محمد العزير
كنت في صدد متابعة الكتابة عن العربية وعمن يرتكبون في حقها الكبائر، خصوصاً على المواقع الدينية و«الإرشادية» على منصات التواصل الاجتماعي التي سهّلت الاستسهال اللغوي وعمّمت التسطيح والتشبيح الفكري وجعلت من حثالة القوم مشاهير لهم مئات آلاف المتابعين من المغيّبين الذين لا يزالون ينعقون مع كل ناعق.
في غمرة متابعتي لبعض المواقع أفاقت ذاكرتي على شخصية فذة وشجاعة تعفيني من الكثير من الجدل والسجال وتأخذني، مع من يشاء، إلى مربط الفرس، إلى السبب الرئيس للانحطاط. الشخصية هي المفكر المسيحي الألماني ديتريتش بونهوفر المولود عام 1906، والذي أعدمه المجرم النازي أدولف هتلر في التاسع من نيسان (أبريل) 1945 أي قبل ثلاثة أسابيع من انتحاره واستسلام المانيا.
يلخص بونهوفر معضلة تسلط الفاشية –مهما كان نوعها– في غباء الناس. ليس في منطق بونهوفر شبهة الفوقية أو النخبوية. يتناول المسألة كما هي؛ يقول في رسالة كتبها من معسكر الاعتقال الذي أعدم فيه:
«الغباء عدوٌ أكثر خطراً من الخبث. يمكن للمرء أن يدافع ضد الشر؛ يمكنه أن يفضح الشر، وإذا لزم الأمر يمكن أن يقاومه بالقوة. الشر يحمل في ذاته جرثومة دماره، لأنه يترك في الناس الشعور بالضيق. لكن لا دفاع لنا إزاء الغباء، فلا يمكن للاعتراض أو استخدام القوة تحقيق أي شيء هنا؛ يقع المنطق والعقل على أذن طرشاء، فلا يمكن للحقائق أن تُصدّق أمام الأفكار المسبقة. في هذه الحالة يصبح الغبي حاسماً –وعندما تكون الحقائق دامغة تتم إزاحتها جانباً باعتبارها غير مجدية وطارئة. في هذه الحالة يكون الغبي، على عكس الخبيث، راضياً عن نفسه وسريع العطب، ويصبح مصدر خطر لأنه مستعد للهجوم. لذلك ليس علينا أن نحاول إقناع الغبي بالمنطق لأن ذلك بلا معنى وخطر».
يضيف المفكر الألماني الشجاع الذي واجه بفكره وقلمه موجة العنصرية العاتية التي حوّلت مهرجاً مثل هتلر إلى شبه إله: «إذا كنا نريد أن نعرف كيفية مواجهة الغباء علينا أن نفهم طبيعته، ليس كونه خللاً ثقافياً بل لأنه خلل إنساني. هناك الكثير من الناس ذوي الثقافة المميزة لكنهم أغبياء، وهناك آخرون غير مثقفين يمكن وصفهم بأي شيء سوى الغباء. نكتشف ذلك ونتفاجأ في حالات محددة. يتكون هذا الانطباع ليس من كون الغباء عيباً خلقياً، لكن في ظروف معينة يتحول الناس إلى أغبياء أو يسمحون للغباء بإصابتهم. الملاحظ أيضاً أن الذين يعيشون في عزلة يظهرون هذا العيب أقل من الأشخاص والمجموعات التي تتواصل اجتماعياً. هذا يوحي بأن الغباء ليس ظاهرة نفسية وإنما ظاهرة اجتماعية لها مؤثرات تاريخية على البشر، حالة نفسية تواكب شروطاً خارجية. ويتضح من خلال نظرة فاحصة أن كل فورة سلطوية قوية في المجال العام، سواء كانت دينية أو سياسية، تصيب الناس بعدوى الغباء، ويبدو أن هذا هو القانون النفسي الاجتماعي. قوة الأول تتطلب غباء الآخر».
وفي وصف لا يزال صالحاً في العالم «المتقدم» الذي انتخب فيه شخصاً مثل دونالد ترامب رئيساً لأعرق ديمقراطية في العالم، مقدار صلاحيته في الدول «النامية» التي تحارب جماهيرها المسحوقة لصالح نخب متخمة وفاسدة، يتابع بونهوفر قوله:
«المسألة هنا لا تتوقف على القدرة البشرية الذاتية وفشلها أو ضمورها، على سبيل المثال، يبدو أن التأثير الطاغي للسلطة الصاعدة يحرم الناس من استقلالهم الداخلي فيتخلون طوعياً عن موقفهم المبدئي من الظروف الناشئة. لا ينبغي لحقيقة أن الشخص الغبي هو في العادة عنيد أن تعمينا عن حقيقة أنه غير مستقل. في الحديث معه لا يشعر المرء بأنه يتعامل مع إنسان، لكن مع شعارات وكلمات مؤثرة تسيطر على كيانه. يصبح الغبي الذي تملكته الشعارات والكلمات مسحوراً وأعمى ومنتهك ومعنّف، يتحول إلى أداة بلا عقل، ويصبح الإنسان الغبي قادراً على ارتكاب أي فعل شرير، دون أن يدرك أن ما يفعله شر. هنا تكمن خطورة سوء الاستخدام الشيطاني، هنا يمكن تدمير الإنسانية».
ويخلص بونهوفر قائلاً: «لذا، وفي هذه النقطة بالذات يصبح جلياً أن فعلاً تحررياً وليس تلقينياً يمكنه التغلب على الغباء. هنا علينا أن نتوصل إلى حقيقة أن التحرر الداخلي لن يكون ممكناً بلا تحرر خارجي يسبقه. وحتى ذلك الحين علينا الكف عن كل محاولات إقناع الشخص الغبي. هذه الوضعية تفسر لنا لماذا تذهب كل محاولاتنا لمعرفة ما يفكر به «الشعب» سدى، لأن السؤال نفسه خارج عن الموضوع بالنسبة للشخص الذي يفكر ويتصرف بمسؤولية. في الكتاب المقدس تعلن كلمة «رأس الحكمة مخافة الله» أن التحرر الذاتي للبشر لعيش حياة مسؤولة أمام الله هو الطريق الحقيقي الوحيد للتغلب على الغباء. لكن هذه الأفكار عن الغباء توفر أيضاً بعض المواساة لأنها تمنعنا عن افتراض أن الشعب غبي في كل الظروف. يتوقف الأمر في الحقيقة على ما إذا كان من هم في السلطة يريدون من الناس غباءً أكثر أو استقلالهم الداخلي وحكمتهم».
هذا كلام عمره أكثر من ثمانين عاماً، لكنه لا يزال صالحاً، وصلاحيته لا تقتصر على مجتمع دون آخر بصرف النظر عن الموقع والحجم وطبيعة النظام. كلام ينطبق على حكومات وديكتاتوريات وأحزاب وحركات وميليشيات. مصيبتنا الخاصة كعرب، وكعرب أميركيين أنها مصيبة بـ«جلاجل» على حد قول المأثور الشعبي المصري. مصيبتنا أن الغباء عندنا مقدس ومسلح ومفخخ ومؤخراً امتلك طائرات مسيرة ليفرض إرادته على من لم تصبه لوثة الغباء.
Leave a Reply