تيار الثورات والهزات الجارف: السيـل العرم
إذا قمنا بتقصي نتائج ما شهدته المنطقة العربية بعد الهزات والثورات والصراعات على امتداد السنة التي خلت نجد ان المحصّلة كارثية بكل المقاييس فالأهداف التي كانت الشعوب ترنو الى تحقيقها إما وقع الالتفاف عليها أو تم اختطافها وتحويل وجهتها.
فالقوى الشابة التي قادت التحركات الثورية لم تكن موحدة ولا ذات برنامج واضح، والأخطر انها كانت تنقصها الخبرة اللازمة لمواجهة ذئاب السياسة المدرّبة والتي كانت كلما أحست بفقدان امتيازاتها تغيّر جلدها وموقعها لتنتقل الى الضفة المقابلة لا لتآزر القوى الصاعدة بل لتنفث جراثيمها وتلوث محيطها الجديد. وهذا، للأسف الشديد، ما حصل في اغلب الثورات التي قامت في البلاد العربية مؤخراً.
لقد أستطاعت قوى الردّة التي كانت دائماً مرتبطة بأجندات ومصالح القوى الخارجية المتنفذة في المنطقة أن تُجهض ثورات كان من المفترض أن تغيّر وجه المنطقة لصالح شعوبها، لم تقف “قوى الجذب الى الوراء” عند ذلك بل عملت على ان تستغل حالة الانفلات الامني والضبابية التي ميزت الاوضاع بالمنطقة لتخلط الحابل بالنابل والصالح بالطالح في محاولة منها لتُجهِز، في غفلة من أغلب العرب، على ما تبقي من قوى حية في الجسم العربي المتهالك.
بعد ما سلف، يمكن أن نتسائل ما هي المُحصّلة بعد هذا السيل العرم الذي جرف كل شيء في طريقه وأتى على الاخضر واليابس:
– إنسانيا وإجتماعيا: بلغ عدد القتلى في تونس وليبيا ومصر واليمن والبحرين وسوريا والسعودية وكل شبر من الارض العربية التي سقتها قطرة دم عربية آلاف من الضحايا، أمّا الجرحى والمشردين واليتامى والثكالى والارامل والمهجرين فيعدُّون بالملايين.
– إقتصاديا: أحدثت الهزات السياسية خرابا ودمارا وأضرارا فادحة بالبنى التحتية لبلدان المنطقة، آلاف من المصانع دمرت ثم اغلقت لتحوّل آلافاً جديدة من العمال والفنيين والكوادر والمهندسين الى عاطلين، ناهيك عن بلوغ السياحة حضيضها في بلدان كانت تجد فيها دخلاً يسد رمق.
– أمنيا: الانفلات وسياسة بث الفرقة ونشر الحقد والبغضاء والقتل على الهوية واحيانا عشوائيا خلق حالة من الخوف والريبة بين أبناء الوطن الواحد.
لقد دفع الشعب العربي ضريبة ثقيلة جدّاً من الدم والمال والجهد ولكن لأيّ هدف دفع هذا الثمن الباهض؟ نعم، ما حصل بالمنطقة غيّر اوضاعها لكن في اي اتجاه؟ هل ذهبت حقوق من جادوا بالنفس والنفيس كالزبد الجفاء أم هل حققت ما ينفع الناس على الارض وفي واقع الناس؟
جمهوريات الموز الجديدة:
من أماني الربيع الى واقع التركيع
أفرزت أغلب الثورات التي قامت، والأخرى التي مازالت تنشط، كيانات سياسية ضعيفة مسلوبة الارادة قرارها ليس بيدها وإن ادعت عكس ذلك. يشبه حالها حال جمهوريات اميركا الوسطى المنتجة للموز والتي كانت مسلوبة الارادة، زمام امرها بيد شركات تصدير الموز التي كان يملكها أجانب والتي كانت توجه سياسة تلك الدول حسب رغباتها ومصالحها وكثير ما كان مدير لشركة موز يقرر مصير رئيس دولة او حكومة بمكالمة هاتفية، مع الفارق هنا أنّ الجمهوريات العربية الجديدة يقرر مصيرها ارباب البترول والغاز من دول الخليج.
