نبيل هيثم – «صدى الوطن»
بدا جون كيري مضطرباً يوم الجمعة التاسع من أيلول (سبتمبر) 2016.
وزير الخارجية الأميركي كان قد أنهى محادثات معقّدة في جنيف، مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، انتهت بالتوصل إلى اتفاق حول سوريا.
برغم ذلك، لم يكن الوزيران قادرين على الإعلان الرسمي عن التفاهمات الأميركية–الروسية، قبل ورود الضوء الأخضر من الرئيس باراك اوباما، وهو أمر لم يكن بالسهل بالنسبة إلى رئيس الديبلوماسية الأميركية، فثمة من ظل يشوّش على جهوده، في مقر وزارة الدفاع «البنتاغون».
الاتصالات المضنية التي أجراها كيري بالبنتاغون والبيت الأبيض كادت تتناول كل كلمة في نص الاتفاق. يعترض وزير الدفاع آشتون كارتر على بند، فيسعى كيري الى تفسيره بتفصيل التفصيل، وحين كان يعجز في إقناع الوزير اللدود، كان يتدخل لدى أوباما لتجاوز المأزق.
في المقابل، بدا لافروف هادئاً ومرحاً، فالرئيس فلاديمير بوتين منحه صلاحيات مطلقة في إبرام الاتفاق، بعد التفاهم على الخطوط العريضة. كان ذلك كافياً لكي يتباهى الوزير الروسي امام الصحافيين بأن «عجلة اتخاذ القرارات في موسكو أسرع منها في واشنطن»، ولم يفته أن يزايد على الأميركيين بأن قدّم زجاجات الـ«فودكا» الى جانب البيتزا للصحافيين المنتظرِين في جنيف، مع التأكيد على انها هدية «من البعثة الروسية وليس من الولايات المتحدة».
في نهاية المطاف، حسم أوباما الموقف، فانعقد المؤتمر الصحافي الذي طال انتظاره، وتم الإعلان عن التفاهمات الروسية–الأميركية بشأن سوريا.
البنتاغون وعقلية الحرب الباردة
ولكن ساعات الانتظار الطويلة التي امضاها كيري وهو ينتظر الحسم الرئاسي بدت مؤشراً سلبياً على امكانية النجاح، فالمؤسسة العسكرية الأميركية عارضت ما تم التوصل إليه، حتى أن الوزير آشتون وكبار الجنرالات في «البنتاغون» لم يترددوا في إبداء انزعاجهم من التداعيات «الخطيرة» للتعاون العسكري بين الولايات المتحدة وروسيا في الميدان السوري، وهو ما اخرج الخلافات بين وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين الى العلن، لا سيما بعدما اتهم مسؤولون مقرّبون من كيري جنرالات «البنتاغون» بالتفكير وفق ذهنية «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفياتي السابق.
وبينما تقترب عطلة عيد الأضحى لتدخل حيّز التنفيذ، مع بعض الخروقات هنا وهناك، كانت أروقة السياسة الأميركية تشهد حرباً من نوع آخر، بعدما راح الجنرالات يستفيضون في مناقشة مخاطر الاتفاق الروسي–الأميركي.
ويبدو أن معظم الجنرالات الحاليين عاشوا أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حين بدأت مسيرتهم العسكرية، ومن المؤكد أن ترتيبات لحظها الاتفاق الأميركي–الروسي، من قبيل تشكيل مركز عسكري مشترك في جنيف، تنطوي على محاذير كبيرة، لا بل هي أمر غير مسبوق ومربك لهؤلاء العسكريين.
من هنا أتى الاعتراض على الاتفاق من باب أن الخشية من أن معلومات استخباراتية أميركية لمنفعتها الذاتية وسط توتر أجواء البحار والمجالات الجوية حول البلطيق وأوروبا.
لكن تلك الاعتراضات التقنية تمثل نصف الحقيقة، فشد الحبال القائم بين كيري وكارتر هو في الواقع خلاف سياسي بامتياز، فوزير الخارجية يريد التوصل إلى حل سلمي للصراع في سوريا، يكون آخر إنجاز له في هذا المنصب، في حين أن آشتون يأمل في البقاء في منصبه والاستمرار في محاربة روسيا، وبالذات في سوريا، في حال انتخاب هيلاري كلينتون رئيسة للولايات المتحدة.
