نبيل هيثم
«روسيا ستدعم التحالف الدولي ضد داعش إذا كان تحت راية الأمم المتحدة وبمشاركة إيران وسوريا».
هكذا حسم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف موقف القيادة الروسية من الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام»، فـي خضم التحضير لتشكيل «التحالف الدولي» الجديد ضد الارهاب.
ما قاله لافروف فـي الخامس عشر من ايلول فتح المجال امام تأويلات عدّة، دفعت بعض المحللين الى القول ان روسيا تقترب من الانضمام إلى «التحالف الدولي»، متجاوزة بذلك صراعها مع الغربيين سواء فـي ما يخص الازمة السورية او الصراع فـي اوكرانيا، لكن ما وصل اليه الصراع الروسي-الاميركي يوحي بأن الامور ليست بهذه البساطة.
واذا كانت الكلمات الديبلوماسية الصادرة عن وزير الخارجية الروسي قد حملت الكثير من «الجد»، بالنسبة إلى المحللين، وكذلك لمسؤولين اميركيين معنيين، فإنّ ما قاله المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية الكسندر لوكاشيفـيتش عكس بشكل لا لبس فـيه موقف الكرملين: «السلطات الروسية لن تنضم فـي كل الاحوال الى تحالفات دولية لمكافحة الارهاب ولديها وسائلها الخاصة لدعم الحكومات التي تتعرض للارهاب مثل العراق او سوريا التي قدمنا ومازلنا نقدم لها مساعدات فنية وتقنية وعسكرية ومعلوماتية».
ومن الملفت للانتباه أن اعادة التشديد على الموقف الروسي الثابت مما يجري فـي المنطقة العربية، سواء على لسان لافروف او لوكاشيفـيتش او غيرهما فـي الكرملين ووزارة الخارجية، تزامنت مع تكذيب ديبلوماسي صادر عن القيادة الروسية لتصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، غداة لقائه لافروف فـي منزل القنصل الروسي فـي باريس الأسبوع الماضي، من ان واشنطن وموسكو اتفقتا على تبادل للمعلومات الاستخباراتية بشأن «داعش».
ولعلّ الموقف الروسي ازاء ما يجري يطرح الكثير من التساؤلات سواء بشأن الحيثيات التي يرتكز عليها، أو بشأن الأوراق التي يملكها الكرملين وهامش المناورة الذي يستطيع فلاديمير بوتين التحرك فـيه، خصوصاً ان روسيا ليست بمنأى عن الخطر «الجهادي»، وقد كانت السباقة الى مواجهته بدءاً بأفغانستان فـي الثمانينات، مروراً بالشيشان خلال التسعينات، وصولاً إلى التهديدات الأخيرة المتمثلة تنظيم «داعش» نفسه، الذي وجه احد قيادييه تهديداً صريحاً لروسيا.
وثمت ملاحظات مثيرة للتأمل فـي الموقف الروسي، اولها ان القضاء على ظاهرة «الدولة الإسلامية» هدف واقعي يعني روسيا بالدرجة الاولى، والثاني أن حديث الرئيس باراك اوباما عن تشكيل تحالف دولي واسع فـي وجه «داعش» يمثل فرصة تاريخية للتوصل الى تفاهمات اميركية – روسية حول بعض القضايا الساخنة لا سيما فـي ما يتعلق بأوكرانيا.
أما ثالث هذه الملاحظات، فهو ان «الارهاب» يكاد يكون الموضوع الوحيد الذي لم يشهد خلافاً بين روسيا والولايات المتحدة، حتى خلال عهد الرئيس السابق جورج بوش، فقد وفرت موسكو للقوات الاطلسية ممراً لوجستياً عبر اراضيها لقتال «القاعدة» و«طالبان» فـي افغانستان، ولم تعارض قبلها العملية العسكرية لاسقاط النظام «الطالباني» عقب هجمات 11 أيلول 2001.
قد يرى البعض أن هذه الملاحظات الثلاث قد تشكل ارضية يمكن البناء عليها للقول ان هناك مصلحة لروسيا للمشاركة فـي «التحالف الدولي» ضد «داعش». ولكن من الواضح أن ما يدور فـي ذهن القيادة الروسية يذهب الى مكان آخر، خصوصاً فـي ظل ما تشهده المنطقة العربية منذ بدء ما يعرف بـ«الربيع العربي» قبل قرابة اربعة اعوام.
وتستند المقاربة الروسية ازاء ما يجري فـي سوريا والعراق إلى العقيدة العسكرية التي يجرى تعديلها باستمرار فـي ظل المتغيرات التي تطرأ على المشهد السياسي الدولي، والتي تبدو فـي مرحلة اعادة التعديل فـي ظل ما جرى فـي المنطقة العربية خلال السنوات الاخيرة، وخصوصاً مع تحوّل «الربيع العربي» الى «خريف داعشي» دامٍ.