وهنا يتبادر الى الذهن سؤال وهو ما الذي يجبر تلك الدول على الخضوع لامراء النفط والغاز؟
الجواب ببساطة: أولا، إن كثيراً من الاحزاب التي اعتلت سدة حكم دول مكان الانظمة الشمولية السابقة لم تكن مهيئة لتسلم ادارة دول بكل اجهزتها ومتطلباتها خاصة بعد سقوط انظمة جائرة وازدياد آمال الشعوب بتغيير الاوضاع الى الاحسن في ظل اوضاع اقتصادية خانقة وتزايد معدلات البطالة، هذا اضافة الى عدم خبرة تلك الاحزاب التي لم تمارس السلطة حتى في أصغر مسؤولياتها، كالمجالس المحلية أو غيرها، لكنها رغم ذلك ابتلعت هدية الفوز المسمومة في الانتخابات وأصبحت في موقع يفرض عليها تسيير وزارات وسفارات وتهيئة ميزانيات وبرامج تنمية لبلدان مخربة. كل هذه الالتزامات والاعباء يقابلها خزائن شبه خاوية بعد ان هرب المخلوعون بأموال بلدانهم وأودعوها في البنوك الخارجية مع استماتة امراء الخليج في الدفاع عن الحكام الهاربين السارقين لأموال شعوبهم ورفض تقديمهم الى المحاكمة ومحاولة مقايضة المحاكمات بالمال كما حصل في تدخل السعودية في محاكمة حسني مبارك ومحاولة لي ذراع مصر، أو رفض تسليم بن علي المتعلق بذمتهم دم المتظاهرين التونسيين ورفض قطر تسليم أصهار بن علي أو قبول مطالب استرداد ما نهبوا، بل أبعد من ذلك، وفّرت تلك الانظمة الخليجية ملاذات آمنة للسرّاق وأجبرت دولا على تقديم حصانة لرئيس مخلوع حتى يأخذ راحته في صرف ما نهب هو وعائلته وحاشيته مثلما فعلت دول الخليج مع رئيس اليمن الاسبق، ثم فرضوا على الشعب اليمني رئيسا معينا لمدة سنتين في انتخابات بمرشح وحيد. نعم وحيد. فأطالت بهذه العملية عمر النظام السابق. ويصدق فيها هنا قول الشاعر:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
أبشر بطول سلامة يا مربع
وعوض أن تصر تلك الحكومات الجديدة والتي جاءت باسم الشرعية الثورية على جلب الحكام السرّاق واسترداد الاموال رفعت بدل ذلك المنديل الابيض، ثم أمام ضغوطات الواقع مارست سياسة الاستجداء طلبا لهبات أو قروض ميسرة من “الأشقاء” الذين وجدوها فرصة لفرض املاءات وحتى تعيينات لوزراء داخل الحكومات الجديدة كما مارسوا اللعب على تناقض مصالح المكونات المؤثرة في تلك الدول. فها هي ليبيا ومجلسها الانتقالي الذي اسسته قطر وفرنسا لا يمكنها لجم الجماعات المسلحة التي سلحتها قطر ثم تركتها لتُروّع المواطنين، كما عجزت عن ايقاف انفصال اجزاء من الدولة الليبية مثلما فعل اقليم برقة. دولة ليبيا الحالية لا تملك أيّ سلطة فعلية ولا يتجاوز نفوذها مجال التصريحات فقط، فهي تحذر وتندد ولكن في المؤتمرات الصحفية طبعاً، بعدها يعود كل طرف الى قواعده “ويا دار ما دخلك شر”.
ثانيا: أغلب الاحزاب التي اعتلت سدة الحكم في بلدان “الربيع” من التيارات ذات التوجه الاسلامي وبمرجعية الاخوان المسلمين. وقد استطاعت السعودية، وخاصة قطر، أن تليّن مواقف تلك الاحزاب عبر التأثير عليها عبر بعض الرموز الدينية مثل الشيخ يوسف القرضاوي الذي استطاع ان يصعّد ويهدّئ الامور من مركزه بدوحة قطر وفق أجندات مسطّرة له. الاحزاب الاسلامية هذه التي تربت على طاعة الأمير لم تستطع أن تتجاوز هذه القاعدة رغم ان كثير منهم لايقبلون بكل ما يصدر عن القرضاوي ومِن ورائه قطر والمنظومة الخليجية.
دول الربيع التي لم تجد دعماً فعلياً من البلدان الغربية التي تهربت من وعود الدعم التي اطلقتها، إما توجسا من السياسة التي قد تسلكها الحكومات الجديدة او رغبة في ملاعبتها والضغط عليها للقبول والاصطفاف وراء المشروع الذي يُحضّر للمنطقة، وأمام عزوف الغرب عن التمويل توجهت تلك الدول الى الاخوة الخليجين لينجدوها، لكن الأخوة يعتبرون عرّابي مشروع تفكيك وإضعاف دول المنطقة ويستمرون عبر سطوة المال في محاولة احتواء وتركيع دول “الربيع” بكل الوسائل.
