحال الصين، من خلال احتلال أفغانستان، وبعدها العراق، ومن ثم إثارة محاولة إسقاط سوريا.
وإذا كان الصراع الحالي مرتبطاً أساساً بالجغرافيا السياسية والتنافس على امدادات الطاقة، فيمكن عندها فهم أهمية التنافس الحاد بين روسيا والولايات المتحدة على سوريا، التي تشكل عقدة تقاطع لأنابيب الغاز، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى تركيا، ولذلك تستعر الأزمة السورية، التي تدفع الطرفين الروسي والأميركي الى ذروة التوتر، خلافاً لما حصل خلال معركة إسقاط ليبيا، التي كان الهدف منها أيضاً قطع الطريق أمام روسيا، بعد الاتفاقات التي أجرتها واشنطن مع كل من نيجيريا والجزائر، لتصدير النفط والغاز الطبيعي من أفريقيا إلى أوروبا، عبر بوابة إيطاليا.
ومن خلال الأحداث يمكن قراءة الأهداف الاستراتيجية لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، والتي تتمثل في حماية قدرتها الردعية (الطاقة)، وضرب الجماعات الإرهابية لضمان الأمن القومي الروسي، وإقامة محور استراتيجي حليف يمتد من ايران ومنطقة بحر قزوين الى الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
ومن المعروف ان إكمال مشروع أوراسيا في القارة الآسيوية، يحتاج إلى احكام السيطرة على على بوابة آسيا الغربية، أي الساحل السوري، الذي هو بوابة طريق الحرير، ونقطة تقاطع طرق الغاز إلى أوروبا، علاوة على ان عمليات المسح الجيولوجي في شرق البحر المتوسط أظهرت أن هذه المنطقة غنية جداً بمصادر الطاقة، وهذا الأمر يدفع روسيا إلى الحفاظ على نفوذها الاقليمي، لدرء الخطر الأميركي.
وعلاوة على الموضوع الاقتصادي (الطاقة)، فإن السياسة الروسية تهدف الى حماية نفسها من الجماعات الإرهابية المتشددة، التي تفيد تقارير استخباراتية روسية وغربية بأنها تستعد لنقل نشاطها تدريجياً باتجاه القوقاز وآسيا الوسطى، وايضاً في العمق الروسي. ومن هنا، يمكن فهم جدية روسيا في ضرب تلك الجماعات التفكيرية، مقارنة بالولايات المتحدة، ومن خلفها السعودية، الراغبتين في استخدام هذا السلاح التفكيري لتنفيذ مصالحهما في المنطقة.
وليست مصادفة أن يأتي التصعيد الأميركي الأخير تجاه روسيا تزامناً مع الذكرى الأولى للتدخل الروسي في سوريا، الذي حقق اهدافه الأولية، واهمها نجاح فلاديمير بوتين في استدراج الرئيس باراك أوباما للبدء في تسوية الملفات التي شكلت قضايا خلافية كبرى بين روسيا والولايات المتحد (أوكرنيا، العقوبات الاقتصادية، الدرع الصاروخي في أوروبا، القواعد العسكرية الأميركية في آسيا الوسطى، ملف الإرهاب… ألخ).
ومع دخول العملية الروسية في سوريا عامها الثاني، فإن مسار هذا التدخل لا يزال يسير في سياق الأهداف الكبرى التي حددها بوتين، والمرتبطة أساساً في تهيئة محور جيو-استراتيجي يمتد من قزوين الى المتوسط، والذي تبدّت ملامحه الأولى في استخدام روسيا لصواريخ «كاليبر» التي انطلقت من منطقة قزوين، وأصابت اهدافها بدقة في الرقة وادلب وحلب، والتي كانت رسالة واضحة للأميركيين مفادها أن هذا المحور سيكون نقطة الامداد الى قاعدة حميميم، في حال الاصطدام مع الحلف الاطلسي وتركيا، وما يترتب عن ذلك من احتمالات، من بينها إقفال مضيقي البوسفور والدردنيل.
أوراق أميركية
وإذا كانت روسيا حتى الآن قد قطعت أشواطاً كبيرة في تحقيق الاهداف الكبرى، فإن المحور الآخر (الولايات المتحدة وحلفاؤها) ما زال يمتلك أوراقاً كثيرة، أبرزها الجماعات التكفيرية، وفي مقدمتها «جبهة النصرة»، التي تحاول أميركا تعويمها، بعد احتراق ورقة «داعش»، وذلك بهدف دفع روسيا نحو حرب استنزاف، كما حدث في أفغانستان، بعد التدخل السوفياتي، وإن كان من الصعب اليوم استنساخ التجربة الأفغانية، لأسباب سياسية وعسكرية عدّة.
على هذا الاساس، يأتي احتدام الصراع الأميركي-الروسي، على أكثر من جبهة. وعلى هذا الأساس أيضاً يبدو الحل السوري بعيداً، إذ هو معلق على اتفاق شامل بين الولايات المتحدة وروسيا بما يشمل كافة الملفات الدولية، ولا يقتصر على تفاهمات صغيرة.
وإذا كان الصراع الروسي–الأميركي على سوريا مرشحاً لمزيد من التصاعد، فإن الصراع بين القطبين الدوليين على التحالفات الشرق أوسطية لن يكون أقل حدّة، وهذه التحالفات تبقى مرتبطة أساساً بخيارات تركيا، باعتبارها المفصل الأساسي، بالنظر إلى موقعها الجيو-استراتيجي، وهو ما يفسر تذبذب الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يناور بين روسيا والولايات المتحدة، للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية وتثبيت حكمه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة.
غير أن حسم تركيا لموقفها، عبر انضمامها الى المحور الروسي-الإيراني، الذي تعمّد عسكرياً هذا الصيف بفتح إيران لقاعدة همدان أمام المقاتلات الروسية الاستراتيجية، ستكون روسيا قد حسمت بالضربة القاضية المعركة الكبرى في الشرق الأوسط لصالحها.
وأما الطرف الآخر، الذي كان الأكثر تأثيراً في المشهد الاقليمي، حتى الأمس القريب، أي السعودية، فيبدو خارج المشهد المقبل، فالمملكة النفطية تواجه أزمة كبيرة بعد حربها في اليمن وتدخلاتها في سوريا، فضلاً عن انخراطها في حرب نفطية، مدعومة أميركياً للتضييق على روسيا وإيران.
Leave a Reply