هكذا دُفن الاتفاق
وأياً تكن الحيثيات للصراع القائم بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع في الولايات المتحدة، فإن الاتفاق الروسي-الأميركي سقط يوم توقيعه، وقد اختار البنتاغون لحظة مناسبة لدفنه، وتحديداً في اليوم الثامن من الهدنةعندما قام الطيران الأميركي باستهداف تحصينات الجيش السوري في محيط مدينة دير الزور الصامدة منذ أكثر من ثلاث سنوات تحت حصار تنظيم «داعش» الإرهابي. وهو اليوم نفسه الذي كان يفترض ان يشكل نظرياً، بداية المرحلة الثانية من الاتفاق الصعب، والمتمثلة في تبادل المعلومات الاستخباراتية، وبدء العمل على تنسيق الضربات الجوية، وادخال المساعدات الى المناطق المحاصرة، تمهيداً للشروع في عملية تهيئة المفاوضات بين المكوّنات السورية.
في العموم، أظهرت التطورات الأخيرة، المرتبطة بإجهاض اتفاق لافروف-كيري، طبيعة التجاذبات داخل الإدارة الأميركية، والتي أدت الى بروز ارباك في سياسة باراك أوباما حيال الملف السوري.
كما أن التجاذب بين كيري وكارتر أكد الكثير من التقارير التي تحدثت عن خلافات عميقة بين الجناحين العسكري والسياسي داخل الإدارة الأميركية، وهو ما يعزز المدافعين عن سياسات باراك أوباما القائلين بأن ما يجري في المنطقة العربية من كوارث ونكبات مستجدة ما هو إلا أحد نتائج غطرسة جنرالات «البنتاغون»، من جهة وضعف الجهاز السياسي المحيط بالرئيس من جهة ثانية.
لكن أخطر ما تكشفه المنازلة بين كيري وكارتر هو أن في الولايات المتحدة ثمة من يراهن على «داعش» و«النصرة» في عملية طويلة لاسقاط الدول المركزية في الوطن العربي.
ولعل الملابسات المرتبطة بالهجوم الجوي الأميركي على دير الزور -وهي الغارة التي أسقطت الاتفاق الأخير بين كيري ولافروف– تحمل الكثير من الدلالات.
أبرز تلك الدلالات ما جرى بعد دقائق من الغارة الجوية، التي زعم «البنتاغون» أنها وقعت عن طريق الخطأ، حيث نفذ مسلحو «داعش» هجوماً كبيراً على الموقع السوري ذاته، الذي استهدفته الغارات، حتى بدا الأمر وكأن ثمة رغبة أميركية أو على الأقل داخل مراكز القوى العسكرية في الادارة الأميركية- في اعادة تعويم التنظيم المتشدد بعد شهور من الهزائم التي شهدها في العراق وسوريا.
وكان الجيش الأميركي قد أعلن أن قوات التحالف لم تتعمد ضرب الجيش السوري في دير الزور، وأنها اعتقدت أنها كانت تهاجم «داعش»، مشيراً إلى أن التحالف يجري تقييماً لغاراته على الجيش السوري ويدرس ملابساتها.
لكن التصريحات الأميركية قوبلت بردّ روسي. حيث أعلنت الخارجية الروسية أن موسكو توصلت إلى «نتيجة مرعبة بأن الولايات المتحدة تتواطأ مع داعش»، داعية مجلس الامن لاجتماع طارىء بهذا الخصوص.
محادثات من أجل المناورة
وإذا كان وزير الخارجية الأميركي لا يزال مصرّاً على أن الهدنة لم تمت، فإن الأمر لا يعدو بالنسبة إليه، كما للرئيس باراك اوباما، مجرّد موقف يسعى من خلاله الى المناورة السياسية، ليس مع الروس والأطراف الأخرى الفاعلة سوريّاً فحسب، وانما في الداخل الأميركي نفسه، فرئيس الديبلوماسية، ومعه سيّد البيت الأبيض، اللذين يستعدان لتسليم مفاتيح السياسة الى خليفتيهما (سواء كان ديموقراطياً أم جمهورياً) لا يمتلكان، كما يبدو، القدرة على تحقيق انجاز تاريخي يحسب لهما بعد تقاعدهما سياسياً.
