صبحي غندور
لا يخلو أيّ مجتمع، مهما كان حجمه، من مظاهر وعوامل انقسام، مثلما تكمن فـيه أيضاً عناصر التوحّد والوئام. إنّهّا سنّة الحياة فـي الجماعات البشرية، منذ تكوّنها على أشكال تكتّلات عائلية وعشائرية وقبلية، وصولاً إلى ما هي عليه الآن من أممٍ وأوطان.
لكن المحطة المهمّة فـي مسيرة تطوّر الشعوب، هي كيفـيّة التعامل مع طبيعة الانقسامات فـيها. أي، هل يكون الانقسام على قضايا سياسية؟ اجتماعية واقتصادية؟ أم هو تبعاً لتنوّع ثقافـي-إثني، أو ديني-طائفـي، أو قبلي-عشائري؟ فكلّ حالة من تلك الحالات لها سماتها التي تُحدّد ماهيّة الأطراف المتصارعة وأساليبها وأهدافها.
فالمشكلة ليست فـي مبدأ وجود انقسامات داخل المجتمعات والأوطان، بل هي فـي انحراف الانقسامات السياسية والاجتماعية إلى مساراتٍ أخرى تُحوّل الاختلاف الصحّي السليم فـي المجتمع إلى حالة مرضية مميتة أحياناً، كما يحدث فـي الصراعات الإثنية والطائفـية والقبلية. فكثيرٌ من المجتمعات الإفريقية والآسيوية شهدت، وما تزال، حروباً أهلية على أسس طائفـية وإثنية وقبلية. كذلك مرّت القارّة الأوروبية بهذه المرحلة فـي قرونٍ مختلفة، وكان ما شهده عقد التسعينات من حرب الصرب فـي يوغسلافـيا ومن الأزمة الأيرلندية هو آخر هذه الصراعات، رغم التحوّل الكبير الذي حصل فـي أوروبا وفـي أنظمتها السياسية خلال القرن العشرين.
أيضاً، رغم انتخاب باراك حسين أوباما كأوّل رئيس أميركي من أصول إفريقية، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تعيش حالةً عنصرية شديدة على أساس عرقي، رغم التنوع الثقافـي والإثني الذي تتميّز به. وقد شهدت أميركا منذ قرنٍ ونصف القرن حرباً أهلية دامية، كان العنصر المهم فـيها هو الصراع حول الموقف من مسألة «العبيد»، ومن هم من غير ذوي البشرة البيضاء والأصول العرقية الأوروبية، وتستمرّ مظاهر التفرقة العنصرية فـي أميركا حتّى الآن بأشكال وأماكن مختلفة رغم ما نصّ عليه الدستور الأميركي من مساواةٍ بين كلّ المواطنين، ورغم وجود نظام سياسي ديمقراطي علماني يؤكّد على مفهوم «المواطنة» وينبذ المسألة العنصرية!.
اذن، فإنّ عوامل الانقسام ومظاهره ستبقى قائمة فـي أيِّ مجتمع مهما بلغ هذا المجتمع من تقدّم اجتماعي وسياسي ومن تفوّق علمي وحضاري ومن تطوّر دستوري مدني، لكن المهم ألا تكون عناصر الانقسام السائدة فـيه هي متأزّمة إلى حدٍّ يدفع لحدوث حروب أهلية بدلاً من التغيير السلمي الممرحل لتحقيق أوضاع أفضل للحاضر وللمستقبل معاً.
فالتعدّدية والتنوّع بمختلف أشكالهما هما سنّة الخالق الحتمية على هذه الأرض، والطبيعة تؤكّد تلك الحقيقة فـي كلِّ زمانٍ ومكان. لكن ما هو خيار بشري ومشيئة إنسانية هو كيفـيّة التعامل مع هذا «التنوّع» وهذه «التعدّدية»، ومن ثمّ اعتماد ضوابط لأساليب التغيير التي يمكن استخدامها فـي المجتمعات.
أمّا البلاد العربية والإسلامية فـينطبق عليها الآن وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففـي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التديّن» واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
فالدين الحنيف يربط بين الإيمان والعمل الصالح، أي بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة. فهل يفعل العرب والمسلمون ذلك حقّاً؟. إنّ الأمّة العربية تقوم ثقافتها الدينية وحضارتها على الحوار مع الآخر بينما لا يفعل ذلك ناسُها. الأمّة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات، وفـيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية. كذلك فـي الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء. فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية والتنوّع وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، كما تقوم ديموغرافـياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية، بينما يسود الآن واقع الأمَّة العربية حال التخلّف والتفرقة والفئوية والتعصّب.
إنّ المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، بحكم دور ثقافتهم ولغتهم واحتضان أرضهم للمقدّسات الإسلامية، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصل فـي شخصية مجتمعاتهم، وإلى التساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة فـيما هو منصوصٌ عليه من قيم وواجبات دينية.