دول العشائر والممالك: السراب ورياح السمـوم
تعتبر المنظومة الحاكمة في الخليج احد الاطراف المهمة التي تقود مشروع إضعاف دول المنطقة والتي لم تدخر جهداً في جعل حياة شعوب الدول ذات الانظمة الجمهورية ضنكى، وقد ساعدت في كل الادوار التي صُدّرت فيها المهالك والازمات الى تلك البلدان، فهم من دعوا ووقفوا وراء حرب العراق الاولى والثانية ويقفون الآن وراء التحريض والتسليح المتواصل ضد سوريا ويسعون الى تخريب اقتصادها عبر ضخ العملات المُزوّة عبر أزلامهم في أسواقها ويحاصرون إقتصادياً شعباً لا ناقة ولا جمل له أمام رغبة مجنونة لعروش خاوية تريد ان تتزعم المنطقة نتيجة حالة نرجسية أو تحقيقا لمآرب سياسية أخرى.
هذه قطر تمنع الجنسية عن بعض من شعبها من بني مُرّة في المقابل أغلب رياضيها من المجنسين الذين جلبتهم بأموال طائلة للبروز كدولة رائدة في الرياضة عند اقامة البطولات او الدورات الرياضية. ألم يكن من الاولى صرف تلك الأموال على الملايين من العرب والمسلمين الذين يعانون من الفقر والحاجة؟ سلحت قطر الجماعات في ليبيا وبعد ان دُمّر البلد وسادت الفوضى اختفت قطر وتركت ليبيا للتطاحن والتقاتل والتقسيم، كماتواصل الامارة الغنية تصدير المهالك الى كل بني يعرب شرقاً وغرباً، وهاهي تسعي الى بذر الفرقة بين الاحزاب الفلسطينية المنقسمة اصلاً، وقد وصفها المفكر الفرنسي فيليب كوريل بـ”الدولة القزم” التي لها شره النفوذ وتحاول أن تتسيّد المنطقة بالمال.
سياسة اهدار المال العام سمة تشترك فيها اغلب دول منظومة الخليج، هذه أموال طائلة تصرف من اموال الشعوب على مجلس سوري بني في الخارج يتقاضى اعضاؤه الاجور ويسكنون النزل الفخمة ويركبون الطائرات.
وهذه السعودية وبعد الحظر الذي فرض على البترول الايراني تتكفل بضخ البترول الى السوق العالمي دون التفات الى الاهتمام باحتياطيها من مخزونها الاستراتيجي. يبدو ان المسائل الاسترتيجية امور غير واردة في قاموس حكام المملكة وقد فعلت الشيء نفسه اثناء الحرب على العراق. هذا الكرم الحاتمي يقابله فقر، يقرب من 25 بالمئة من سكان السعودية، وبطالة وصلت الى حدود 30 بالمئة، وعوض ان تضع المملكة الخطط الى تنمية بشرية مستدامة في بلاد يغلب عليها التصحر وتنضب ثرواتها بوتيرة متسارعة، تحل المملكة مشكلة كل تململ شعبي عبر الفتاوي وإغداق الاموال على مشائخ القبائل “عافية شيوخنا ماقصرتوا”، هذا هو الفكر الاسترتيجي والا بلاش. “اللي معاه مال وحيروا اشترى بيه حمام وطيرو”.
ورغم الصيحات التي يطلقها الامير طلال بن عبد العزيز من حين لآخر للتنبيه من المؤامرات التي تحاك من بعض دول المنظومة الخليجية ضد العرب والمنطقة، ظلت تحذيراته صيحات في واد وظلت الآذان صماء عن سماعها، إلا إنّ التجاهل لا يحل المشكل، فالبلدان التي كانت تظن نفسها محصنة وبمنأى عن الهزات وأن المال سيحل كل مشاكلها، داهم الخطر حدوها.
فالسعودية، التي كتمت أنفاس الحراك في البحرين وأرسلت جيش الانكشارية ليقمع المتظاهرين فيها بعد ان عجزت الحكومة البحرينية عن ايقاف تظاهر شعبها، بدأ الحريق يمتد اليها هي الأخرى، ولم يعد المال ولا الفتوى تؤتي اكلها فها هم الطيارون السعوديون يبدأون اضراباً ليومين وهاهم اهالي القطيف يستمرون في تظاهراتهم وهاهي الطالبات والطلبة في عدة مدن يعلنون العصيان..
لقد قلناها سابقاً ونذكر من جديد من لم يستوعب الدرس: لا تنسوا أن الايام دول يوم لك ويوم عليك.
كان من المفترض أن تبعث الدول العربية الخليجية الى اشقائها العرب بالبلدان الفقيرة ببعض من الاموال التي تهدر في ما لا يعني، لكن على العكس من ذلك قررت دول الخليج ان تصدّر الى أشقائها الازمات وتغذي فيها الصراعات والتطاحن وتشارك في تدميرها خدمة لاجندات معادية. لم يكن مستغرباً أن تصدّر صحارى حارقة لبقية بلدان شقيقة السراب ورياح السموم، فعلا كل اناء بما فيه يرشح.
Leave a Reply