وفي المقابل، فإن جنرالات «البنتاغون»، وخلفهما أباطرة المجمع العسكري الأميركي، لا يزالون مصرّين على وجهة قديمة–متجددة لمقاربة الملفات كافة على الساحة الدولية، ولا سيما في الشرق الأوسط، حيث تتخذ السياسة الأميركية توجهاً ثابتاً منذ عهد الرئيس جورج بوش الإبن –وربما في عهود سابقة– وعنوانها العريض: «الفوضى الخلاقة».
انطلاقاً من ذلك يمكن فهم، على سبيل المثال، لماذا تأخرت معركة الموصل والرقة، ولماذا تتحفظ الولايات المتحدة على أدوار لقوى محلية أظهرت قدرة كبيرة على محاربة الإرهاب، وأبرزها «وحدات الحماية الكردية» في الشمال السوري، و«الحشد الشعبي» في العراق.
وعلى هذا الأساس، فإن «البنتاغون» تدخل في النقطة الحاسمة لمنع أي تحوّل في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وبطبيعة الحال العراق، عبر اجهاض المبادرات السياسية، كتلك التي افضت الى تفاهمات كيري–لافروف، وبالتالي إعادة السياسة الأميركية إلى المربع الأول، والمتمثلة في استخدام القوة العسكرية بالوكالة «لتحقيق المشروع الأميركي»، وفق ما قاله الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في مهرجان ذكرى الانتصار في بنت جبيل في آب (أغسطس) الماضي.
دور «داعش»
وبطبيعة الحال، فإن ما جرى في سوريا خلال الأيام الماضية يعيد أيضاً النقاش بشأن «داعش» ودوره ووظيفته الى النقطة الصفر، التي يمكن من خلالها استشراف آفاق الصراع السوري.
ولعل هذا الأمر يستدعي الاجابة على ثلاثة أسئلة، أولها: من استدعى «داعش»؟ وثانيها ما هي مهمة «داعش»، وثالثها هل نجح «داعش» في تحقيق الأهداف المرسومة له؟
بعيداً عن نظريات المؤامرة، لم يعد يخفى على أحد أن الولايات المتحدة هي في الواقع من استدعى «داعش» -وذلك بشهادة أميركي هو المرشح الجمهوري دونالد ترامب– وكان الهدف من ذلك تحويل هذا التنظيم التكفيري إلى جيش سري لتنفيذ مشروع عدواني في سوريا والعراق، يهدف إلى دمج الميدانين السوري والعراق بما يمكن الأميركيين من ممارسة احتلال مقنّع بالإرهاب في العراق وسوريا.
هذا المعطى تبدّى في الهجوم الكبير الذي شنه التنظيم الإرهابي في حزيران (يونيو) 2014، والذي تمكّن خلاله من السيطرة، خلال أقل من ثلاثة أسابيع، على مناطق شاسعة في سوريا والعراق، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ.
ولا يعني التراجع الذي شهده «داعش» مؤخراً، سواء في سوريا أو العراق، أن المشروع الأميركي بدأ يكف عن استخدام الورقة التكفيرية لتحقيق أهداف جيوسياسية تتجاوز سوريا والعراق، وتتعلق خصوصاً باستنزاف روسيا، وربما الصين في مرحلة لاحقة، فإن الأمر لن يعدو كونه، على الارجح، مجرّد تموضع تكتيكي لسحب «داعش» من العراق، بغرض إبقائه في سوريا، طالما أن الأخيرة باتت الميدان الرئيسي للصراع البارد بين الولايات المتحدة وروسيا.
واذا كان البعض قد توقع تخلي الولايات المتحدة عن هذا الجيش السري، وهو ربما الأمر الذي يسعى اليه باراك أوباما ووزير خارجيته كيري مع قرب الانتخابات الأميركية، فإن رفض «البنتاغون» اتفاق الحل الأميركي–الروسي يعني أن الدوائر العسكرية ما زالت تعتقد أن وظيفة «داعش» الخادمة للمشروع الأميركي لم تنته بعد.
Leave a Reply