وثمت مفاتيح رئيسية يمكن من خلالها قراءة المقاربة الروسية، وحتى استشراف ملامح العقيدة العسكرية الجديدة التي يفترض ان تبصر النور قبل نهاية العام الحالي، وهي: ليبيا، سوريا، والطاقة.
ولا يمكن فصل ما قاله رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفـيديف بشأن سوريا عن الوجهة الحالية فـي السياسة الخارجية لبلاده ازاء التطورات الحالية فـي المشرق العربي، فحين سئل ميدفـيديف عن موقف القيادة الروسية من الازمة فـي سوريا، كان جوابه واضحاً: «ما حدث فـي ليبيا أثر على سياستنا تجاه الأزمة السورية»، مكرراً بذلك موقفاً سابقاً له بأن «روسيا لن تقبل بتكرار السيناريو الليبي فـي سوريا».
وبات معروفاً أن القيادة الروسية تشعر بأنها تعرضت الى خديعة كبرى فـي ليبيا خسرت على اثرها حليفاً تاريخياً قويا متمثلاً فـي نظام العقيد معمر القذافـي، وذلك حين وافقت على قرار مجلس الامن الدولي بتدخل حلف «الناتو» لحماية الليبيين، والذي تحول بعد ذلك الى تحرك عسكري لاسقاط النظام الليبي. ولذلك، فإن التحرك الروسي فـي الازمة السورية ينطلق من شعور بالارتياب تجاه النوايا الاميركية، وهو ما تبدّى قبل نحو عام حين احبطت موسكو خطة اميركية لضرب سوريا، تحت شعار «نزع الاسلحة الكيميائية»، واليوم فـي الموقف الروسي من «التحالف الدولي» ضد «داعش».
وفـي ظل الأحداث التي جرت خلال السنوات الاربع الماضية، وبالنظر الى أن تشابك المصالح الروسية – السورية، يبدو ان الكرملين يدرك اليوم انه فـي دائرة الاستهداف فـي ما يتعلق بالمشروع الاميركي، الذي يبلغ ذروته اليوم فـي العمليات العسكرية ضد «داعش».
وكان ملفتاً ان اندلاع الازمة فـي سوريا، والخديعة الكبرى فـي ليبيا، قد تزامنا مع اطلاق يد اسرائيل فـي الاستفادة من آبار النفط والغاز، فـي مقابل خلق الظروف المؤاتية لعرقلة الاستثمار الروسي فـي حقول النفط، واحباط كل محاولات روسيا لإيصال الغاز إلى أوروبا، والهدف من ذلك ضرب الاقتصاد الروسي، بما يسمح بتحجيم هذه القوة الدولية، واعادة تحويلها إلى قوة اقليمية كما كانت الحال ايام الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. وليست صدفة ان محاصرة المصالح الروسية فـي سوريا وليبيا قد ترافق مع افتعال الازمة الاوكرانية، والتي استتبعت فرض عقوبات اقتصادية على موسكو.
وفـيما تتخذ روسيا موقف المراقب ازاء ما يجري فـي المنطقة العربية، فإن تطوّر الامور قد يقود الى لجوء قيصر الكرملين الى خيارات متعددة، انطلاقاً من موقفها الثابت بضرورة ان يكون اي تدخل عسكري تحت المظلة الدولية.
ومن بين الخيارات المتاحة دعوة مجلس الأمن الى جلسة استثنائية لبحث موضوع الحرب على الإرهاب، وربما التقدم بطلب لوقف ما تسميه «عدواناً» على سوريا، والتدخل مباشرة عبر تقديم المساعدات العسكرية بشكل مكثف لدمشق وبغداد، وربما تشكيل تحالف بديل ضمن اطار دول مجموعة «بريكس» + ايران وسوريا، وهي خطوة ان تمت قد تضفـي مزيداً من التعقيدات على المشهد الدولي.
ولعل الخيار الاخير ليس مستبعداً، وقد المح فلاديمير بوتين الى ذلك فعلاً حين قال إن روسيا ستحارب «الإرهاب» خارج إطار «التحالف الدولي»، وإنها ستستمر بدعم حكومتي سوريا والعراق فـي محاربة المجموعات المتطرفة، فـيما تستمر روسيا بدعم أسطولها البحري فـي شرق المتوسط بقطع بحرية جديدة، وتزويد الحكومة السورية بأسلحة وذخائر متطورة، مثل المدرعات التي تستعمل فـي جوبر، ومنظومات صاروخية دفاعية وهجومية.
كذلك، فإن لافروف تحدث تلميحاً الى احتمال كهذا بدعوته، خلال محاضرة فـي موسكو إلى «تشكيل تحالف حقيقي ضد المتطرفـين على أساس استراتيجية مشتركة وقرار دولي».