فأين الالتزام بقول الله تعالى: «ولقد كرَّمنا بني آدم» بغضِّ النّظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين العدالة والمساواة والشورى وكرامة الإنسان فـي كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة فـي هذه المجتمعات، وأينَها بين بعضها البعض؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء فـي مواجهة الجهل وعلامات الجاهلية المتجدّدة؟ أين رفض التعصّب والتمييز العرقي والإثني والطائفـي؟ أين المسلمون من جوهر إسلامهم، وأين العرب من كونهم «خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس» بعدما حملت رسالةً تدعو إلى الإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد على وحدة الإنسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟!.
وهل ينسى المسلمون موقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين دعاه راعي كنيسة القيامة إلى الصلاة فـيها، فرفض ذلك الخليفة عمر، حتى لا يأتي يوماً أحدٌ فـيقول: هنا صلّى عمر، ويدعو إلى تحويل الكنيسة إلى مسجد. فقد جرت فـي المنطقة العربية، على امتداد تاريخها العربي الإسلامي، المحافظة على الكنائس المسيحية ورعايتها. والإسلام، كما عرفه وعاشه العرب المسلمون والمسيحيون (بل واليهود أيضاً)، هو إسلام التعايش والتآلف الديني الذي حافظ على ما فـي المجتمع الواحد من تنوّع وتعدّدية، خاصّةً فـي ظلِّ القيادة العربية لحقب التاريخ الإسلامي.
بل أين المسلمون الآن، فـي سلوكهم الفردي مع أنفسهم ومع محيطهم العائلي والوطني، ممّا يقولونه فـي صلاتهم ويقرأونه فـي كتاب الله العزيز والسيرة النبوية الشريفة من مفاهيم وقيم وضوابط السلوك فـي التعامل مع النفس و«الآخر» حتّى لو كان عدوّاً أو أسيراً؟.
فـي موسم الحجّ مثلاً الذي نعيشه الآن، يلتقي من بقاع الأرض قاطبةً، ملايينٌ من البشر. ويتساوى على أرض مكّة وفـي مناسك الحج: الغنيّ والفقير، الأبيض والأسود والأسمر، الرجال والنساء، والحاكم والمحكوم. وفـي الحجّ أيضاً تظهر وحدة الجنس البشري ووحدة الدين الإسلامي، فلا تمييز فـي الحجّ ومناسكه بين عربي وأعجمي، ولا بين مسلمٍ من هذا المذهب أو ذاك. كما يرتبط الحج بوحدة الرسالات السماوية وبتكريس الإيمان بالله تعالى وبكلّ رسله وكتبه، فالأضحية فـي الحج والمزار المقصود فـيه وكثير من مناسكه تتّصل بالنبيّ إبراهيم أبي الأنبياء، بمن فـيهم موسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.
لكنّ الحجّاج فـي زمننا هذا يعودون إلى أوطانٍ عربية وإسلامية لا تتوافق أوضاع الكثير منها مع حقيقة حِكَم الحج ومعانيه، إذ يعيش بعض هذه البلدان انقساماتٍ حادّة بين مسلمين ومسلمين، وبعضها يعاني الآن من حالات انقسام وتمييز، بما يتناقض تماماً مع ما نشهده فـي الحجّ من مظاهر الوحدة الإنسانية وغياب الفوارق بين الأجناس والأعراق. أيضاً، هم يجدون فـي معظم بلدانهم هذا الانقسام الاجتماعي الحادّ بين الغنيّ والفقير، وبين الحاكم والمواطن، ويلمسون فـي مجتمعاتهم هذا التمايز الكبير بين الرجل والمرأة، ولمفاهيم وممارسات مناقضة لما عاشوه فـي الحجّ من مساواةٍ بين الرجل والمرأة فـي كلّ المناسك، فالاختلاط بين الرجال والنساء حلالٌ فـي الحجّ وحرامٌ فـي غيره!.
من المحتّم أنّ إصلاح المجتمعات العربية أولاً هو السبيل إلى إصلاح الدول وأنظمة الحكم. وإصلاح المجتمع أولاً، يعني البناء السليم للمؤسسات الأهلية المدنية، ولمراكز الفكر والثقافة، ولمعاهد الإعداد الديني، ولكيفـية تربية وتنشئة الجيل الجديد، ومن ثمّ التأثير الإيجابي فـي الناس من خلال العمل الثقافـي والفكري والإعلامي الذي يُشجّع على العلاقة الطيبة مع «الآخر». لكن المعيار ليس بإقرار حقّ وجود «الآخر» فقط، بل بحقّه فـي إتّخاذ دوره كشريك طبيعي سواء فـي المجتمع أو فـي المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه الكاملة كمواطنٍ متساوٍ مع المواطن الآخر فـي كلّ الحقوق والواجبات.
Leave a Reply