ولا يخرج عن هذا الإطار ايضاً المسعى الروسي لايجاد موطئ قدم ثابت فـي الشرق الاوسط، وذلك عبر مصر، التي تكاد تكون آخر دولة عربية كبرى غير مشتتة، وهو ما يفسر التقارب الروسي- المصري الاخير سواء فـي ما يتعلق بالعمل على تنفـيذ قناة السويس الجديدة، أو تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري.
كل هذا يدفعنا إلى القول ان ما يجري اليوم يمثل عودة الى الحرب الباردة من جديد، وربما تكون المعركة ضد «داعش» البروفة النهائية لاستقطاب عالمي بقواعد لعبة جديدة.
هذه رسالة لك يا فلاديمير بوتين!
عانت روسيا من التنظيمات الإرهابية وبخاصة فـي مناطق القوقاز والشيشان، وهي اليوم ليست بعيدة عن دائرة الاستهداف «الداعشي».
وللدلالة على ذلك يمكن الإشارة إلى ان تنظيم «داعش» وجّه تهديداً مباشراً للرئيس فلاديمير بوتين، متوعداً إياه بـ«تحرير» شمال القوقاز حسب ما جاء فـي شريط مصوّر نشره التنظيم المتطرف عبر شبكة الانترنت.
ويبدو واضحاً ان هذا الشريط المصوّر قد تم التقاط مشاهده فـي مطار الطبقة، ويبدو فـيه مسلح يقف عند طائرة استولى عليها التكفـيريون فـي القاعدة العسكرية السورية، وهو يقول «هذه رسالة لك يا فلاديمير بوتين… هذه الطائرات الروسية التي أرسلتها إلى بشار (الاسد)، بإذن الله نرسلها إليك فـي عقر دارك، ونحرر الشيشان، ونحرر القوقاز بإذن الله، قبل ان يختم «عرشك مهدد من قبلنا».
العقيدة العسكرية الروسية الجديدة
تعكف القيادة الروسية على وضع تعديلات جذرية على العقيدة العسكرية المعتمدة حالياً.
وكان نائب رئيس مجلس الامن الروسي ميخائيل بوبوف قد اشار الى ان العقيدة الروسية الحالية، والتي تعود الى العام 2010، ستعدل بحلول نهاية السنة الحالية، لتأخذ فـي الاعتبار ثورات «الربيع العربي» والنزاع فـي سوريا والوضع فـي أوكرانيا، متهماً الحلف الأطلسي بانتهاج «سياسة» تقضي بضرب العلاقات مع موسكو.
ومما قاله بوبوف «لا شك لدي فـي أنّ اقتراب البنية التحتية العسكرية لدول الحلف الأطلسي من حدود بلادنا… سيدرج من بين التهديدات العسكرية الخارجية» التي تواجهها روسيا، لافتاً إلى ان «كل الوقائع تشهد على رغبة سلطات الولايات المتحدة والحلف الأطلسي فـي مواصلة سياسة زيادة التوتر مع روسيا».
وبحسب الوثيقة الصادرة فـي 5 شباط 2010، فإنّ هناك إمكانية لإعادة النظر فـي أحكام العقيدة العسكرية بالتغيير والتعديل والإضافة بما يتناسب مع الأخطار والتهديدات لأمن ودفاع البلاد وظروف تطور الدولة الروسية الاتحادية.
اليوم تطرح روسيا تعديلات على العقيدة العسكرية بما تراه مناسبا لمواجهة المخاطر التي تهدد أمن الدولة فـي أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية، ومشاريع التوسع الاطلسية والاوروبية فـي الجمهوريات السوفـياتية السابقة، فضلا عن احتمالات تأثير أحداث «الربيع العربي».
بحسب ما تتداول وسائل الاعلام الروسية بشأن التعديلات الجديدة فإن «العدو الأول الخارجي لروسيا هو توسع حلف شمال الأطلسي شرقا باتجاه الحدود الروسية»، وان «خطة الولايات المتحدة حول نشر الدروع الصاروخية فـي أوروبا على مقربة من الحدود الروسية مصدر قلق للأمن القومي الروسي، فضلا عن الأخطار الداخلية، ومنها محاولات تغيير النظام الدستوري والتطاول على وحدة أراضي الدولة من خلال الحركات الانفصالية والإرهاب بكل أشكاله».
ومن المؤكد ان تطوّر الامور فـي ما يتعلق بالحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد «داعش» والتغيرات التي حدثت فـي العالم العربي خلال الأعوام الاربعة المنصرمة ستفرض نفسها فـي التعديلات على الوثيقة الجديدة للعقيدة العسكرية والتي يرجح ان يتم الكشف عن بعض ما تحتويه خلال الشهرين المقبلين.
Leave a Reply